الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رضا الروح

رضا الروح
1 ابريل 2007 01:49
سعاد جواد: تحملت أختنا المسؤولية الصعبة التي خلفها رحيل الوالد ''رحمه الله''· كانت هي الكبرى، طالبة في المرحلة الثانوية، ميزها الله بجمال هادئ رقيق· تهافت عليها الخطاب ولكنها رفضت أن تتزوج· رفضت أن تتخلى عن عائلتها التي ليس لها أحد، وفضّلت أن تتحمل المسؤولية مع والدتي ونسيت نفسها· نحن خمسة، ثلاث بنات وولدان هما الأصغر بيننا· أختي الكبرى كانت في السابعة عشرة وأنا في الخامسة عشرة وأختي التي تصغرني في الثالثة عشرة، أما أخواي فكان الأكبر في العاشرة والأصغر في الثامنة· حصلت أختي الكبرى على وظيفة بسيطة إلى جانب الدراسة المنزلية، وصارت توزع جهدها بين العمل المضني لساعات طويلة ثم تعود آخر النهار وهي منهكة، فلا تفكر بالاسترخاء والراحة وإنما تذهب على عجل لشراء ما يلزمنا من احتياجات ثم تعود لتشرف بنفسها على مذاكرتنا وواجباتنا، فلا يبقى لها إلا السهر ليلا لمذاكرة دروسها· حاولت المستحيل لتوفر لنا كل ما نحتاج إليه، وكان ذلك كله على حساب احتياجاتها الشخصية، فقد حرمت نفسها من أشياء كثيرة هي أولى بها منا· كنا جميعا نقدر لها كل ما تقوم به من أجلنا، لذلك صرنا نتفوق في دراستنا ولا نفكر في العبث وتضييع الوقت، كنا نفكر طوال الوقت بأن نصل إلى بر الأمان فنمد يد المساعدة لأختنا الحنونة الطيبة· بعد أن أكملت أنا الثانوية، فكرت بأن أبحث عن عمل لأخفف عنها المسؤولية ولكنها رفضت ذلك رفضا قاطعا، حلفت عليّ إن كنت أحبها حقا أن أكمل دراستي الجامعية، حلمها الذي لم تستطع تحقيقه بعد أن أكملت الثانوية قبلي بعام واحد· لم يكن أمامي سوى تحقيق رغبتها فدخلت الجامعة، ثم تبعتني أختي التي تليني ثم بقية إخوتي· بعد أن تخرجت وحصلت على وظيفة، طلبت منها أن تحقق حلمها في الدراسة الجامعية وألححت عليها فدخلت إحدى الجامعات الخاصة وصارت تختصر السنين حتى تخرجت بعد ثلاث سنوات فقط··· ماذا أقول؟ إنها مثال للاجتهاد والطموح والصبر· القرار القاسي تحسنت أوضاعنا المادية بعد أن تخرجنا ثلاثتنا وحصلنا على وظائف مناسبة· أصبحت هي في سن السابعة والعشرين، قررنا أنا وأختي التي تصغرني بأن لا نتزوج إلا بعد أن تتزوج أختنا الكبرى· كان هذا القرار صعبا وقاسيا عليها، فلم نكن نفكر بأننا بهذه الطريقة لم نترك لها حرية الاختيار وإنما أجبرناها على التضحية من جديد ومن حيث لا نشعر· أمام إصرارنا على رفض كل من يتقدم لنا، اضطرت هي للاستعانة بخاطبة لتعجيل زواجها بأي شكل، وقد قررت أن توافق على من يتقدم لطلب يدها حتى وإن لم تكن مقتنعة به تماما· تقدم لها رجل مطلق وله ولدان، وضعه المادي بسيط جدا، لا يحمل أي شهادات ولا يملك أي امتيازات فوافقت عليه وتزوجته من أجلنا، تضحية جديدة قدمتها تلك الإنسانة الرائعة والتي جبلت على التضحيات طوال حياتها· أحسسنا