الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السخرية كفلسفة للوجود..

السخرية كفلسفة للوجود..
16 مارس 2016 23:06
نبيل سليمان منذ عقود والجهامة تطّرد في أدبنا، ليس تعبيراً البتّة عن الجدية، فالجدية لم تكن على صلة يوماً بالجهامة. وإنما يعود ذلك الاطّراد المؤسف إلى التراجع المطّرد للنقد والحرية في أجناب حياتنا جميعاً، وهذا ما يعبر عنه أيضاً تراجع السخرية في أدبنا، كما في ألوان كتاباتنا، ولا يهوّن من ذلك ما قد تجود به الفضائيات، وأفضله يعود إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. في خزائن التراث تزهو السخرية بما أبدع فيها شيخ الأدباء والساخرين: الجاحظ، ومن تبعه كابن الرومي وأبي نواس والمعري وبديع الزمان الهمذاني... وفي الأمس القريب تزهو السخرية، بما أبدع فيها محمد الماغوط وسليمان العيسى وعبد السلام العجيلي وزكريا تامر... وكذلك ما أبدع الجيل التالي: خطيب بدلة وأحمد عمر ونجم الدين السمان ولقمان ديركي وممدوح حمادة... غير أن السخرية في إنتاج هذا الجيل ومن تلاه، تراجعت عنها في إنتاج الماغوط ورهطه. أما التعلّل بفداحة العيش العربي، وبخاصة في السنوات الخمس الأخيرة، فليس بكاف، وإن هو إلا فقدان الحرية وتكميم النقد. في مدينة اللاذقية التي لم تكن أكبر من بلدة، أصدر صبحي عقدة جريدة ساخرة سماها (أبو نواس)، ولما أُوقفتْ أصدر وريثتها (عكاز أبو نواس)، ولما أوقف العكاز أصدر في السنة التالية (أبو نواس الجديد). وفي سنة 1921 أصدر في اللاذقية أيضاً خليل المجدل الشهير بسفيه الشرق (جريدة الزمر)، ثم أصدر مصباح شريتح (النحلة) عام 1922، وخليل ترت (القلعة) عام 1932، وفائز شومان (الطبل) عام 1936. أما غرّة الصحافة الساخرة السورية، وربما العربية، فهي (المضحك المبكي) التي أصدرها حبيب كحالة عام 1929، محدداً سبب الإصدار بأن «الهزل يزيل الهم ويشرح الصدر ويسهل الهضم». وقد توقفت هذه الجريدة بالضربة القاضية التي ضربت بها سلطة حزب البعث السوري الصحافة عامة، والصحافة الساخرة خاصة، عام 1966، وربما كان السبب المباشر لإيقاف (المضحك المبكي) أنها طالبت حكومة الأطباء الثلاثة تأمين الدواء للشعب، والأطباء هم نور الدين الأتاسي رئيس الجمهورية، ويوسف زعين رئيس الوزراء وإبراهيم ماخوس وزير الخارجية، وهم أيضاً من أبرز رموز اليسار البعثي الذي أطاح به حافظ الأسد 1970، فقضى الأطباء الثلاثة ورعيلهم بين السجن والمنفى. صدقي وجريدة الكلب خلال عمر قصير اتقدت نجمة صدقي إسماعيل (1924-1972) فيما أبدع في الرواية والمسرح، وبشكل أقل فيما كتب من النقد والمقالة والشعر، وبشكل أكثر فيما أبدع في السخرية، وهو الذي شرع يحرر بخط يده صحيفة ساخرة سماها (الكلب) منذ كان طالباً يدرس الفلسفة في جامعة دمشق. ويؤسس غازي أبو عقل للجريدة التي ورثها (الكلب) من مؤسسها – فتابع إصدارها بالشكل عينه وبالنهج نفسه - فيما كانت تكتب ثلّة من أبناء لواء إسكندرون الذي اغتصبته تركيا من سوريا عام 1939، وذلك على دفاتر مدرسية، في نشرة (فلتات المنشار) سنة 1940. ومن هؤلاء الشباب الطلاب سليمان