الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين الفكر والفرجة من يصنع الفارق؟

بين الفكر والفرجة من يصنع الفارق؟
8 نوفمبر 2012
لماذا نذهب إلى المسرح؟ عندما نذكر كلمة “مسرح” قد نفكّر في نوع خاص من الترفيه أو المتعة أو نوع مختلف من المشاهدة، أو قد نفكّر في مبنى معيّن مرخّص به رسمياً من قبل جهة ذات صلة بالثقافة، لنتمتع بين جدرانه بهذا الترفيه الذي ننشده ونأمل أن نقضي “سهرة ممتعة”، فقد نبتهج ونطرب أو نضجّ ضحكاً، ونهرب بضع ساعات من مهام العمل وضغوطات الحياة التي لا تتوقف، بل قد نتعرض لموقف معروف، هو أن يحدث لنا غرض الدراما (التطهير) أو (الكثارسس)، قد نتطهّر من جراء تأثرنا بالرحمة والفزع من مصير الأبطال. أحمد علي البحيري إننا لم نعد نتردد على المسرح لنعبد الآلهة كما كان يحدث في العصور الغابرة، أو لنخزي أعداءنا، أو نستجلب الخصوبة لزوجاتنا، أو لننشط من نمو الفاكهة في مزرعتنا، ومن تسوّل له نفسه أن يطالب شبّاك التذاكر بما دفع من ثمن لدخوله المسرح، على أساس أن المسرحية التي قصدها بغرض المتعة لم تحقق له غرضاً من هذه الأغراض، سيعتبر بحق في هذا الزمان معتوهاً، أو قد مسّه طيف من الجنون والخرف. هل نذهب للمسرح من أجل متعة ممزوجة بالمعرفة والثقافة، أم لكي نرى أنفسنا وحالنا في شخصيات العرض المسرحي؟ أم لأن المسرح هو المكان الذي نجد فيه ذواتنا ولا يقيدنا أحد فيه للتمتع بخيالنا الممتزج بخيال العرض المسرحي؟ قد يجوز للمرء أن يصحب نظرته إلى هذه الأشكال من حيث أنّ المسرح في زمن ما، وعند أمم مختلفة قد خدم أحد تلك الأغراض التي أشرنا إليها، بالدهشة والشّك، إلاّ أن هذا لا يقلل بحال من حقيقة الأمر، فالمسرح مثله مثل الفنون كافة (بل المسرح هو كافة الفنون وعميدها) ترجع نشأته إلى السّحر، أي إلى محاولة التأثير على الطبيعة بقوة إرادة الإنسان، وإحالة الأفكار إلى أشياء ملموسة في عمقنا الروحي. ومنذ سنوات ليست بالكثيرة أخذت كلمة “سحر” تفهم على أسس اعتبارية جديدة. الأنثروبولوجيون المحدثون، على سبيل المثال، لم يعد أحد منهم يتجاوب مع جيمس فريزر، حتى الأخذ بزعمه بأن السحر “مجرد علم خاطئ”، فأبحاث فريزر سابقة لاكتشافات التحليل النفسي التي غيّرت من معلوماتنا عن الفكر الهمجي، وأما عن إهمال ما عرف عن القرن التاسع عشر من ميل عقلي، فكفى أن هذا المذهب قد حطّم المادة التي كان مأمولا مفروضا أن يتناولها بالبحث والاهتمام. في دنيا الذكاء المحفوظ (المعلّب) على حدّ تعبير يونج لا فاعلية للسحر، إنما هذا الانفصال لكل ذهن فردي على حدة ظاهرة حديثة نسبياً، فيما تمكننا نظرية نورثن “اللاوعي الجماعي” من تأمل هذه المسألة في ضوء فهم جديد. فن المحاكاة في العادة يكون السّحر عن طرق (فن المحاكاة) أكثر فاعلية إذا ما تضمن مجاله أكثر من فرد واحد، فمجمع من الناس أكثر انفعالاً من مجرد مجموعهم، فحين تقوم القبيلة كلها بأداء حركات محاكية لما هو موجود في الطبيعة، حينها تصبح الحركة حتماً (إيقاعية)، أي أنها تصبح رقصا، وبهذه الكيفية تتضاعف فاعليتها. يقول