السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ماذا تصنع اليد التي ترسم؟

ماذا تصنع اليد التي ترسم؟
16 مارس 2016 23:06
كتابة - آنّ هنري ترجمة - أحمد حميدة يقول بروست: «حين دخل بطل (البحث عن الزّمن المفقود) أوّل مرّة ورشة الرسّام الكبير إلستير، خيّل إليه أنّه يلج مِخبرا يتشكّل فيه العالم من جديد، حيث فوضى كلّ الأشياء التي نراها من حولنا استُخلِصت في لوحات، تكمن روعتها في ما يشبه تحوّلاً طارئاً على الأشياء المجسّمة، تحوّل يماثل ما ندعوه في الشّعر بالاستعارة. ولئن كان مبدع الكون قد خلق الأشياء، وأطلق عليها أسماءها، فإنّ إلستير كان يعيد تشكيلها، بعد أن يكون قد انتزع منها أسماءها، ومنحها أسماء جديدة». كانت اللّوحة التي شدّت انتباه ذلك الزّائر، تمثّل مرفأً صغيراً بإقليم بروتاني، حيث كانت صواري السّفن تتعالى لتتجاوز ذراها الأسطح ومداخن البيوت ونواقيس الكنائس، حتّى أنه ليغدو من العسير التمييز بينها، فيما كانت السّفن المحتشدة بالمصبّ النّهريّ الصّغير، أشبه ما تكون بالعربات المجاورة المرتجّة، أو بسيّارات النّقل التي كانت تعبر، وهي مزدحمة بالرّاكبين. أمّا السّماء الفاحمة التي كان لها بريق الورنيش، فقد كانت تنعكس في البحر، الذي كان زبده أشدّ بياضا من الطّريق الحجريّة، فيما كانت أخاديد الحقول المحيطة شبيهة بالمدّ الموازي لأمواجه.. إلخ. لا يهمّ إن كان بروست، في هذه اللّوحة المتخيّلة، قد استلهم هذا الوصف من (الملتقيات) بسان مالو، التي سبق وأن ذكرها شاتوبريان في مستهلّ مذكّراته، فإنّ ما كان يرغب فيه هو أن يضفي على كلّ عمل فنيّ المجاز الشّعري، التي هي الاستعارة؛ لأنّها تقدّم الدّليل على وحدة الذّات. ولكنّ هذا الأسلوب الإنشائي هنا، أي هذا التّقالب بين الأرض - البحر، لا يكشف في شيء الذّاتيّة البالغة لدى الفنّان، طالما أنّها تستند، كما قيل، إلى (خدعة بصريّة)، إلى استبدال يغيّر اسم الأشكال المألوفة بفضل تماثلات خارجيّة: وذلك (سراب) غريب، لا تعود أسبابه إلى مجرّد مصادفة في المنظور: فمن الخارج يتمّ تصوّر اللّوحة بطريقة مبدعة، وتلك نسخة معدّلة من الرّسم الكلاسيكي للمشاهد الطّبيعيّة. غير أنهّ في بداية القرن العشرين، وعلى كلّ مستويات الفنون التّشكيليّة، ارتسمت معالم تغيّر جوهريّ: إنّه يتعلّق بغائيّة الإبداع وبأشكاله التّعبيريّة، إذ تحرّر الرّسم الطّلائعي يومذاك من التشخيص التّقليدي، وغدونا حينها مدينين إلى فاسيلي كاندنسكي ولنظريّته الصّارمة حول منظور جديد في الرّسم، وخاصّة إلى ما أفرزته تلك النّظريّة من تطبيقات عمليّة ملموسة، جاءت بارقة بألوانها، وتكويناتها، طيلة نشوئها. ذبذبات الداخل في كلّ زمن.. يتوفّق قلّة من الرسّامين في شرح أعمالهم مثل دورر، دافنشي، فان غوغ.. إلخ. وكاندينسكي، الذي كان رجل قانون في بداياته، استطاع هو الآخر.. لا فحسب الإعراب عن رؤيته للفنّ، وإنّما في جعل أعماله، وبشكل صارم، تطبيقاً للنّظريّة التي عرضها في أولى كتاباته، (الرّوحانيّة في الفنّ) (1910)، ثمّ في بيان جماعي.. (الفارس الأزرق )، ثم في ملخّص تكوينه الفنيّ..