العيسى وصدقي إسماعيل الذي تابع الكتابة الساخرة فيما سماها (الجسر). ومن (الجسر) مضى إلى (الكلب) التي جاء عددها الأول سنة 1370 هـ. ولأمر ما لم يحمل العدد تاريخاً ميلادياً. وقد رصدت (الكلب) في مولدها الحفل التأبيني الذي أقيم في دمشق للعقيد عدنان المالكي، وألقى فيه محمد مهدي الجواهري قصيدته الشهيرة: خلّفتُ غاشية الخنوع ورائي وأتيت أقبس جمرة الشهداء كما ألقى سليمان العيسى قصيدة لم يتجاوب معها الجمهور، كما تزعم (الكلب)، مردفةً أن العيسى عاقب دمشق بقوله: ذوّبت عاطفتي وشعلتها مشحونة بالجمر والنار فتلفت الجمهور مندهشاً وكأنه مجموع أبقار ودمشق لم تهتف وكم هتفت دوني لمرتزق وثرثار أصدر غازي أبو عقل عدد كانون الأول/‏‏‏ ديسمبر 2007 من (الكلب) كملف مضاد للتكريم الذي خصّت به جريدة الجزيرة سليمان العيسى (عدد 10/‏‏‏9/‏‏‏2007). وفيما كتب أبو عقل حول نشأة (الكلب) أن المؤسس أرادها امتداداً للمدرسة الفلسفية الإغريقية: مدرسة أنتستانس وديوجانيس (ديوجين). وكان غازي أبو عقل قد كتب في مجلة اتحاد الكتاب العرب الدمشقية (الموقف الأدبي – حزيران/‏‏‏ يونيو 2000) مقالة هامة عنوانها (تأملات في الظاهرة الكلبية)، نقل في مستهلها عن معجم جميل صليبا الفلسفي أن الكلبي هو «الرجل الذي ينتقد التقاليد والأوضاع وقواعد الأخلاق بتهكم، ويخالفها بغير حياء». ويعود غازي أبو عقل إلى كتاب (نقد العقل الكلبوي) للفيلسوف الألماني (بيتر سلوترديك) حيث تعريف المثقف الكلبي كما عرفته العصور القديمة من ديوجانيس الإغريقي إلى لوقيانوس السوري: شخص غريب الأطوار، أصيل متوحد وأخلاقي استفزازي وعنيد، لكن سلوترديك يرى أن الكلبي الأصيل Kunique قد تحول إلى كلبوي Cynique يؤثر المساكن المريحة على البرميل الذي أقام فيه ديوجانيس، فلما وقف الإسكندر حاجباً الشمس عن البرميل، زجره الفيلسوف فانزجر. كان سلوترديك من ثوار 1968 الذين فقدوا الأمل بالتغيير بعد الهزيمة، فأقبلوا بواقعية وانتهازية على إدارة المنظومة التي كانت تثير غثيانهم، وبذلك صاروا (الكلبويين الكاملين)، والجراء التي تحتج وتكشر عن أسنانها، وليس عن أنيابها، لكنها ما عادت تعرف لا النباح ولا العض. وعلى العكس من الكلبي الأصيل الذي يلتهمك بلقمة واحدة إذا دست على ذيله، هو الكلبوي الذي يهاجم العالم الخارجي من أجل إنهاء صراعه الداخلي، ويضرب الآخرين، لكنه يستهدف نفسه. ويختم غازي أبو عقل تأملاته في الظاهرة الكلبية بما رأى جاك لوريدر من أن سلوترديك لا يوضح المعايير التي تميز الكلبي عن الكلبوي بلا احتمال الخطأ. وفي هذا اللاوضوح تكمن حقيقة أواخر هذا القرن (العشرين). فالمثقف هو في آن دكتور جيكل الممتاز والسيد هايد البشع: «إنه كلبي في أحلامه الثورية، وكلبوي عندما يستيقظ وينظر إلى المرآة». يُعد مؤسس الجريدة الساخرة بين الرعيل المؤسس لحزب البعث العربي، من قبل أن يغدو عام 1947 حزب البعث العربي الاشتراكي. وعلى الرغم من أن صدقي إسماعيل صار أول رئيس لاتحاد الكتاب العرب في دمشق، بعد استيلاء حافظ الأسد على الحكم، فقد ظل ذلك المثقف النقدي، وأولاً للبعث وسلطته. وقد