الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

معالم الطبيعة الأخرى

معالم الطبيعة الأخرى
8 نوفمبر 2012
في معرضها الجديد “طبيعة أخرى”، الذي أقيم في جاليري منتدى الرّوّاد الكبار في عمّان، تواصل الفنّانة التشكيلية الأردنيّة مها المحيسن حوارها مع الطبيعة، ذلك الحوار الذي كانت قد بدأته منذ معارضها الأولى في التّسعينيّات. وعلى الرّغم من أنّها اشتغلت خلال المعارض السّابقة على الموضوعة نفسها، وهي موضوعة الطبيعة بما فيها من ألوان وظلال وإضاءة، إلا أنّها لم تقع أسيرة التّكرار، فقد ظلّت في كلّ مرّة، تضيف إلى تجربتها كل ما هو جديد ومبتكر. يوسف عبد العزيز عملها هنا أشبه بحفريّات تشكيلية، ذلك أنها كانت تنتقل عبر كل معرض تقيمه إلى منطقة بكر جديدة. كانت تتوغّل في جسد الطبيعة بحثاً عن اللذّي والغامض والبعيد. وقد انعكس ذلك البحث على طبيعة الأسلوب الفنّي، الذي أصبح يتطوّر هو الآخر في كل مرحلة، ففي بداية التسعينيّات مثلاً كانت مها تلجأ إلى رسم المشهد الواقعي، حيث تظهر ملامح المُكوِّن الطبيعي بوضوح من خلال الأشجار المبثوثة في المكان، أو الأزهار التي تتسلّق النوافذ، أو من خلال عناق الغابة مع السماء. شيئاً فشيئاً أصبحت الأمور تختلف. أصبح عمل الفنانة يذهب باتّجاه التجريد. في المعرض الأخير لها، دخلت مها إلى طقس كامل من التجريد، ورسمت ليس الطبيعة المعروفة أو المتداولة، وإنّما الطبيعة الأخرى المتخفّية في إهاب الطبيعة الأولى. من هنا جاء العنوان الذي اختارته الفنّانة لمعرضها “طبيعة أخرى”، ليؤكّد هذا التّغيّر الحاسم الذي طرأ على شكل وأسلوب ما ترسمه مها من أعمال. لقد انتقلت الفنانة من رسم المشهد الواقعي الفوتوغرافي إلى المشهد الحلمي. أصبحت الطبيعة هنا مكوّنة من اشتعالات الداخل وأحلامه وتشظّياته. ولذلك فقد حشدت المحيسن في هذه اللوحات الكثير من شغفها وتموّجات الداخل الرائقة حيناً، والعنيفة المتلاطمة أحياناً أخرى. الأم الكبرى لماذا تلجأ المرأة الفنّانة في أحيان كثيرة إلى الطبيعة؟ تتماثل الطبيعة بما فيها من أشجار وأزهار، وأنهار وينابيع، وسماء ونجوم، وغيوم وأمطار مع المرأة، باعتبار الطبيعة، الأنثى الأولى أو الأمّ الكبرى للإنسان. فكلاهما الطبيعة والمرأة تشترك في الخصب ذاته، وفي استمرار الحياة على الأرض. ومن هنا، ففي أعماق المرأة شيء يشدّها إلى صورتها الأخرى الكونية المتجلّية في الطبيعة. ولذلك فثمّة نزوع لدى المرأة في عناق الطبيعة، والالتجاء إلى ذلك الدفء والصّفاء الخاص الذي توفّره عناصرها. وكلّما سقطت المرأة في العزلة، وانكسر قلبها، وضاقت بها الأرض، كلّما حثّت الخطى باتجاه تلك الأمّ الرّؤوم، طالبةً الأمن والحنان. الفنانة مها المحيسن تحتفل هنا بالطبيعة، ليس باعتبارها أمّاً رؤوماً فقط، وإنّما باعتبارها ملهمة كبرى للإبداع، فليست الألوان التي تتراقص في الحقول والغابات، والظلال المنسوجة بإبرة الخرافة، غير تشكيلات خاصّة للوحة الطبيعة الباذخة. وكما قلنا سابقاً، فإنّ مها تذهب في مغامرتها التشكيلية