هامبلي أنّه ينجم عن الرقص حالة تبلغ فيها الوحدة والانسجام والتوافق حدا أقصى. إن البدائي في كافة أزمات الحياة لا يعرف للرقص بديلاً. وفي رأي سير ر. ماريت: إن الديانة القديمة كانت في جوهرها “شيئا يرقص”. في حين رأى أرسطو في كتابه “فن الشعر”: إن الشعراء لا يحاكون المظاهر وإنما يحاكون الطبيعة العالمية، بعكس المؤرخين الذين يتعاملون مع المحدودات الخاصة، لهذا فالفنون هي وسائل للمحاكاة الفنية التي لا تلتزم بحرفية الطبيعة، وفي سياق تعريفه للمأساة ذكر أرسطو بأنها “محاكاة لفعل” عن طريق استخدام الشخصيات والكلمات والموسيقى والمنظورات المسرحية. أما كتاب الرومانسية فقد اعتقدوا مفهوماً آخر للمحاكاة، وهو أن العملية الفنية عبارة عن عرض مثالي للحياة الإنسانية، وبظهور مذهبي الواقعية والطبيعية تأكد مفهوم المحاكاة بأنه تصوير صادق للحياة البشرية. ولا شك في أن مدلول المحاكاة في الوقت الحاضر لا يثير المناقشة، ولا يستحضر في ذهن الباحث، غالبا، غير المعنيات الأرسطية. وقبل أن نبلغ طور الدين ـ بمعنى أنّه مجموعة عقائد تخص الآلهة ـ قد نجد الرقص يؤدي إلى ظهور اللعب وهطول المطر، وزيادة النّسل، على أن المحاكاة لا تقتصر على مجرد الحركة، أو الوضع الساكن، فمثلا نجد إن السكان الأصليين في أستراليا يحاكون قفزات ووقفات الكنغارو على حد سواء، كما نجد أن البدائي كان يسعى، فيما يبدو إلى أقرب تشبّه “تقليد” ممكن بالحيوان الذي يرغب أن يؤثر عليه. مقومات السحر بالمحاكاة كثيرة، فالأشياء التي تشبه أشياء أخرى يمكنها أن تؤثر على هذه الأشياء الأخرى، بل هي في الحقيقة نفس الأشياء الأخرى. إنّ الماء المتدفق من آنية (صانع المطر) لا يرمز إلى المطر وحسب، بل هو على نحو خفي المطر عينه. إن الإنسان الذي يقلّد حركات الثور في سبيل استدراجه إليه في الصيد حتى مدى الإصابة، هو الثور نفسه، وعلى حد تعبيرنا المسرحي الحديث: قد ارتدى جلد ثوره، أو لبس وتقمّص دوره. كان يحدث هذا حرفياً في الأزمنة البدائية حيث ينزع البدائي جلد فريسته في الصيد، ثم يرتديه وهو يتوق لو تمكن أن يدخل رأسه في جلد رأس الحيوان، لكن هذا البدائي لم يكن خبيراً في “تصبير ـ تحنيط” الحيوانات، الأمر الذي جعله يحفر في الخشب والأغلفة النباتية رؤوسا يرتديها، أو بعبارة أخرى يخترع “القناع”، وهو أول الاكسسوارات المستخدمة في المسرح القديم، وهو عبارة عن غطاء مشكّل، مرسوم، يثبت على وجه الممثل (اللاعب) ليخفي ملامحه الأساسية في سبيل إعطاء نفس الإحساس بملامح أو هيئة أخرى لإنسان أو حيوان، أو طير، وكما يحدد القناع الملامح الأساسية للشخصية المؤداة، فهو يحدد أيضاً السّن، والطبقة الاجتماعية، والمزاج العام، ولكن على وضع ثابت، وقد استخدمت الأقنعة في الطقوس الدينية عند الإغريق وغيرهم سواء في الاحتفالات الدينية أو دراما المسرح في مرحلة لاحقة. الدراما السحرية نفهم مصطلح “التعارض الوجداني” من خلال وضع يدنا على صورة سحيقة في القدم لأناس تنكروا في زيّ حيوانات في سبيل استدراج الفرائس الحقيقية لقتلها. هذا