جمع سليمان العيسى بعد رحيل صدقي إسماعيل من أعداد جريدة الكلب ما ظهر عام 1983 في دمشق، في كتاب. لكن العيسى مارس في صنيعه هذا ما يأخذه عليه غازي أبو عقل وكثيرون، حيث نصّب نفسه رقيباً. ومن نماذج ما حذفه هذا الرقيب، هذه الأبيات: أنتم أهالي الضاد في قلبي وفي بصبوص عيني دوختموني بالصياح وصار بينكمو وبيني ما صرت من جرائه حيران مكتوف اليدين دأبت (الكلب) على عهد المؤسس على إصدار (معلقة) سنوية. ومن مواطن اتقاد السخرية في جريدة (الكلب)، وما أكثرها، هذا الذي ساقته في عدد آذار – مارس 1957 في مكونات الديالكتيك: الأطروحة، والطباق، ثم التركيب، فعن الاطروحة نقرأ: «واحذر من التفكير/‏‏‏ فالتفكير ليس بأنجعٍ/‏‏‏ وقل الكلام على عوا/‏‏‏ هنه وبالغْ وادّعِ/‏‏‏ وحذار من ذكر الحقيـ /‏‏‏ ـقة فالجماعة لا تعي». أما عن الطباق فنقرأ: «الجحش شيمته العناد/‏‏‏ ألا ترى هذا معي/‏‏‏ وأرى العناد فضيلة/‏‏‏ في عصرنا المتميّع/‏‏‏ فالعري للإنسان أفـ /‏‏‏ ـضل من طلاء البرقع». العيسى يصدر (ابن الكلب) أقام سليمان العيسى في مدينة حلب بين عامي 1947-1967. وأثناء ذلك ومن بعد أصدر جريدة (ابن الكلب)، والسبب هو كما كتب فيها: «خدمة للقارئ العربي/‏‏‏ صدر ابن الكلب في حلب/‏‏‏ سنراه في سياسته/‏‏‏ كأبيه عالي النسب». ونزوع العيسى إلى (الشعر الحلمنتيشي) عريق، أي إلى الشعر الساخر، وقد صدر له (الديوان الضاحك) عام 1979، ومنه ما اشتهر من قوله في مسكنه في قبو يُنزل إليه عبر عشر درجات، ويغرقه الشتاء دوماً: «بيتنا في حمى الأكابر قبوٌ/‏‏‏ طالما جلجلت به الشاعريه/‏‏‏ درجات عشر هبطن نزولاً/‏‏‏ هنّ مثل التمهيد للأبديه/‏‏‏ باختصارٍ سكْناي قبو عميقٌ /‏‏‏ مثل آلام أمتي العربية/‏‏‏ لو تراني وفي يميني دلوٌ/‏‏‏ أنزح الماء بكرةً وعشية». يرى غازي أبو عقل في العدد/‏‏‏ الملف الخاص بسليمان العيسى (12/‏‏‏2007) أن الرجل حساس من الهجاء، لذلك مارس دور الرقيب عملاً بالحكمة «ما لا يدرك كله يدرك جلّه»، فحذف مما أصدر من (الكلب) النقد الكلبي له ولغيره. وكانت (الكلب) قد خصّت العيسى بالكثير، ومنها وصيتها إلى (ابن الكلب) في عدد تشرين الثاني – نوفمبر 1968، في (زاوية التوجيه)، حيث نقرأ: «أوصيك يا بن الكلب أن تصبرا/‏‏‏ فالتين قبل الصيف لن يثمرا». وكانت (الكلب) قد عقبت على قصيدة سليمان العيسى الشهيرة (الزحف المقدس) ومنها قوله: «ويجدد الدنيا بنيّ أسمرُ» في إشارة إلى جمال عبد الناصر، فكتبت (الكلب) تحت عنوان « جمال عبد الناصر يرد على سليمان العيسىً: «إن القصيدة قد قرأناها على بعض الثقاة/‏‏‏ وأنا اقترحت بأن نترجمها على كل اللغات/‏‏‏ فلها زماجر تطرد المستعمرين عن القناة». وبعدما تقوضت الوحدة السورية المصرية في دولة الجمهورية العربية المتحدة (1958-1961) خاطبت (الكلب) سليمان العيسى: «يا شاعر الزحف المقدس إنه/‏‏‏ قد صار في فمك العريض لجاما». أما غاية ما نال سليمان العيسى من جريدة (الكلب) فهو ما نشرته مما سلق به الشاعرَ صديقاه صدقي إسماعيل وأحمد إبراهيم عبدالله، ومنه: «عشر تقضتْ وما زالت قصائده/‏‏‏ يلوكها كحشيش