الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المستشفى والعالم

المستشفى والعالم
23 نوفمبر 2011 21:12
1 أحمد راشد ثاني a.thani@live.com غرف العناية المركزة في المستشفى تختلف عن غرف الحالات المستقرة (هنالك غرف أخطر وأكثر حساسية كغرف الحالات المستعصية والأمراض الوبائية)، فمريض العناية المركزة مهدد دوماً بسوء الحال، وبالانهيار وفشل العلاج، وبالتالي فهو مهدد، على الأقل افتراضياً، بالنهاية والموت. ولهذا فإن الأطباء المهمين أو لنقل الرئيسيين والفاعلين في المستشفى هم أطباء العناية المركزة، وممرضيه وممرضاته من الصفوة المختارة سواء من حيث التدريب، أو من حيث الترتيب. وبالتأكيد تحوي غرف العناية المركزة على أدوات وأجهزة طبية إسعافية وعلاجية أكثر وأهم من الغرف الأخرى العادية، غرف الحالات المستقرة. والنظام في غرف العناية المركزة يُطبق بما يقرب الحذافير. فالمريض عليه الالتزام قدر ما يمكن بالتعليمات، والزوار يأتون ويذهبون بحساب، والإهمال في هذه الغرف من قبل العاملين قد يعد في منظومة المستشفى الأخلاقية من قبيل الخطيئة. المريض في تلك الغرف كذلك ينال متابعة ومعاملة جيدة. وتكاد أن تكون طلباته أوامر، وتحركاته مؤشرات، وتأوهاته أجراس إنذار. وقد يدخل المريض الى هذه الغرف على كرسي وقد يخرج منها على كرسي، ولكنه كذلك قد يدخلها على سرير ويخرج منها على سرير. 2 عالم جسدك عالمين، عالمك المحدود، عالم جسمك حيث جمجمتك التي تشبه ثمرة جوز الهند يابسة، وعينيك المختبئتين في محجريهما كزعيمين عربيين هاربين، وأنفك الوارم في منتصف وجهك وشفتيك المدلوقتين كجرتين فارغتين، وقليل من الشعر أو كثير منه وقد ترمد من الأسى. هذا هو رأسك الذي يحمله جثمانك على الأرض، الذي تحمله كتفيك الهزيلتين، الواقفين كحارسي أبراج غابرتين على قفصك الصدري، ذلك القفص الذي يشبه “دوباية” قديمة، برزت عظامها على قلبك الضعيف ورئتيك المهترئتين وكبدك التي توشك على التلف. ثم ماذا يتبقى بعد ذلك؟ المعدة ومجاريها وتلك القدمين النحيفتين من أكثر ما ألتهمتها ظلال الطرقات. هذا هو جسدك الظاهر، جسدك الذي تراه مرآة الجداد، جسدك الفاشل في الهواء، جسدك الجلدي، المكسو بجلدك المتغضن، بمسامات جلدك المتكلسة، جسدك الممدد على السرير كعينة، جسدك النابض ككهف مهجور. تحت هذا الجلد كون لو تدري، تحت هذا الجلد مجرَّة تجري في هواء الدم، آلة تتحرك من احتراق فحم النبض. تحت هذا الجلد الطبيعة كلها بغاباتها وأنهارها وبحارها وسماواتها ويابستها، وقد وصلت الى الملخص من سيرتها، فالجسد الإنساني بلا شك يُغري أكثر من غيره بفكرة الخالق المبدع، فالمستحيل حدث فعلاً، إنه تحت جلدي. إنني هناك أيضاً في الكون، تماماً كما أنا تحت جلدي. إن موسيقى حركة المجرة تحت جلدي هي نفسها موسيقى حركة المجرات في الكون. إن جسدي ليس قربة نفخ فيها أحدهم كي تكون موسيقى فرعية، إن جسدي متى ما تنفس بصحة وعافية وطبيعة فإنه يتنفس مع الكون، وكما يتنفس الكون. 3 خروج المريض من غرفة العناية المركزة، انتصار ما للأطباء والممرضين وللعاملين في هذه الأقسام القريبة من الغرف السرية، من الغرف التي تنطوي على أسرار وتتعامل مع الخطر وتشهد دوماً أحداثاً كبيرة، أو لا تنسى. أحداث حافية، على الحافة، على الحواف. أحداث كالموت بكل جلاله السحيق، وأحداث كولادة حياة أو تجددها، بكل ما ينطوي عليه ذلك من دفق مائي مبهج. دفق من الماء الأكثر غبطة وقد نزَّ في قماط الوجود. خروج المريض، من تلك الغرفة، انتصار للحياة. فلقد هُزم المرض، وانسحبت جيوش قوى الجسد الظلامية المميتة من فيروسات وسواها من أرض المعركة. وخرج المريض كي يواصل حياته على الأرض شاكراً كل من ساعده على تخطي الألم، وقوَّى ممانعات جسده وتحصيناته، وسد تلك الشقوق التي بدأت تظهر على جدران روحه، شقوق القلق على الحياة. على الوجود في الحياة على المشاركة في العرض المسرحي الهائل للعالم. 