التعارض أو التقاطع الذي لم يكتشف أمره إلا حديثا على يد فرويد يبدو واضحاً في الصورة أو المشهدية للبدائي وهو يتقمّص شخصية الحيوان الذي يعقد نيته على قتله، وللتو تصبح فريسته أصدق صديق له، أي أن شعوره بالفزع عقب عملية الصيد، يوازيه ويقابله شعور بالذنب، وهكذا نصل إلى ما عرف حديثا بـ(الدراما السحرية) التي يدخلها عنصر الشفاعة والاستعطاف والاستمالة، فالدراما تبدأ بمجرد ارتداء الناس أزياء وقيامهم بأدوار، ليست هي أزياءهم وأدوارهم. هل كانت هذه بداية لظهور الزّي المسرحي؟ أو بداية ثانية لفتح الباب أمام (القصة/ الأسطورة) للظهور؟ ونعني بذلك أننا أصبحنا أمام نوع جديد يباين ما بين (مجرد الحركات المحاكية الإيمائية) وما بين الأسطورة (القصة) التي تجمع بين الطقوس والشعائر، ولسنا هنا بحاجة إلى تأكيد مثل هذا الأمر بالنسبة للتطورات اللاحقة، نعني بالنسبة للدراما الإغريقية (المسرح اليوناني)، ومع ذلك نكون قد بلغنا من خلال المرحلة الاحيائية (طقساً درامياً) يكون فيه الزّي المسرحي قد بدأ انطلاقته الاحتفالية، متصورين ذلك في عالمنا الحديث، فإنه لا يخوّل لأحد المشاركة البارزة في حفل ما إن لم يكن مرتديا الرداء اللائق المناسب، بما يشي ضمنا بدءا من طقس البدائي القديم، مرورا بفترات متتالية من الرعوية المنعزلة إلى حياة التأمل على الأرض، ومن ثم حياة الزراعة والنمو، أن الزي المخصص، كان أسبق بكثير من “المكان المسرحي المخصص”. أول شكل للمسرح إن (الاحتفال) في العصور المختلفة، هو الصورة التي تمثل وترمز إلى (الطقس الدرامي) المتضخم النتائج سواء بالنسبة لتاريخ الأديان أو لتاريخ المسرح، ولعل مكان حصد ودرس القمح (الجرن) كان أول مكان يخصص للمسرح، وفي هذه الحالة كم يبدو طبيعيا أن يدفن الملك، وهو روح القمح، قريباً منه، فالملك حتى بعد الموت يواصل تأثيره على الأحياء، وهكذا حيال مقبرة تجاور مكانا مستديرا من الأرض الممهدة نكون قد اهتدينا إلى الشكل الأساسي للمسرح الإغريقي البدائي. التطورات اللاحقة تجعل من هذا الوقوف على أطلال هذا الشكل الأولي للمسرح، موحياً ملهماً للغاية، فيما كانت المداخل الكبيرة أو الصغيرة هي المكان المتعارف عليه لتؤدى فيه الشعائر الدينية، وغالبا بالقرب من مقبرة الملك أو قصره، ثم أخذت الهياكل تتطور في شكل مبان حجرية تشبه قصر الملك أو قبره، الشّبه الكافي لأداء الأغراض الشعائرية، بالإضافة إلى بناء هيكل زائد (أوديتوريوم) ـ أي مساحة مقابلة للهياكل ومسوّرة مخصصة لغير المؤهلين وغير المصرح لهم، وقد تصبح معبدا أو مسرحاً ـ ولهذا لم يكن من قبيل الصدفة أن يقام أغلب تمثيل المأساة عند مدخل القصر أو المعبد. نستشف من ذلك أن المسرح وهو حتى في شكله البدائي كان له جمهور بفئات متعددة، ومصنّفة بحسب الرتبة الدينية أو الاجتماعية، لكنهم جميعا يعيشون حالة وطقساً واحداً يتمثل في عنصر الفرجة الممتزج بالدهشة. لقد خطت الدراما الآن خطوتين هامتين: وفّقت إلى مكان مستقر، وبدأ الفصل بين من يشتركون في الحدث الدرامي، ومن يشهدونه فقط، وإذا كان الممثلون