لاكه غنمُ/‏‏‏ إن قدروكَ فنحن اليوم في بلدٍ/‏‏‏ فيه قد اختلّت الأوزان والقيمُ/‏‏‏ وتحسب الشعر أسلوباً وعاطفةً/‏‏‏ الشعر يا جحش كلٌّ ليس ينقسمُ». فرد العيسى بمطولة منها: «لا تهربوا من سياط الشعر تلسعكم/‏‏‏ هيهات ينجيكم من قبضتي الهربُ». وكان صدقي إسماعيل قد عيّن أحمد إبراهيم عبد الله مراسلاً لجريدة (الكلب) في الساحل السوري. لكن الرجل كان يؤثر إبقاء كلبياته في دفاتره، واشتهر بزهده وعزلته وسخريته، ومارس التعليم في اللاذقية في الثانويات حتى الجامعة. وكانت بدايته عام 1949 في الثانوية التي عرفت بثانوية جول جمال، وكان من طلابها أدونيس وحافظ الأسد وغازي أبو عقل وحسن صقر. وحين نُظِّم الاحتفال باليوبيل الذهبي لهذه الثانوية عام 1974، اعتذر أحمد إبراهيم عبد الله عن المشاركة، وأرسل كمراسل كلبي إلى (الكلب) يهجو من المشاركين سليمان العيسى وشوقي بغدادي، ومن ذلك قوله: «شعراء النظام جاؤوا إلينا/‏‏‏ ليشيدوا بمنجزات النظام/‏‏‏ أسمعونا في اللاذقية شعراً/‏‏‏ نظّمته وزارة الإعلام». ومن بديع كلبيات أحمد إبراهيم عبد الله ما كتب تعليقاً على الانقلاب الذي قاده في العراق عبد السلام عارف على سلطة حزب البعث في ستينيات القرن الماضي. وكان في نظام الامتحانات يومئذٍ ما يُعرف بالإكمال، وهو ما يعادل الدورة الثانية التي يعيد فيها الطالب الامتحان بما يكون قد رسب فيه في الدورة الأولى. وهكذا يسلق أحمد إبراهيم عبد الله حزب البعث في العراق وفي سوريا: «رسب البعث في العراق وولّى/‏‏‏ وهو في الشام عنده إكمالُ حقق البعث كل آمال شعبي/‏‏‏ فإذا الشعب ما له آمالُ». جريدة الكلب وأبو عقل غازي أبو عقل جنرال (لواء) متقاعد، حصّل علومه العسكرية في فرنسا. وإلى تمكنه من اللغة الفرنسية – وله عنها ترجمات بالغة التميز – تميّز وهو في الجيش، ومن بعد، بثقافته العريضة والعميقة، وبموقفه النقدي الصارم من الذات قبل الآخر، وفي الثقافة كما في السياسة أو الاجتماع، وفي هذا الموقف تتأسس السخرية المكينة في التكوين الروحي والثقافي للرجل، وفي كتابته. لولا غازي أبو عقل لماتت جريدة (الكلب) كما ماتت بعدها جريدة الفنان علي فرزات (الدومري)، أو كما ماتت قبلها (المضحك المبكي) فلم يبق منها إلا الملحق الشهري الساخر الذي حمل اسمها، وكانت تصدره مجلة (الشهر) لوضاح عبد ربه وعصام داري، دون أن ننسى الجريدة الإلكترونية المعاصرة التي تحمل أيضاً اسم المضحك المبكي. وكان صدقي إسماعيل قد عيّن صديقه غازي أبو عقل مراسلاً جوالاً لجريدة (الكلب)، التي أفادت من مهام مراسلها في أكثر من بلد. ومن ذلك العدد 200 الذي صدر في أواخر 1973 وتصحّ تسميته بالكلب الكوري الشمالي، وفيه يوميات الكلب مع مترجمته سيم التي علقها «عشقت في بلدٍ لا يعشقون بها». في عهد الوريث، وكما يذكر بنفسه، أن الجريدة صارت أكبر حدة ونزقاً. وقد حافظت في هذا العهد على الشعار الذي كانت تتروس به من قبل، وهو: «لا تبلى حرية الصحافة إذا لم تُستعمل». لكن غازي أبو عقل أخذ يضيف إلى بعض الأعداد التي تخص فيها (الكلب) صديقاً بنعمائها، شعاراً (موسمياً)، هو «الصراحة تورث