4 العالم الذي تفتح مشهده في رأسك وتغلقه، من يستطيع إغلاق مشهد العالم في رأسه؟ هل أحد يستطيع ذلك؟ ينسحب تفكيرك من التفكير في العالم ولكن هل ينسحب فعلاً. يخفت، ولكن هذا الصرير الذي يطن في رأسك عن ماذا وحول ماذا، عن جانب في العالم أليس كذلك؟. إن إغلاق مشهد العالم عن مسرح رأسك وركحه لا يحدث إلا بالموت، بتوقف النبض والانقطاع النهائي للأنفاس. كيف تفكر بالعالم أثناء الصحة، كيف تفكر بالعالم أثناء المرض، كيف يفكر بك العالم؟ أي عالم تعيشه في كلا العالمين، أي عالم تعيشه في كل لحظة؟ أليس لكل لحظة من لحظات حياتك عالمها، لكل نبض، لكل نَفسٍ؟ أليس جسدك العظيم بقدرته تلك على الخفقان هو ما يخلق عوالمك ويمحيها؟ الذي لا تعرفه والذي عرفته عالمك. ما لم تعرفه عالمك أكثر مما عرفته، الذي رأيته والذي لم تره عالمك. عالمك أكثر ما لم تره. الذي سمعته والذي لم تسمعه عالمك. عالمك أكثر ما لم تسمعه بعد. الذي عشته والذي لم تعشه. عالمك فيما لم تعشه، ولم تجده ولم تحلم به ولم تنله ولم تلقاه. عالمك هو العالم بعد لحظتك هذه. وعندما لن تكون لديك لحظة من جديد، فإنه لن يكون لك عالم، ستكون خارج العالم، أين ستكون؟ هذا السؤال لا مبرر له. لقد انتهت الأسئلة، ولم يعد هناك كون. 5 أين ستكون؟ الى أي غرفة سيأخذك هذا الكرسي المتحرك، الى أي غرفة من “غرف الشعب”، أو كما عدت تُسمى تلك الأقسام التي يُنقل إليها المرضى بعد خروجهم المظفر من العناية المركزة. فنادراً ما يجد المريض غرفة خاصة به، فأغلب الغرف في تلك الأقسام مشتركة مع مريض آخر. وبقدر ما للمريض ميزاته أو تميزه فإن للصحة عيوبها، هكذا ستفتقد تلك الوحدة والخصوصية التي كنت تتمتع بها في المركزة، وليس بإكانك طبعاً اختيار زميلك في الغرفة. ثرثار تحمل. دابة شخير تحمل. زواره مزعجون، يتدخل في شؤونك الخاصة، شكّاء، صامت، حفلة أوجاع، أياً كان تحمله، فهو مريض مثلك، لكما الحقوق نفسها وعليكما سقف المستشفى نفسه. ولا يفتقد المريض في “غرف الشعب” الخصوصية فحسب، وإنما كذلك الرعاية والاهتمام الذي كان يتلقاهما في المركزة، من أرق الممرضين وأجمل الممرضات. أما في هذه الغرفة فتعشش أكثر الممرضات سناً، المحنطات في التعامل مع أسوأ الحالات الإنسانية، ففي الصباح وأنت غافٍ، قد تهجم على عالمك الطري ذاك ممرضة من ذوات الأنياب، وتغرز الإبرة في ذراعك كما تُدق المسامير، وتنهرك لهذا السبب أو ذاك كما ينهرون الأطفال في الطرقات. نمت، لم تنم. منزعج غير منزعج، متألم أو تقيم باربكيو ضجر متقد على سريرك، ذلك ما لا يهم أغلب أولئك الممرضات اللواتي قضى على حياتهن الروتين، وغياب إيمانهن الكافي بذلك الاسم الذي أطلق عليهن ذات يوم: ملائكة الرحمة. فمن تلك الملائكة من عنست بين أولئك المرضى المتطلبين، ومنهن من عوملت كخادمة مستشفى، ومنهن من شاخت ويئست من الصحة بعد أن يئست قبل ذلك من الموت. الموت خبر وجلبة في هذه الأقسام، أما الصحة والتعافي والخروج من هذا المنتجع الرمادي فأمر لا يكاد يلفت أحد. ولا يعود ذلك لكون هذا الطاقم التمريضي قد اعتاد ولسنين على التعامل مع المرضى. ثمة مشاعر دفينة ونفسية لدى أهل التمريض تدفعهم الى الميل نحو الحالات الخطرة من تلك المعافاة أو التي تقترب على التعافي. عند الحالات الخطرة هنالك حركة، هناك “أكشن”. هنالك