الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تنقيب في متاهة التغاضي

تنقيب في متاهة التغاضي
6 مارس 2008 03:11
لعلّ هؤلاء الذين ذكَرْنا أن يكونوا، إذن، أهمَّ مَن نشروا شعراً جيّداً، أو مقبولاً على الأقلّ، في العِقْدين الأوّل والثاني من القرن العشرين، وذلك قُبَيْلَ قيام النهضة إثْر انتهاء الحرب العالميّة الأولى التي بدأت ملامحها تتشكّل منذ أواخر العِقد الأوّل· ولعل الذي كان له الفضلُ كلُّ الفضل في تسجيل بعض هذه الحركة الشعريّة البسيطة، على كلّ حال، وتخليدها في صفحات التاريخ، جريدتان اثنتان: الفاروق الذي تأسست سنة 1913 وتحوّلتْ بُعَيد الحرب العالميّة الأولى إلى مجلّة لا نعرف عنها شيئاً كثيراً، فهي لم تُعَمَّرْ إلاّ قليلاً، وجريدة الإقدام التي تأسست سنة 1919؛ ففي هاتين الجريدتين الوطنيّتين عُرفت الأشعار الجزائريّة في الخمُس الأوّل من القرن العشرين· فحتّى الأشعار التي نُشرت، فيما بعدُ، في كتاب شعراء الجزائر، في العصر الحاضر ، كان بعضها قد نُشر في جريدة الإقدام مثلاً··· شح في المصادر الحقّ أنّ الذين تحدّثوا عن هذه الفَترة من الكتّاب ومؤرّخي الأدب الجزائريّين لم يتحدّثوا عنها إلاّ بشُحّ شديد، وبسوءٍ واضطراب في الإحالة والتّوثيق، أو سكوت عن الإحالة على المصادر التي استقَوْا منها أصلاً؛ مما يبرهن على وجود نقص مُزْرٍ في المعلومات والنصوص معاً؛ فقد تحدّث عن هذه الفترة، مثلاً، أبو القاسم سعد اللّه، ومحمد الطّمّار، وصالح خرفي، وعمّار طالبي، والربعي بن سلامة وأصحابه الثلاثة، وعبد اللّه ركيبي، ومحمد مصائف، ومحمد ناصر، وعبد الملك مرتاض، فما مِن هؤلاء جميعاً إلاّ مَن جَهَدَ في أن يقدّمَ دراسةً على نحو ما، أو ينهض بجمعٍ لهذا الشعر وتدوينه، ولو على هَوْن ما: ولكنْ بما لا يَبُلُّ الصَّدَى، ولا بما يُرْوِي الظَّمَأ· غير أنّنا لا نريد أن نطالب المؤرّخين الجزائريّين بأن يختلقوا معلوماتٍ عن شعراءَ لا وجود لهم في التاريخ اختلاقاً، ولا أن يُنْشِئوا وجودَ نصوصٍ شعريّةٍ من عدمٍ إنشاءً؛ فنحن نعذرهم ونتفهّم موقفهم الصادرَ عن انعدام الظّفر بالمعلومة التاريخيّة، أو شُحِّها··· وأمّا عادل نويهض في كتابه معجم أعلام الجزائر من صدر الإسلام حتى العصر الحاضر ، وهو عنوان ضخم فخم، وطويل عريض؛ فلا يعني إلاّ أنّه لا يقدّم شيئاً ذا بال عن موضوعه بحكم امتداد الزمن فيه، وقلّة الزاد له؛ ثمّ بحكم صعوبة الحصول على المعلومات التاريخيّة الْمُسْعفة، وافتقار مثل موضوع هذا الكتاب إلى فريق من الباحثين، لا إلى باحثٍ واحد مهما يُؤْتَ من الإرادة والقوّة··· مما جعل هذا الكتابَ يُهْمل كثيراً من أعلام الثقافة والأدب في الجزائر· وأمّا إن تحدّث عن مشاهيرهم، فهو لا يضيف جديداً لِمَا هو معروف مشهورٌ بين المستنيرين، بل كان ربما أخطأَ لدى ذِكْر المعلومات المتمحّضة للأعلام، وذلك بالعَمْدِ إلى الاختصار الشديد الذي التزم به مؤلّفُه في تقديم هؤلاء الرجال؛ ذلك بأنّه لم يكن يكلّف نفسه عَناء البحث عن نصوص شعريّة للشعراء، ولا عن نصوص أخرى نثريّة للكتّاب، لدى كتابة ترجماتهم، ليقدّم نماذجَ منها للقرّاء، كالتقاليد المألوفة في كتب التراجم المعروفة منذ القِدم؛ ولكنّه كان يجتزئ بتقديم معلومات ناشفةٍ حافيَةٍ عن حياتهم؛ حتّى كأنّهم ليسوا إلاّ مجرّدَ عمّال في بلديّات مُقْفِرةٍ من قَطِينِها!