الضغينة، والمحاباة تجلب الأصدقاء». ومما تميزت به (كلب) غازي أبو عقل حفرياتها القاموسية، بالأحرى تفاصحها، ربما كرد مضمر أو استباقي لمن يتعالون على بساطة شعرها الموزون المقفّى. كما تميزت (الكلب) في هذه العقود الأربعة التي مضت عليها بعد المؤسس بالكثير من الوقدات الجمالية التي تؤشر بقوة إلى الشاعر غير الساخر في الوريث، ومن ذلك قوله: «رشفتك كاليقين وأنت وهمٌ/‏‏‏ وناديتُ الخيال فما استجابا» أو قوله: «يا قبلة ضيع التكرار نكهتها/‏‏‏ هل من سبيل إلى إرجاعها؟ قولي». في عدد 1/‏‏‏1/‏‏‏2003 تستقبل جريدة (الكلب) السنة الجديدة بهذا الذي تسلق به المثقف الذي ارتد من التمركس إلى التأسلم، وهو ما راج بين ظهرانينا زمناً، ولمّا يزل، وبخاصة في الحالة السورية خلال السنوات الخمس الماضية: « تملّص كلبي من شراك التأسلم/‏‏‏ وصار إلى دين التمركس ينتمي/‏‏‏ يصلّي على لينين وهو محنّط/‏‏‏ يطوف به أشياعه كل موسم/‏‏‏ ويستغفر ستالين عن كل هفوةٍ/‏‏‏ ولو داسه في كل يومٍ بمنسم/‏‏‏ وبعد ارتداد الكلب تابعت أمره، لأفهم ما يعنيه كلب تقدمي/‏‏‏ تطوح ما بين المذاهب حائراً/‏‏‏ يفتش في أي المعابد يحتمي». وفي عدد 13/‏‏‏9/‏‏‏2004 توالي جريدة (الكلب) القول في المثقفين: «إن جيش المثقفين لدينا /‏‏‏ هو أدنى إلى فكر طالبان/‏‏‏ استساغوا الإرهاب من عهد ليـ /‏‏‏ ـنين وما حاجتي إلى برهان؟/‏‏‏ نحن لولا المثقفين هباء/‏‏‏ معرفيّ في كفة الميزان/‏‏‏ مهرجاناتهم دليل حياةٍ/‏‏‏ ونشاط يدب في القطعان». وتخصّ (الكلب) الأدباء والنقاد بكرمها، فتقول في عدد شباط – فبراير2010: «أدباء العروبة اليوم جنّوا برداء الجوائز الشفاف/‏‏‏ إنهم يتعبون سعياً إليها والمراعي تحيا ببعر القوافي». أما النقاد فمن نصيبهم في عدد 23/‏‏‏12/‏‏‏2009 تعقيباً على شكوى هؤلاء المبدعين من النقد: (علوية صبح، الميلودي شغموم، نهاد سيريس، ممدوح عزام، ابتسام التريسي... وذلك في الدورة الخامسة من مهرجان عبد السلام العجيلي للرواية العربية في مدينة الرقة السورية – وكان عنوانها: الرواية والنقد- فكتبت (الكلب): «فكل أمّيٍ غدا ناقداً/‏‏‏ يسعى كما يحكى إلى جمع مال/‏‏‏ يهتك عِرض النص من جهله/‏‏‏ ويحسب التلفيق مثل الخيال/‏‏‏ ويزدري الأسلوبَ ناقودنا/‏‏‏ ويخلط التجريب بالارتجال/‏‏‏ أما إذا كانت روائيةً منقودة فالقصد نيل الوصال». وقد تخص (الكلب) بنعمائها كاتباً أو ناقداً بعينه، كما كان مع جابر عصفور وصلاح فضل وغويتسولو بصدد جائزة القذافي العالمية في عدد الفاتح من شباط – فبراير 2010، وكذلك كان أمر حنا مينه وحيدر حيدر. أما نصيبي فلعله كان هو الأكبر. ومن وافر ولاذع الكرم الكلبي ما خصني به وروايتي (مجاز العشق) التي أثارت غضب (الكلب) جرّاء ما رأى فيها من هول الجنس، مشاهد ومفردات، فكتب في ملحق خاص بعدد آب - أغسطس 1998 مبتدئاً بي: «لكنه... وليغفر الله لي/‏‏‏ وليحتملني ريثما أهتدي، ككل من يكتب في أمتي/‏‏‏ نصّ على قرائه يعتدي» ثم انقضّ على الرواية: «كل عشقٍ بلا سفادٍ حسيرُ/‏‏‏ فهو كالنفط فاته التكرير/‏‏‏ و (مجاز العشق) الرواية أعني/‏‏‏ أفسداها