مخاطرة، وهنالك إثبات للخبرة وللحنكة. وهنالك إثبات للذات، هذا لا يعني أن الممرض لا يسعد عند هذه الحالات بالنجاح، وإنما كذلك بالفشل. وداخلياً وسرياً لربما يُسعد بالفشل أكثر مما يسعد بالنجاح. الفشل جهد واضح، جهد مقدر، أما النجاح فجهد ضائع ولقد تعب الممرضون على ما يبدو من رمي جهودهم النبيلة في بحر النكران. وفي القسم الذي أخذني إليه الكرسي المتحرك وجدتني أدخل الى ما يشبه القطار الساكن، أو الذي ضاع في الصحراء واستقر في حفرة. ممرين طويلين تقع على جنبيها عشرات الغرف، وفي الوسط توجد ما تشبه الكبائن تضم مكاتب واسعة للموظفين والمشرفين على التمريض، تزدحم هذه الممرات في فترات من النهار أو الليل، وتتحول الى ممرات يتيمة في فترات أخرى. قطعة من العالم مثل هذا القسم وتجد نفسك فيها بلا سفر، حقاً هي قطعة من العالم المعتاد، ولكنها غير ملتفت إليها، لا تعرفها حقاً. وتفضل أن تنساها، أن تنتهي من تفكيرك بمجرد الخروج منها، ولكنها ستظل باقية هناك في مكانها بانتظارك، أو بانتظار غيرك. 6 عالمك هو الوهم الذي يملأ رأسك، هو رأسك الذي لا تستطيع الخروج منه. عالمك الذي يستيقظ قبلك في الصباح، ويسبقك الى المرآة، ويغسلك (فمن عالمك، من أهم ما في عالمك، كيفية الاغتسال)، ويغتسل معك، ويلبسك، أو يلبس لبسك، أو تلبس لبسه وتنزل كي تشرب أو تأكل من يديه، ثم يذهب بك عالمك الى العالم الذي يعرفه، العالم الذي يعمل عنده، أو الذي يعمل معه، أو الذي يعمل فيه، العالم الذي اعتاد، الذي يشرب معه الشاي بشكل شبه يومي، ويمارس النميمة، ويقوم كي يدبج بضعة أوراق. ثم ينتهي عالم الوظيفة، كي يبدأ عالم ما بعد الوظيفة. عوالم تشبه البالونات التي قد تكون، قد تعتقدها أحياناً طائرات ورقية، ولكن سرعان ما تنقطع الخيوط بك، فيراودك عالمك السري، عالمك الآخر، والذي لم يكف حقيقة عن مراودتك. في حلم البارحة، في الضحكة الجميلة لتلك المرأة التي أشاحت بنظرها عنك، وفي الهواجس العدمية الدميمة التي لطالما هاجمت هدناتك مع الخارج، وفي بكتيريا الشغف التي تملأ قيعان روحك وتجعلك تصنع معطف العالم المعهود على كرسيك، وتبدأ في تذوق الخراب، الخراب الذي صاحبته وصاحبك كما يتصاحب الأصحاب، الخراب الذي أخذك الى أبراج النعم للعالم وأنزلك الى أخاديد عقاب من قال لا، أو لم يتب عن ولعه بإشعال أعواد الكبريت في غرف الدم، وانتظار الصباح كعاهرة أكلت وجهها المساحيق. 7 نعبر الشوارع ونصادف في طريقنا المستشفى، مبنى كأي مبنى، وحين ندخله، ندخله مستعجلين، إما للعلاج من أمراض بسيطة، أو لزيارة أحد مرضانا، أما أن نعرفه من الداخل كمجتمع، أن نواصل معرفته فذلك أمر صعب على نفسيتنا، وحتى الذين أقاموا منا في المستشفى لعدة مرات أو لفترات طويلة، فإنهم سرعان ما يحاولون تناسي ذلك المكان، هو والمجتمع الذي ينطوي عليه. وهذا مفهوم جداً، فالضعف الإنساني ورغم حديثه المستمر عن الموت، إلا أنه يحاول تجاهله باستمرار، بل إن ذلك الحديث والمعتمد دوماً على صيغ تعبيرية معهودة يُكرس ويغذي ذلك التجاهل. الموت الذي هو في الحقيقة رفيقك. إن مجتمع المستشفى هو خليط بين مستقرين (موظفين) وعابرين (مرضى)، وهذا التداخل يجعل المستشفى أقرب ما يكون الى المحطة، إلا أنها محطة استثنائية وذات طبيعة خاصة. فأنت في تلك المحطة، أو تذهب إليها بلا أية رغبة في السفر، إذ الى أين ستسافر منها، هل الى الموت، الذي تكرهه، أو في أقل الأحوال تتجنبه، ولذلك فهي محطة تُجبر وتقاد إليها، إنها محطة لزوم، ورغم جوهريتها فإن ذلك ما يجعلها دوماً في مقام النسيان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©