نحو صوغ اللوحة الأخرى للمشهد المتداوَل. هنا تشتبك عناصر الطبيعة المعروفة، مع الداخل المرهف للفنّانة، لتتصبّب بين يديها تلك الصّور الحالمة المجنّحة. أمّا المُشاهد فيختلط عليه الأمر إلى الدرجة التي لا يعود يعرف فيها: هل تشكّلت اللوحة من عناصر الطبيعة المعروفة، أم جاءت من طبيعة أخرى مترامية الأطراف داخل روح الفنانة! تنهمك مها في رسم طبيعة خارجة عن المألوف، ولذلك فالذي يتأمّل أعمالها لا يرى المشاهد التي اعتاد رؤيتها، بقدر ما يرى تشكيلات ذات مشهدية مختلفة، ولكنها على الرغم من هذا الاختلاف تذكّر بشكل أو بآخر بالطبيعة الأولى. إنّها الطبيعة التي جرى ابتكارها. لا بد لنا ونحن نقارب أعمال مها من الحديث عن البذخ اللوني في هذه الأعمال، حيث نعثر على ألوان جديدة تجلل الأشياء حتى ليبدو العالم في اللوحات كأنّه قد خُلِق للتّوّ. نضيف إلى تقنية استخدام اللون تقنية الإضاءة، ففي اللوحات ثمّة إضاءة باهرة، توهّج والتماع وظلال تقود عيني المشاهد باتّجاه ضلال ما، تجلٍّ، أو شعور صوفي وطمأنينة بالغة. موسيقى اللوحة ما يميّز لوحة الفنانة مها المحيسن هو أنّ درجة التّوتّر فيها عالية، وهذا هو عكس ما هو متداول في مجال رسم الطبيعة، إذ إنّ اللوحة المستقاة من الطبيعة هي في العادة لوحة صامتة، لذلك ربّما أطلق النّقّاد على الطبيعة المرسومة اسم الطبيعة الصامتة. تزخر لوحة مها بالحركة، حتى لتخال عناصرها ترقص. في بعض اللوحات تحتدم الحركة ويكاد المشاهد يستمع بكثير من الدهشة إلى تلك الموسيقى الصاخبة التي تتصاعد من أعماق اللوحة. وربّما ساعد على تشكّل هذا الإحساس ضربات الفرشاة السريعة المتتابعة، وحركتها الحلزونية التي تحلج الألوان. من جهة أخرى، فلوحة مها المحيسن ذات سطح غنيّ، وهي تلجأ إلى استخدام مجموعة كبيرة من التقنيات، من أجل الوصول إلى هذا السّطح، إنّها ترسم، ثمّ تطمس ما رسمته، ثمّ ترسم، وأخيراً تستلّ السّكين لتقشط السطح. وربّما قامت بعد هذه الخطوة باستخدام الفرشاة مرّة أخرى. أمّا الذي يحرّك يد مها في هذه الأثناء، فليست التقنية الأكاديمية التي يتلقّاها الفنان في رسم المشهد، وإنّما هو حنين داخلي جارف بإعادة تشكيل الأشياء، وشهوة عميقة بابتكار العالم. معرض “طبيعة أخرى” هو إضافة فنّيّة جديدة تقدّمها مها ليس فقط إلى تجربتها الخاصّة، وإنّما إلى التجربة التشكيلية العربية، فهذه الفنانة المبدعة واصلت الحدب على لوحتها، وقامت بتطوير أدواتها لتقدّم لنا في النهاية كلّ هذا التّجلّي والاختلاف. يُذكَر أنّ هذا المعرض هو المعرض الشخصي العاشر للفنانة، بعد عدد من المعارض الشخصية المتميّزة، وسلسلة من المشاركات الجماعية لها، داخل الأردن وخارجه. أمّا الفنانة فهي خرّيجة معهد الفنون الجميلة في عمّان، وعضو رابطة التشكيليين الأردنيين، وعضو هيئتها الإدارية لعام 2004، وهي أيضاً عضو جمعية المصوّرين الأردنيين، وتعمل حالياً مدرّبة للفنون في أمانة عمّان، ومعلّمة للفن في المدارس العصرية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©