في مرحلة السّحر هم جميع الناس، أفراد القبيلة كافة، والمسرح هو الدنيا وفضاءها، ففي مرحة الدين ينفصل المشتركون عن المشاهدين، ليكون المسرح (مكاناً مقدّساً) وإن لم يصبح المشاهدون بعد جمهوراً مسرحياً بالمعنى والدلالات التي نعرفها اليوم في مسرحنا المعاصر. مثلت (الجوقة) في تلك المرحلة من الفن أخطر ما في جوهر هذه الحالة، فقد كانت همزة الوصل الرئيسية بين المشاهدين والممثلين، وبعيدا عن التفصيلات التاريخية وما آلت اليه الجوقة وتدهور أحوالها ليحل مكانها أشكال كثيرة من التعبير، ما بين فن الراوي وعنصر المونولوج الداخلي النفسي، وأشكال ومتغيرات على مفاهيم تركيب الشخصيات، وتأثيرات البطل الدرامي، الذي أصبح في المسرح الحديث في متناول يدنا، كشخص عادي يجسد أحلام أناس عاديين، بعد أن كان في فترة ما يمثل الاهتمام بذوي المكانة العليا من الشخصيات والآلهة. إن دورة الفن تعبر عن نفسها، بطريقة يمكن وصفها بانسحاب الممثل، ففي أقدم الأزمنة كان كل فرد ممثلا، ولا تفرقة بين الممثل وباقي القبيلة، والدنيا هي المسرح.. ماذا حدث بعد انسحاب الممثل من هذا التكوين الاحتفالي الجمالي؟ أصبح لدينا حالة انفصال يلعب فيها الممثل أدوار الجمهور (الشخصيات) فيما يتطلب من الجمهور الحكم على أداء الممثل وشخصياته، فيما كانت منصة التمثيل مكاناً مقدّساً مهيباً، وكان الحاضرون نوعين: مؤدين ومريدين، أما المنصة فكانت هي المسرح، ولا يفصل بين الممثلين والنظارة سوى خليج مجازي (الستارة في مسرح اليوم) معنوي، فيما تختلف هذه المعادلة في حاضرنا، فقد تفصل بين الممثل ومشاهديه آلاف الأميال، بعد ثورة المعلومات، حيث بإمكاننا مشاهدة عرض مسرحي يقام في أمكنة بعيداً عنّا جغرافياً بأميال كثيرة. وهنا تقع مسؤولية كبيرة على كتاب المسرح في استعادة الجمهور والبحث عن طرائق لجذبه، مستذكرين في هذا الجانب الكاتب الشهير شكسبير الذي ابتدع لجمهوره الساحرات “الملك لير”، والأشباح “هاملت”، كما ابتدع فكرة الشخصية الوطنية “روميو وجولييت”، وأشياء ومهمات مسرحية لم يسبقه اليه كاتب من قبل، ونجح أيما نجاح في استقطاب الجمهور الذي كان فيما سبق لاهيا، يمارس حياته اليومية، وهو يشاهد المسرحيات دون تركيز ودون متعة المشاهدة المنشودة من فن المسرح. ما قدّمه شكسبير لهذا الجانب المهم قد يفوق إبداعه الكتابي الخالد، وعلينا أن ننظر إلى هذا الأمر باهتمام بالغ، فإذا لم يكن ارتياد المسرح واجباً لنيل المعرفة، فليكن على الأقل واجبا للمساهمة في فن الجماعة التنويري، لعكس حالة حضارية عن عمق وروعة ورسالة وهدف هذا الفن العظيم. في المراحل الأخيرة من تطور المسرح وعلاقته بالمتفرج، ثمة متغيرات هائلة، فقد كان المسرح قديما عبارة عن فضاء مطلق (مسرح الهواء الطلق)، وفيه الممثلون يهيمنون في شموخ وهم يؤدون أدوار الملوك والآلهة وقادة الحروب العظام، ولك أن تتخيل جمال المآسي الإغريقية التي نهلت منها كل مسارح العالم وما زالت حتى يومنا هذا، حينما كانت الجوقة تصف مناظر الدم والقتل والخيانة، دون أن تظهر للعيان خشية