( نظرات إلى الماضي ) (1912-1922)، وأخيرا في مختصر الدّروس التي ألقاها عن الباوهاوس (النّقطة - الخطّ - المسطّح ) (بداية من 1926). وتكشف تلك الأعمال عن الانقلاب، المتناقض في الظّاهر، لتصوّر تشكيليّ كان كاندينسكي يرى فيه، أنّ الرّسم ليس بتابع للمرئيّ، أي لما هو خارجي، لأنّ بنية اللّوحة تقوم أساساً على العنصر (الباطني)، ومن نسغه تتشكّل. وليس هذا العنصر الباطني من قبيل الخيال الذي قد يضاعف الواقع، وإنّما بناءٌ يترجم داخل الفنّان عن الإمكانيّات الانفعاليّة للألوان والأشكال، أي لتلك القدرات الكامنة بداخله، والتي ينبغي أن يصيخ لذبذباتها. وهذا هو ما يسمّيه كاندينسكي بـ (الضّرورة الدّاخليّة)، وهو الذي يقول في هذا الصّدد: «إنّ العمل الفنّي يوجد بشكل مجرّد قبل أن يتجسّد في الواقع»، ويعني هذا أنّ الرسّام يستمدّ من طبيعته الخاصّة، لا من مشاهدة خارجيّة، القوى الكامنة فيه ليجعل الفضاء ينفسح في سديم اللّوحة. أمّا كلمة (مجرّد) لديه، فإنّها تعني ذلك المحتوى السّطحي والتّشكيلي الذي نشأ في لا مرئيّ ذاته، محتفظاً من أصله بتلك (الضّرورة). إنّ الأمر يتعلّق بعلاقة جديدة تستلزم التّفسير. فالملامسة الأولى لكاندينسكي الشابّ لعالم الألوان، والذي تحدّث عنه فيما بعد، تؤكّد افتتانٍ يتجاوز دهشة الطّفولة: «لنقل بشكل واضح، أنّ التّجربة التي مررت بها وأنا أرى الألوان تنساب من الأنبوب، تجربة لا تزال سارية فيّ إلى حدّ اليوم (...)، فتلك الكائنات الغريبة التي نسمّيها ألواناً كانت تقبل عليّ الواحدة تلو الأخرى من ذاتها، مستقلّة بذاتها، ومنطوية على صفات أساسيّة لحياة مستقبليّة مفردة، وهي في كلّ لحظة متأهّبة للاندماج في تركيبات وتآلفات جديدة، لتختلط ببعضها، وتبدع عدداً لا حصر له من العوالم الجديدة». وليس حماس رسّام ما.. آتٍ.. هو فحسب الذي سوف يثار هنا، أي رسّام يردّد هذا الإثبات:« وسط لوحة الألوان يكمن عالم غريب»، الذي قد يترجم عن حالة اندهاش أمام ثراء الألوان، فالرّسم التّجريديّ، مع اكتشاف درجات الألوان الخفيّة التي يطلقها، يكشف عن علاقة مذهلة بين الذّات وما يبدو مختلفاً عنها. فاسّيلي كاندينسكي بريشته كفيلسوف شغوف بالرّسم، كان ميشال هنري، الذي زار قرابة خمسة عشر مرّة المعرض الكبير لكاندينسكي في بوبور سنة 1985، ثمّ مخازن غوغنهايم في نيويورك، مفتتنا بتلك الاقتراحات المتكرّرة لكاندينسكي، وعمل على ترجمتها على ضوء بحوثه الخاصّة، التي كان قد قام بها قبل ذلك، عن علاقة الفلسفة بفينومولوجيا الجسد، وتلك الواردة في رسالته لسنة 1988 في (أن نرى اللاّمرئيّ) التّي خصّصها للرسّام. لقد ذهب كاندينسكي دونما توصيف لذلك، أن كلّ شيء يتمّ داخل