··· أم أليس الذي يعني الناسَ من حياة شاعرٍ من الشعراء حين يُذْكَر إنّما هو نصوصٌ من شعره قبل حياته في حدّ ذاتها؟··· ومع ذلك فعملُ هذا الفاضل مشكورٌ على ما أسهم به في التعريف برجالات الجزائر في بلاد المشرق العربيّ، ولو على هون! البحث عن المعجزة في سياق الحديث عن شعراء الجزائر في القرن العشرين دون ما قبله، لا مَناصٌ، من التوقّف قبل فترة النهضة، لدى هذه المرحلة الْمُسْتَمِيزة بضحالة النصوص الشعريّة، والفقيرة من أخبار الشعراء الجزائريّين الذين كانوا يعيشون فيها، والمتّسمة بغموض الحياة السياسيّة الوطنيّة فيها؛ وكأنّ العِقْدَين الأَوَّلَيْن من القرن العشرين كانا بمثابة إرهاص فكريّ وأدبيّ وسياسيّ لانطلاق النهضة الحقيقيّة الشاملة، التي بزغ نورها غداة انتهاء الحرب العالميّة الأولى··· أيضاً لا بد من التوقّف لدى مجموعة قليلة من هؤلاء الشعراء آملين أن تحدث معجزة تاريخيّة فيقع الكشْف عن شعراء جدُد، هم في الحقيقة غيرُ موجودين أصلاً!··· فلنجتزئْ إذن، بما هو كائن ونستسلم لليأس الْمُريح! ولنسلِّمْ بأنّ الاستعمارَ أفلح في نفْض عقول الجزائريّين وتعطيل مواهبهم، على ذلك العهد، من كلّ تطلّع إلى الإبداع العظيم· لقد كان شرّد المثقَّفين فمزّق شملَهم كلّ ممزَّقٍ، فشالَتْ نعامتُهم، كما تقول العرب! فأصبح الدارس أو المؤرّخ يبحث عن شاعر، وخصوصاً من لدن سقوط دولة الأمير عبد القادر في أواخر العِقد الخامس من القرن التاسع عشر، إلى مطالع القرن العشرين، بالقنديل تحت الشمس فلا يُلفي له شخصاً، ولا يسمع له حسّاً أو رِكْزاً· لقد أخرس الاستعمار الفرنسيّ الألسنة فانعقدتْ، وجفّف القرائحَ فتعطّلتْ، وأفسد العقول فتبلّدتْ··· فلا شعرَ ولا نثرَ ولا تأليفَ ولا تفكيرَ!··· مساوىء الاستعمار إنّا نشكو إلى اللّه ما فعلتْ فرنسا بالجزائر!··· فليس للضعيف إلاّ أن يشكي ويبكي! وإلاّ فكيف يمضي على أمّة من الأمم، وهي تعيش النصف الأوّل من القرن العشرين، فلا يكتب شعراؤها ديوانَها، ولا مؤرّخوها أيّامَها، ولا نقّادُها إبداعَها؟!··· فتاللّهِ إنّ المرءَ لَيذْرِف الدموعَ على هذا الوضع المؤلم تَذْرافاً، ويتجرّع نُغبَ التَّهْمام أنفاساً؛ فبينما كان الناس مشرقاً ومغرباً يكتبون أدباً، ويُنتجون معرفة، نجد رجالاتنا، في تلك الفَترة المظلمة بظلم الاستعمار الفرنسيّ الشّرّير، قُصاراهُم أن ينجُوا بأنفسهم، وأن يُشْبعوا بطونَهم وبطون أطفالهم من خبز الشعير··· فكانوا يلتمسون ملذاتهم في أعماق الأودية السحيقة، وقمم الجبال الشاهقة لعلّهم أن يُفْلتوا من القبضة الشِّرِّيرة للاستعمار الفرنسيّ الذي كان كثير التلذّذ باضطهاد الجزائريّين، ولكنّ تلذُّذَه كان يزداد حين كان يحسّ أنّه وقع له صيد أو فريسة، من رجال يَحْذِقون القراءةَ والكتابة باللغة العربيّة!···
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©