الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفن يكمن في الباطن

الفن يكمن في الباطن
16 مارس 2016 23:06
إن الموسيقى لَكَامِنَةٌ في فطرة الإنسان؛ لذا يكون تأثيرها في الرّوح تأثيراً مباشراً، ويقول ديلاكروا: «كل امرئ يدرك أن الأصفر والبرتقالي والأحمر.. ألوان توحي بالفرح والوفرة». وتكشف هاتان المقولتان عن العلاقة الحميمة بين الفنون بشكل عام، وبين فن الموسيقى، وفن الرسم الذي يعتمد التّلوين بشكل خاص. أمّا غوته، فقد كان أكّد أنّه «لفنِّ الرسم المُلوّن أن يعتبر العلاقة بين الفنون دعامة وركيزة صلبة له». وبمثل هذا التنبّؤ يكون غوتة قد استشعر المكانة التي سوف تكون لفن الرسم المُلوّن في أيّامنا هذه، إذ ينهض هذا الفن في الواقع عند بداية الطريق المؤدية - متى استقل بإمكاناته - إلى التجريد، أي إلى التكوين الفني الخالص. ولفن التلوين سلاحان تحت تصرفه.. اللّون والشّكل قد يكون الشكل كافياً وحده لتمثيل شيء ما حقيقي أو وهمي، ويتموضع في حيّز يتحدد به. أما اللّون، فمن المتعذّر عليه أن يمثّل وحده شيئاً ما، بل يستحيل عليه أن يستغني عن حدود ما.. أياً كانت: إن مدىً لا نهائياً من اللون الأحمر يمكن أن نلمحه بالتصور العقلي، غير أن الأمر يختلف عندما يوظّف الأحمر في الرسم.. فلا بدّ أن تصاحبه علاقات محددة المعالم من الألوان المكمّلة. ومن العلاقة بين اللون والشكل تنبع مسألة التأثّر بالقالب، فالقالب وحده، حتى إن كان مجرّدًا تجريدًا كاملا، أو هندسيًا، فإنّه يمتلك قدرة على الإيحاء لا حصر لها، لتتأمل مثلاً المثلث، فسواء كان حاد الزاوية، أو منفرج الزاوية، أو متساوي الأضلاع، فإن له قيمة روحانية يختصّ بها وحده، وهي قيمة يمكن تعديلها بشكل ما بالنّسبة لقوالب أخرى، وينسحب هذا على شكل الدائرة، والمربع وأيّما شكل هندسي يمكننا تصوره. وهكذا يتضح تأثير الشكل واللون، «مثلث أصفر»، و«دائرة زرقاء»، و«مربع أزرق».. كلها مختلفة ولها بالتّالي قيم روحية متباينة. من البدهي أن كثيرًا من الألوان تتباين وقوالبها الشكلية، فالألوان ذات النّكهة الحادة تحتاج إلى شكل هندسي حاد، فيما تحتاج الألوان الناعمة الرقيقة إلى أشكال مستديرة أنثوية. ومع ذلك ينبغي ألاّ نقع في التّعميم، فليس كل مزيج غير متناسب من القوالب والألوان نشازًا بالضرورة، بل لعله بقليل من التحريك، تنكشف الطريق لإمكانات جرس جديد، ولأن الألوان والأشكال لا تحصى فإن آثارها والمزج بينها يبقى معينًا لا ينضب. *** وفي النهاية، يكون الفنّان بحاجة إلى التّضحية بما هو مشتِّت للروح، لذلك يجد نفسه متوغلاً في مملكة التّجريد. ولكن... هل يعني ذلك أنّنا بحاجة إلى أن نتخلى كلّية عن كل موضوع ماديّ، وأن لا نرسم إلاّ ما هو مجرّد؟ إن مشكلة استحداث الإيقاع بين ما هو مادي وما هو غير مادي، تمنحنا الإجابة، فكما توقظ كل كلمة في النفس.. نغمة باطنة، كذلك يحدث مع كل قالبِ شكلٍ نرسمه، فحرمان الفنان نفسه من تلك الإمكانية، إنما يعني الحد من قدرته على التعبير. غير أنّ هناك إجابة أخرى تتبادر للذّهن: إجابة يحق للفنان دائمًا أن يعتمدها كلَّما واجه سؤال يستهلّ بـ «يجب»، والحقيقة أنّه لا وجود إطلاقًا للفظة «يجب» في الفن، لأنّ الإبداع الفنّي هو على الدّوام متحرّر من الضّوابط. تلك هي المشكلة الأولى، أما فيما يتصل بالإشكالية الثانية، وهي إشكالية التكوين، أي إبداع العناصر المفردة التي يتألف منها الكل، فلا بدّ من التّذكير أن لنفس القالب نفس القدرة على الإغواء وعلى التغيّر، ومن ثم فإن الإيقاع بدوره يتنوع بتنوع المتغيرات في الشكل، سواء أكان ذلك في العناصر المحورية، أو في العناصر التي تبدو للوهلة الأولى غير ذات أهمية. كل عنصر له حضوره وفاعليته في الشكل المرئي، لكن ليس معنى ذلك أن أي فنان قادر على تقديم صورة طبق الأصل مما يجول في خاطره ووجدانه. إن تلك الأشكال المجرّدة التي لا تكون لها ترجمة مادية، تحتاج إلى سند نظري لتبصير المتلقي. وبالمثل.. كلما غدا الفن أكثر تعقيداً، ازداد ثراؤه وتضاعفت قدرته التّعبيريّة، وفي الوقت ذاته تتساقط مشكلة الإبهام والغموض، وتحل محلها مشكلة أخرى: إلى أي مدى يكون سحرُ شكل معيّن محمّلاً بالغموض والإبهام؟ ومرة أخرى تتسع دائرة الإمكان، إمكانيّة المزج بين سحر معمَّى وملثَّم، بآخر بيّن وصريح، فتتاح بذلك إمكانات جديدة للإبداع. *** لهذا نرى أن العمل الفنّي عبر الأزمنة ليس هو الشكل الظاهر، وإنّما هو المعنى الباطن. ونستخلص من هذا أن الحديث عن المدارس في الفن، وعن معالم تطوره، وعن المبادئ التي تحكمه.. إلى غير ذلك، هو حديث مبني على سوء فهم، لا يؤدي إلا إلى التّضليل والالتباس. على الفنان أن يصم أذنيه عن تعاليم عصره، وأن لا يلقي بالاً لغير الحاجة الباطنة، وأن يصغي في صمت إلى كلماتها، وحينئذٍ سيستخدم - آمنًا من عثار وزلل - وسائل يعترف بها معاصروه، أو قد يمنعوها أو يحرّموها. ذلك أن الوسائل تظلّ مقدسة، ما دامت تمليها وتفرضها الحاجة الباطنية.. وما عدا ذلك فكل وسيلة «حرام» ما دامت تتجه إلى كبت الحاجة الباطنة أو عملت على كبحها أو حجبها. ............................................. * مقاطع من كتاب: «الرّوحانيّة في الفنّ» لفاسيلي كاندنسكي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©