الجسد، وأن الفضاء الذي سوف تشكّله اللّوحة يتكوّن في الدّاخل، وذلك لأنّ، وكما يفسّر ذلك ميشال هنري، الجسد ذاتيّ، وأنّه لا فصل بين الجسد والرّوح اللّذين يشكّلان كلاًّ واحداً. ويخلق هذا الجسد الذّاتيّ عالمنا في تلك الحركة الباطنة التي هي المبادرة والجهد. فنحن أشبه ما نكون بقوّة بدائيّة، قدرة ننفقها في كلّ عمل من أعمالنا: «ليس العالم هو الذي يقبل علينا ويشكّلنا، بل نحن الذين نقوم بتشكيله». أن نكون أفراداً، فمعنى ذلك أن تكون لنا مع العالم علاقة أصيلة ومبتكرة، كما اكتشف ذلك ماين دي بيرون، فـ (أنا قادر) تنبع من كلام بليغ منمّق، ولا ترتهن إلى قصديّة الشّعور الباطني، ولا إلى تحسّس لمشهد خارجيّ. وكاندنسكي يعيش التّجربة نفسها، ويتحدّث عن(انفعال) أو حالة وجدانيّة مرهفة تماماً، وهي تحديداً بلا شكل. وهكذا «ينجز الفنّ الكشف اللاّمرئيّ للحقيقة الماديّة للفنّان (...)». ويقول ميشال هنري: «إنّ ذلك التوثّب والسّكون، ذلك الانطلاق والتوقّف، تلك الحيويّة الرّائعة والمذهولة، والمتأهّبة باستمرار للانفلات، كلّ ذلك يوجد بداخلنا، منطو في (أنا قادر) الجوهريّة التي تشكّل كينونتنا، أي القدرة القصوى والباعث الأوحد الذي تمثّله.. لمتعتنا نحن..الخاصّة. وهي التي تتيح لنا معرفة من نحن حقيقة». وهذا ما يجعل الرّسم التّجريديّ ينبذ المحاكاة، ويؤثر أن تبقى الأشكال والألوان طلقة، فلا تركن إلى المرئيّ. صور شعبيّة لكاندينسكي منذ فترة التّجريد الغنائي التي كانت تتحوّل فيها البيوت والجبال والسّماوات والمروج والأبقار إلى عناصر ملوّنة، غدت الأشكال تتناشد، لتتكامل في التّكوين العامّ الذي هو نقطة البدء لكلّ منها، لتكون إمّا متنافرة أو متكاملة، لأنّه كذلك تمّ استشعارها. غير أنّ الأمر لا يتعلّق البتّة بتمثيل لما هو خارجي. ويذكّرنا ميشال هنري أنّ «الخيال هو التاريخ الخاصّ للذّات، وتمدّدٌ لما تنطوي عليه من معاني مجازيّة، والحركة التي وفقها.. كلّ رنّة توقظ بداخلها رنّة أخرى، ثمّ أخرى.. فأخرى.. إنّها المحدّدات اللاّمرئيّة للذّات التي تعمل منذ البداية كمبادئ توجيهيّة في بناء العمل الفنّي». وبالمعنى الدّقيق للكلمة، فمن الدّاخل تنبثق الألوان والأشكال، وبالتّالي التّكوين العام للّوحة. الحفل الموسيقيّ الّذي يقام في متنزّه لا يستنسخ مشهداً، وإنّما يترجم عن إجابة تثيرها الآلات النحاسيّة للجوق الموسيقيّ، في ظلال مساحة رحيبة من أصفر فاقع، يتوارى فيها الموسيقيّون والحضور، ذلك هو ما تومئ إليه لوحة (السّعادة القصيرة) التي، ببلاغة مبهجة، تتّخذ شكل رسوم تخطيطيّة، متراكمة وثريّة، تنبعث منها ألوان زاهية مندمجة، كتلك التي تنطوي في الذّكرى. (الشّكل هو التّعبير الماديّ عن محتوى تجريديّ)، جملة تنطبق على ما سيغدو بسرعة وسيلتها الأساسيّة، حين تتضاءل التّلميحات إلى الشّخصيّات والأشياء لفائدة الأحاسيس والمشاعر: تقشيرات سوداء محتدمة