أنا وأختي بغصة ألم شديدة لأننا أسأنا التصرف بالضغط عليها لتتزوج، ولكن ما بدد تلك الأحاسيس هو تأكيدها المستمر لنا بأنها سعيدة جدا بزواجها وأن زوجها إنسان طيب ولطيف· بعد أن شعرنا بالاطمئنان عليها تزوجنا أنا وأختي تباعا وبالطبع فإننا لم ننقطع عن مساعدة إخوتنا حتى تخرجوا وحصلوا على وظائف جيدة· ثم رحلت والدتنا ''رحمها الله'' بعد أن أدت مسؤوليتها تجاه الجميع بكل إخلاص وتفانٍ· رزقت أختنا الكبرى بثلاثة أولاد بالإضافة لولدي زوجها اللذين اعتنت بهما ورعتهما بحنانها المعهود· كانت متفانية في إسعاد أسرتها، ولم تقصر ماديا ومعنويا مع زوجها، لا تشتكي ولا تتذمر، وهي تمتدحه أمامنا وتؤكد لنا بأنه من أفضل الرجال، وبالطبع فهي تحاول أن تبعدنا عن مجرد التفكير في معاناتها معه حتى لا تثقل علينا· عندما وصلت أختنا إلى سن الخامسة والثلاثين كان أصغر أولادها في الثانية من العمر، بدأ التغير في وضعها الصحي بشكل لا يمكن السكوت عنه· كنا نلح عليها بزيارة الطبيب ولكنها كانت ترفض وتتحجج بالانشغال المستمر· وفي إحدى الليالي حلمت حلما مخيفا أرعبني، شاهدت أختي وهي تطحن في مطحنة ضخمة وكانت تئن وتتوجع ثم تصرخ صراخا رهيبا ولا أحد يسمعها، مددت يدي لإنقاذها فلم أستطع فبقيت أبكي وأصرخ حتى استيقظت والدموع تملأ عيني· في نفس ذلك اليوم ذهبت إليها وأجبرتها على أخذ إجازة طارئة من العمل ومرافقتي إلى الطبيب لعمل الفحوصات اللازمة للتأكد من سلامتها· كان الانتظار مخيفا وصعبا حتى ظهرت النتائج المرعبة، فأختي المسكينة مصابة بالداء الخبيث· زلزلتنا هذه الحقيقة ولم نعد نعرف ماذا نفعل، الكل أصيب بالصدمة··· بالقهر··· بالجزع··· بكل ما يمكن أن يزعزع الإنسان إذا فجع بأحب الناس إليه· أما هي··· فقد كانت هادئة، مبتسمة، راضية كعادتها· تحاول أن تخفف عنا، تهدئنا، تؤكد لنا بأنها ستكون بخير وستشفى قريبا· وبأنها لا تحس بأي آلام· حتى وهي في مثل هذا الوضع الصعب، فهي تفكر بنا ولا تفكر بنفسها··· ما هذه الإنسانة؟ إنها من النوع الملائكي الذي يرتفع عن مستوى البشر العادي· موقف غريب الغريب في الأمر هو موقف زوجها· كأن الموضوع لا يخصه، لا من قريب ولا من بعيد، كأن هذه المرأة المهددة بالموت في أي لحظة ليست زوجته، أم أولاده، عشيرته التي لم ير منها إلا كل الخير· لم يكلف نفسه مشقة أخذها إلى الطبيب، ولم يراجع في معاملات تسفيرها للعلاج في الخارج، بل حتى لم يكلف نفسه مشقة زيارتها أثناء تواجدها في المستشفى، وهي تبرر له كل تصرفاته تبريرات مختلفة، مسكين أعماله كثيرة··· متعب بسبب التفكير· لا تلومونه· إنه لا يقصد إهمالي، الله يعلم بحجة الغائب· تناوبت أنا وأختي الثانية في متابعة مراحل علاجها داخل الدولة حتى حان موعد سفرها إلى الخارج· سألنا زوجها إن كان يرغب في مرافقتها، فاعتذر بحجة أن لا أحد مع الأولاد يرعاهم ويتابع دروسهم· كان لدي إحساس بأنه سيرفض