من خدش الحياء العام (مسرحية “أوديب ملكا”)، فيما نرى في مسرح اليوم كل الوان هدم الجانب النفسي والروحي بحجة تطبيق مبدأ الواقعية في التجسيد، حتى انبرى كثيرون من الشباب يفضلون السينما على المسرح، ولعل أحد أسباب ذلك ما في السينما من اتصال وثيق، أي يتحد الممثلون والمتفرجون انفعالياً من خلال فنون الإبهار والإدهاش وفن الصورة. نعم لقد أتمت العجلة دورتها، ونتيجة لخطأ ما تفوقت السينما على المسرح، إلا أن السينما من أسف ولسبب طبيعتها الخاصة لم تستوعب بعد رغم أحدث تقنياتها (الفيلم ثلاثي الأبعاد) سوى واقعية متخلّفة الطراز، فلكي تتخطى مرحلتها الانتقالية، وهي مرحلة (علم نفس) غير ناضجة، بل مرحلة دعاية أقل نضوجا، ولكن تجد نفسها في مرحلة هي تركيب من سحر جديد حديث، عليها أن تصبح على بيّنة ويقين من كافة إمكانيات الإيحاء الدرامي ممثلا مجسما من خلال مجرى تاريخ الدراما. رسالة المسرح إن المسرح وهو جامع الفنون، ورغم كل التحولات التي طرأت على شكله ومفهومه، تبقى له رسالة ثابتة لا تتغير مهما تغيرت الأشكال وأنواع التعاطي مع فن المسرحية ألا وهي (التطهير) ومجابهة الطبيعة بمرآة، وفي سياق تعريفه للمأساة ذكر أرسطو أن المحاكاة للفعل المأسوي تثير عاطفتي الخوف والشفقة، فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات. إن المسرح بعد قرون من الصراع الأليم حتى في لحظة انكساره في عهد سيطرة الكنيسة على روح الإبداع في العصور الوسطى، يكون قد بلغ الصورة الحقّة للحياة من حولنا، وحيث أن الدراما شيء آخر، شيء أنبل، شيء أضخم، فلا مجال أمامنا لكي نتردد في ارتياد المسرح لنرى أنفسنا وضعفنا ومشاكلنا وأحلامنا داخل مجتمعنا الصغير. إننا نذهب إلى المسرح لنتأمل أعماق الروح، لنتنقّى بالضحك، ونتتطهر بفعل الرحمة والفزع، ويرى المفكر ستاينر أن المسرح لن يرقى إلى مستواه الشريف النبيل ويستعيد قوته الإيحائية إن لم يعاود سيرة البطل، أو صورة الإنسان المنبثق من الروح، الممتد فوق خشبة المسرح، هذه الصورة التي طالما ألهبت وألهمت البشرية عاكسة صورتها الإنسانية في شكل ومعنى ودلالات تجذب الناس للمشاهدة. قبل نحو خمسة آلاف سنة، كان جمهور الإغريق يشاهد المآسي على مسرح في الفضاء، وقبل أن تستقر الدراما الإغريقية في شكلها النهائي، كانت بعض المسرحيات تستمر ليوم كامل، وكان الناس يترددون على هذا المسرح في إطار احتفالية شعبية هائلة، لقد وصف المسرح الإغريقي بأنه من سطّر مفهوم ديموقراطية التعبير، من خلال المآسي والملاهي العديدة، لقد كان الممثل في مرتبة خاصة من الاحترام والتقدير، بحيث منحته السلطات حصانة تمنع من محاكمته أو التعرض لكرامته، أما الجمهور فقد كان يعشق احتفالاته الدينية التي تتخللها العروض المسرحية الهزلية والتعبيرية. لقد تشكّلت حالة يصعب علينا نحن أبناء العولمة الوصول إليها من خلال فن المسرح، ولكننا اليوم ما زلنا نذهب الى المسرح وهو يعيش أسوأ (أزمة) على المستوى العالمي، فقد أصبح مثله مثل عديد الأشياء التي تحارب اقتصاديا وثقافيا، بل هو في حالة غزو مستمرة من جانب أشياء كثيرة. نعم لقد تطور المسرح في عصرنا تطوراً هائلاً في الشكل والهدف.. لكن هل تطور الجمهور؟ وهل تطور مفهوم المشاهدة ومتعة المسرح؟ هذا ما علينا الإجابة عنه! هل نبحث عن جمهور المسرح؟ تقول الناقدة الدكتورة نهاد صليحة في كتابها “المسرح بين الفكر والفن”: “يتطلب من المتفرج أن يتقبل عن طيب خاطر ولفترة العرض ـ الوهم المسرحي ـ باعتباره واقعاً، أي يقبل كما قال كولريدج وفي جملته الشهيرة “حتى يتأتى للجمهور أن يتمثل الرؤية المسرحية فكريا ووجدانياً بحيث تصبح إضافة إلى نظامه اليومي عليه أن يكون جزءاً من العرض المسرحي”. من يصنع الفارق في السياق ذاته، نقول إن الجمهور يعزف عن المسرح لإحساسه بأن الأخير قد فشل في التعبير عن واقعه، كما يتأثر المسرح بدوره بسبب عزوف الجماهير عن عروضه، ومن هنا تنشأ حالة من العجز لدى المسرح فيقع تحت عوامل مجحفة بالغة السوء، إذ عليه أن يخاطب جمهورا عريضا ويحقق له في ذات الوقت إشباعاً كاملاً لاحتياجات فائقة الضخامة فرضتها عليه الثقة الهائلة التي أنيطت به كمؤسسة مناضلة، وفي ظل ما يعنيه من انعطافات في الخلق الكتابي وضعفا في الإمكانات المادية والنظرة الاجتماعية المسطحة الشاحبة لدوره الخلاّق، ناهيك عن عوامل القلق التي تعتري غالبية العاملين في الحقل النشاط المسرحي بسبب عدم وجود قوانين رسمية تحميهم وتؤمن لهم الحياة المستقرة. علينا أن ندرك على الدوام أن الجمهور الحقيقي هو الذي يصنع الممثل والكاتب والمخرج والمسرحية في منظورها التطبيقي، وأن جمهوراً محترماً توّاقاً للمعرفة في أي بلد كان بإمكانه أن يصنع الفارق. وعلى المبدع في النهاية أن يكيّف أشكال المسرح وفق عالمه وواقعه وجمهوره، فالتجربة الحقيقية الصالحة، هي التي تخلق من أجل الجماهير العريضة، هكذا يقول جان كوكتو: “إنّ العرض المسرحي يكون عظيما عندما يتوجه إلى جمهور عظيم”، فهل نبحث عن جمهور المسرح؟ مهما يكن الأمر، علينا في النهاية محاولة استرضاء الجمهور وجذبه وانتزاعه من أحضان السينما والتلفزيون وفنون الإنترنت، ومواقع القرصنة الفنية، وهي جميعها من أشرس أعداء المسرح. علينا العمل والكدّ لإعادة جمهور المسرح إلى حظيرته الأم، إلى المسرح الذي وصفه الناقد الكبير إلمر رايس بقوله: “مهما يكن شكل المجتمع، فإن المسرح باق، وما بقي العالم وبقيت أحلام من يعمرونه من البشر، فسوف يكون هناك مسرح وجمهور”. المصادر: د. إبراهيم حمادة: معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية. دار الشعب ـ القاهرة، 1971 د. نبيل راغب: المذاهب الأدبية من الكلاسيكية الى العبثية. الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة، 1977 د. أحمد صقر: توظيف التراث الشعبي في المسرح العربي. مركز الإسكندرية للكتاب، 1988 فاروق خورشيد: الجذور الشعبية للمسرح العربي. الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة، 1991 د. محمد مندور: الأدب وفنونه. دار نهضة مصر ـ القاهرة، 1970
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©