توحي بمرور جمع من فرسان الكوزاك، دوّامة من اللّمسات تشير إلى ترويكا متهيّجة.. وتلك مشاهد متخيّلة في موسكو الضّجرة، قبل إبداعات الباوهاوس التي تميّزت بصرامة، تبرز في طقطقة الألوان، وغلاظة الأشكال الخالية من كلّ لغة أو مدلول». ويضيف ميشال هنري: «إن نرسم، فإنّ ذلك لا يعني أن نمثّل وبشكل ساذج موضوعاً خارجيّاً، أن نسترشد به كمعطى مسبق ومرئيّ، استناداً إلى مميّزات خاصّة به، نلمسها دون لبس متى تأمّلناها: أي شكله واللّون المقصود. وإنّها للعودة في وقت مبكّر لذلك الواقع المرئيّ، الذي يكرّس الارتباط الوثيق بين العالم والإنسان ذاته (...)، وأن نختار وأحياناً أن نبتكر عناصر (موضوعيّة)، لا أهمّية لغير نظيرها الذّاتيّ، الذي يكون (رنينه الدّاخليّ) على وجه الضّبط، نفس الرّنين الذي نحاول التّعبير عنه». هذا.. وينبغي لنا ألاّ نتغافل عن أنّ «محتوى الفنّ هو انفعال.. إحساس وشعور»، ففي فترته الأخيرة، طرح كاندينسكي لتلامذته ملاحظات منهجيّة جمعها في (النّقطة، الخطّ، المسطّح ). ورغما عن الطّابع التّقنيّ لهذه المواضيع، عمد مرّة أخرى وبشكل جليّ، إلى تثمين الإمكانات الوجدانيّة لتلك التّراكيب، التي تبدو ظاهريّاً.. هندسيّة. ويبيّن ميشال هنري أنّ الأمر يتعلّق بالحفاظ، في مجال توزيع القدرات، على الضّرورة الدّاخليّة، أي على «فعاليّة ووجاهة الحياة التي نحمل بين جنبينا»، الذي يبلغ ذروته كما يقول كاندينسكي «في الحفل البصريّ الأسطوريّ للأعمال الأخيرة التي تبدو وكأنّها أنشودة»، وكما يقول الرسّام: «العالم مترع بالرّنين، ويشكّل كونا من كائنات تمارس فعلاً روحانيّاً». و كان كاندينسكي يؤكّد: «أنا لا أرسم حالات نفسيّة»، كما كان يرى أنّ غاية الفنّ لا تكمن في التّعبير عن حالة ذاتيّة كما لو كانت أمراً واقعاً، فالفنّ يرسم الحياة، إنّه الإجابة التي تمنحها الحياة لجوهرها الأكثر حميميّة وللإرادة التي تسكنها، ورغبتها في التّجاوز. لذلك يذكّرنا ميشال هنري أن «الفنّ كشف يفتحنا على ذواتنا، إنّه الحياة، والحياة هي ديونيسيوس الذي لا يحتويه عالم، إله الرّغبة والحياة التي تقهر ذاتها بذاتها، فيما أنّ أبولّو، إله الضّياء، يأتي لتحريرها. ويقول النّاقد الفنّي الكبير كارلو أرغان أنّ رسم كاندينسكي.. «فنّ شعبي»، لا يحتاج إلى أيّ مرجع ثقافيّ، ويفرض نفسه بقدرته على الكشف. وها أنّنا نظفر بالإجابة عن سؤالنا الافتتاحيّ «ماذا تصنع اليد التي ترسم؟»: إنّه الكشف عن الذّات أي الكشف عن الحياة. كلّ منّا يحمل بداخله ما كان ينشده كاندينسكي: أن يعرب عن فعاليّته ورغبته، عن أوجاعه ووحدة حياته الذّاتيّة. ألم يتساءل نيتشه من قبل: «هل أنّ الغريزة الأعمق لدى الفنّان تتشوّف إلى الفنّ فحسب، أم أنّها على العكس من ذلك، تنشد معنًى للفنّ.. معنى للحياة.. وتستفزّ بالتّالي الرّغبة في الحياة؟».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©