لذلك فقد رتبت أموري على مرافقتها في جميع الأحوال· كم كان صعبا عليها ترك أطفالها برعاية والدهم وهي تعلم جيدا بأنه ليس أهلاً لتلك المسؤولية، ولكنها لم تقل شيئا وبقيت تدعو الله أن يحفظ أولادها ويرعاهم في غيابها· بعد أن سافرنا ذهبت أختنا الثالثة لتفقد الأولاد، فوجدت أن أباهم تركهم مع الخادمة وبقي على عادته من التغيب عن المنزل لفترات طويلة في الليل والنهار· ثم عرفت تفصيلات مؤلمة عن العلاقة الزوجية التعيسة التي كانت تعيشها أختنا مع رجل لا يحس بالمسؤولية ولا يكترث لأسرته، وهو في حالة بحث دائم عن العلاقات مع هذه وتلك دون مراعاة لمشاعر زوجته· يتغيب عن المنزل باستمرار، ولا يدري عن شيء من أمور الأولاد· حتى من الناحية المادية فهو لا يكتفي بعدم الإنفاق وإنما يتجاوز حدوده ليقترض منها قروضا مؤجلة لا يتم تسديدها· هذا الرجل، لم نعرف عن سلبياته شيئا قبل هذا الوقت، ولولا هذه الظروف لما عرفنا مقدار المعاناة التي تعيشها هذه الإنسانة الصبورة دون أن تشتكي أو تتذمر· كنت أراقبها وهي تتألم، المرض ينهش أحشاءها وهي تحاول جاهده إخفاء تلك الآلام الرهيبة، كنت أبكي بدلا منها، أتوسل إليها أن تخرج ما بداخلها، أن تصرخ، أن تشتكي، أن تفعل أي شيء ربما قد يريحها، ولكنها لا تفعل··· تبقى تبتسم وتقول: الحمد لله، أنا راضية بكل ما كتبه الله لي· فلا جنَّة على هذه الأرض، وأنا أطمع بالجنة التي في السماء· والله، يا حبيبتي، أنا متأكدة بأن الجنة ما خلقت إلا لأمثالك··· فأنت تستحقينها بجدارة، وإن لك عند ربك منزلة كبيرة، عسى أن تشفعي لنا لنكون معك· تبتسم برضا وتقول: إن شاء الله سنكون معا في جنة ربنا· تحسنت حالتها نسبيا فعدنا إلى الوطن، ولكن هذا المرض اللعين يبقى مختبئا في الأحشاء، يتحين الفرص للهجوم والانتشار من جديد· كانت أحوالها غير مستقرة، تصحو ثم تشتد أزمتها من جديد حتى جاءت لحظاتها الأخيرة، طلبت رؤية الجميع الذين لم يتركوها يوما واحدا، أنا وأختي وأخويّ وأطفالها وخادمتها التي كانت تبكي بحرقة من أجلها، إلا زوجها الذي أهملها حتى في لحظاتها الأخيرة· رحلت والابتسامة الصافية مرتسمة على وجهها الطيب الذي شع النور منه بشكل أوقف بكاءنا ونحيبنا فودعناها كعروس ستدخل قصر الزوجية الذي كانت تحلم به· إنسان غريب ما أثار اشمئزازنا هو أن زوجها لم يحضر مراسم الدفن أيضا، اتصلنا به فاعتذر وقال بأنه مشغول، مشغول بماذا؟ مشغول بسرقتها! نعم هذه هي الحقيقة، فبعدما عرف بأنها على حافة القبر أسرع إلى البيت وأخذ بطاقتها البنكية وسحب رصيدها كله، فلم يكفيه الوقت لتوديعها ولو للمرة الأخيرة· بعد وفاتها بأسبوع واحد أعلن بأنه تزوج من أخرى لترعى أطفاله· شهق الجميع وتساءلوا: هل من المعقول أن يتزوج بهذه السرعة؟ بالتأكيد كان متزوجا من قبل، وكان ينتظر موت زوجته ليعلن هذا الزواج بحجة الأولاد· ترك أولاده عند شقيقتي ولم يأت لأخذهم بحجة سفره في رحلة شهر العسل، ثم طال غيابه لأشهر دون أن يسأل عنهم، وعندما اتصلوا به اعتذر ووعد بأنه سيأتي لأخذهم· كان الأطفال فزعين لا يريدون الذهاب مع والدهم، فهم لا يعرفون زوجته ويخافون أن تسيء إليهم· في الحقيقة كان هذا هو هاجسنا كلنا، لذلك لم يعد أحد منا يتصل به ولا يطالبه بشيء، وتحملت أختي مسؤولية تربيتهم وكنا أنا وأخويّ نساعدها ماديا على نفقاتهم إكراما لأختنا الراحلة· المشكلة هي أننا أنا وأختي لم نرزق بالأولاد الذكور، فأنا لدي ثلاث بنات وأختي لديها اثنتان· فكانت الصعوبة التي نواجهها هي في تقبل أزواجنا لفكرة بقاء الولدين الكبار أبناء زوج أختنا، فهذان الولدان متعلقان بإخوانهم تعلقا قويا، ثم إنهما لا يريدان العيش مع والدهما، وأيضا فإن أمهما متزوجة ولا تريدهما··· فأين يذهبا؟ لم يكن لدينا خيار سوى أن نضغط على أبيهما ليأخذهما عنده· فجاء وهو مرغم فأخذهما وقد كان منظرهما يقطع القلب وهما يبكيان لا يريدان مفارقة إخوتهما وترك المنزل الذي وجدا فيه الرحمة والحنان· بقي الولدان عند والدهما لشهرين دون أن نسمع عن أخبارهما شيئا، فقلقنا أنا وأختي على هذين الصغيرين، فأخذنا باقي الأطفال وذهبنا لزيارتهم بحجة أن إخوانهم يسألون عنهم· لم يسمح لنا بدخول المنزل وأبقانا في السيارة لفترة طويلة ثم أرسل الولدين· كان منظرهما بائسا مؤلما، لم يقولا شيئا، فقط سلما علينا وانصرفا بسرعة خوفا من والدهما· لا يمكن لمخلوق يملك قلبا وضميرا حيا أن يتحمل إيذاء الأطفال··· إنهما ولداه··· كيف يمكن أن ينسى ذلك؟ حتى إنه لم يكلف نفسه عناء رؤية أولاده الثـــــلاثة أبــــــناء أختي وهم في الســــــيارة أمام باب منزله··· فأي إنسان هذا؟ بعد مضي سنة واحدة، وبعد أن تعلقنا بالأولاد تعلقا شديدا، خصوصا أختي التي تربيهم في بيتها، جاءنا أبوهم يطلب عودتهم لمنزله، هل كان دافعه الشوق لهم؟ بالطبع لا··· هل استيقظ ضميره الميت؟ بالطبع لا··· إذن لماذا يريد إعادتهم لبيته؟ السبب واضح، الرغبة في الحصول على المال··· إنه الابتزاز الذي تعود عليه· فهو يعلم جيدا بأننا لا نريد التخلي عن أولاد أختنا بأي شكل كنوع من البر لها وإراحتها في قبرها، لذلك خطا هذه الخطوة الخبيثة، وقد صدقت ظنوننا، لأنه عرض على أخي فكرة التفاوض والتفاهم فأدركنا مقصده· تملكتنا الحيرة··· ماذا نفعل؟ هل نستسلم لهذا الابتزاز؟ هل نتخلى عن أولاد المرحومة وقد تركتهم أمانة في أعناقنا؟ إنه أمر صعب· بعد بحث طويل استقر الرأي على تسليم الأولاد لأبيهم ومتابعتهم بشكل مستمر قدر الإمكان· عندما عرف بقرارنا لم يأت لاستلام الأولاد وتركهم عند أختي بعد أن تأكد بأننا قد فهمنا لعبته وأنها لن تنطلي علينا· رحمك الله يا أختي··· كيف تجرعت العيش مع مثل هذا المخلوق؟ أنت حقا إنسانة غير عادية· أتمنى أن تكون روحك العزيزة راضية عنا·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©