السفادُ والتنظيرُ». وحين صدرت روايتي (دَرَجُ الليل... دَرَجُ النهار) أهديت الصديق غازي أبو عقل نسخة، والإهداء هو: «إلى راعي الكلب وحامي حماه» فجاءت حكمة العدد 13/‏‏‏11/‏‏‏2004 كما يلي: «أفحمته بلاغة الإهداء/‏‏‏ ودعته إلى اجتناب العواء/‏‏‏ ولكون العواء للذئب حصراً/‏‏‏ اكتفت (كلبنا) بعضّ الروائي» ثم جاء دور الرواية التي عُنيتْ بخاصة بانهيار سد زيزون في ريف إدلب: «دَرَجَ الليلُ والنهارُ علينا/‏‏‏ فبلينا وداسنا التخييل/‏‏‏ أغرق السدّ أرضَ زيزون/‏‏‏ وتولى دفن الجميع نبيلُ». وقد كان لـ (الكلب) فضلٌ سابغٌ عليّ، إذ تضامنت معي حين وقع الاعتداء عليّ في 30/‏‏‏1/‏‏‏2001 جزاءً على روايتي (سمر الليالي) وعلى الندوة الوحيدة التي أقمتها في بيتي في سياق ما عرف بربيع دمشق (2000-2001). وجاء التضامن الكلبي في عدد من أكبر أعداد (الكلب) بعد العدد الخاص بسليمان العيسى، وكانت حكمة العدد: «في اللاذقية وهي مهد تخلفٍ /‏‏‏ متجذر كالسنديان العالي/‏‏‏ يحلو الجلوس على مقاهي بحرها/‏‏‏ وتأمّل الغادات بالسروال/‏‏‏ فتزيد ضجة أهلها أو يعتدي/‏‏‏ فيها على (سمر الليالي) الوالي»، ومما خاطبتني به جريدة (الكلب): «أنت بالبعث كافر فتأمَلْ /‏‏‏ وتعلّمْ، عقلُ اليسار عليل» وفي السياق نالت حيدر حيدر هذه المكرمة الكلبية: «حيدر لفّه الضباب سريعاً/‏‏‏ وهو أمر لو تعلمون وبيلُ»، والإشارة لا تخفى إلى ما جرّته رواية (وليمة لأعشاب البحر) على كاتبها. أما ما استطعت أن أرد به جميل (الكلب) فكان أن صدّرت كتابي (المتن المثلث) بهذا الإهداء «إلى الكلب ناقداً أدبياً»، والحق أن في جعبة (الكلب) من عهد المؤسس إلى عهد الوريث الكثير من النقد الأدبي الحصيف في الإهاب الساخر. وختاماً: إنها السخرية، ليس بما يحسبه البعض من أنها هجاء أو شتم أو انتقام أو تحقير أو تسلية، بل بما هي تواضع ونقد وشجاعة وحرية، وبهذا حُقَّ لمن يشاء أن يجعلها فلسفة الوجود. الشعراء المطبِّلون لم تستثن جريدة الكلب المثقفين والكتاب والمبدعين من النقد، وكالت لهم شعراً تهكمياً لاذعاً، ففي عدد 30/1/2001 تقول عن الشعراء: أغلب المبدعين يستسهل الأمر فيعلو التزمير والتطبيل ويطيلون بالكتابة والسرد ويؤذي البلاغةَ التطويلُ». ومن الأدباء كان للروائيين نصيب إضافي، كما في الملحق الخاص بعدد آب 1998، حيث نقرأ: كتب الروائيون، معظمهم ما خلته موضوع إنشاء وتجنبوا توصيف واقعنا في ظل تصنيعٍ وإنماء فإذا الرواية غير كاملةٍ كعمارة من دون إكساء. الكلبيون.. والكلبويون كان سلوترديك من ثوار 1968 الذين فقدوا الأمل بالتغيير بعد الهزيمة، فأقبلوا بواقعية وانتهازية على إدارة المنظومة التي كانت تثير غثيانهم، وبذلك صاروا (الكلبويين الكاملين)، والجراء التي تحتج وتكشر عن أسنانها، وليس عن أنيابها، لكنها ما عادت تعرف لا النباح ولا العض. وعلى العكس من الكلبي الأصيل الذي يلتهمك بلقمة واحدة إذا دست على ذيله، هو الكلبوي الذي يهاجم العالم الخارجي من أجل إنهاء صراعه الداخلي، ويضرب الآخرين، لكنه يستهدف نفسه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©