الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السجن أرحم

السجن أرحم
13 نوفمبر 2013 20:45
الشاعر الذي سنتناوله اليوم هو يوسف بن هارون البطليوسي أو الرمادي.. المولود عام 305 هجرية، الموافق 917 ميلادية، وقد عاش في قرطبة وتوفي فيها عام 403 هجرية الموافق 1012 ميلادية أي أنه عاش خمسة وتسعين عاماً. ما أثارني في حياة وشعر هذا الشاعر هو أنه قضى من حياته الطويلة هذه، زمناً طويلاً جداً في السجون، بسبب غضب الحاكم عليه وعقاباً له على شعر نسب إليه، ولم يستطع كل شعر الاعتذار الذي نظمه يوسف بن هارون هذا أن يعيد له مكانته أو يفتح له أبواب الرضى لدى المنصور ابن عامر، وفي السجن تفرغ ذلك الشاعر ليؤلف كتاباً مهماً اسمه “الطير” استخدم فيه موهبته الشعرية فنظمه كله شعراً. وكان ذلك الكتاب آخر محاولة له للتقرب إلى الملك، ولكن ضاعت تلك المحاولة كما ضاع ذلك الكتاب الذي لم يصل إلينا إلا أخباره. إنه يوسف بن هارون الكندي الرمادي حسب بعض المراجع نسبة إلى رمادة، وهي موضع في غرب الأندلس وإحدى قرى شلب. نشأ في قرطبة وتلقى علومه فيها. تشير المراجع التاريخية إلى أنه عاش طويلاً وتوفي ودفن في قرطبة فقيراً معدماً لا يملك حتى ثمن كفنه، رغم أنه كان محل اهتمام الملوك والحكام الذين أكرموه زمناً وسجنوه زمناً أطول. يوسف بن هارون يشير إلى أن أصله من اليمن، حيث يقول: أمن إلى البرق اليماني صبابةً لأني يماني الدار وهو يماني كأني من فرط الصبابة لامحٌ أنامل من مهدي السلامِ قوافي ِ كان يُكنّى بأبي عمر، وقال ياقوت إنه أبوبكر، وسواء كان من الرمادة أو من بطليوس، فإن ذلك الشاعر المعمر عاش في قرطبة ومات فيها. وأعتقد أن ما تجمّع لدي من شعره يمنحني الحق بتخيل هذا الحوار بيني وبينه. ? هل تفضل أن أناديك بأبي عمر أم أبي بكر. - نادني بيوسف.. يوسف بن هارون. ? إذن لماذا عرّضت نفسك لغضب الحاكم، وقضيت ذلك الزمن في السجن؟ - إنه الرأي.. حرية الرأي لم تكن متاحة في ذلك الزمن. ? بل كانت يا يوسف.. ولكنك اخترت الهجوم على الحاكم والسخرية منه.. - كنت أُعبِّر عن وجهة نظر الناس.. هم كانوا يقولون أكثر مما قلت.. ? ولكنهم لم يكونوا شعراء مثلك؟ - وما الفرق؟ ? ما يقوله الشاعر يبقى ويزيد اشتعالاً وما يقوله عامة الناس ينطفئ بسرعة. - لم أقل أكثر من بيت واحدٍ فيه. ? وماذا كان ذلك البيت؟ يولي ويعزل من يومه فلاذا يتم ولاذا يتم ? أقلت ذلك حقاً؟ - لم أقصد الهجاء. ? وهل هناك أكثر من هذا الهجاء.. إنك تتهمه بالتردد وعدم الحسم؟ وهذا أكثر ما يشوه صورة الحاكم. - دفعت ثمن ذلك سنوات من عمري في السجن. ? كان يمكن أن تدفع حياتك كلها من دون سجن. - حاولت استرضاءه بالكثير من القصائد بلا جدوى. ? يقولون إنك كنت من المقربين للوزير المصحفي وهو من ألد أعداء المنصور. - كان صديقي. ? صديق عدوي عدوي. - بل كان يكن لي عداء أشد من عدائه للمصحفي. ? ما هي قصة عداوته للمصحفي؟ - أحكيها لك باختصار.. ? تفضل؟ - عندما تولى هشام بن الحكم بن عبدالرحمن الناصر الخلافة، كان عمره لا يزيد على عشر سنوات. ? متى كان ذلك؟ - بعد وفاة أبيه الحكم الثاني المستنصر في عام 366 هجرية الموافق عام 977 ميلادية. ? الخليفة هنا طفل صغير، ولابد من وصي أو مجلس أوصياء. - انقسم رجال الدولة إلى قسمين، فالعسكر يرون أن المغيرة بن عبدالرحمن الناصر عم الطفل هشام هو الأصلح للإمارة، والوزير المصحفي ومحمد بن أبي عامر ورجال الحكم المدنيون يرون أن استمرار الطفل في الحكم يزيد من نفوذهم ويجعلهم يستأثرون بالسلطة. ? وماذا حدث؟ - تمكن محمد بن أبي عامر من قتل المغيرة عم هشام الطفل ثم انقلب على صديقه جعفر بن عثمان وأصبح رئيساً للوزراء، وأخيراً حجز على الطفل هشام واستولى على الدولة وعيّن ولده عبدالملك رئيساً للوزراء وفي سنة 386 هجرية اتخذ لنفسه لقب المنصور وسمى نفسه الملك المنصور محمد بن أبي عامر. ? أمع هذا الرجل الرهيب كانت مشكلتك؟ - لا أنسى أنه عاقبني بما هو أقسى من السجن. ? وهل هناك ما هو أقسى من السجن يا يوسف بن هارون الرمادي. - نعم.. عندما تشعر بأن الأرض التي تقيم فوقها أصبحت سجناً. ? كيف ذلك؟ - لقد طلب المنصور من الجميع ألا يكلموني، وأن يقاطعوني مقاطعة تامة ولأن الناس كانت تخافه فقد نتج عن قراره أنني كنت أشعر وكأنني ميت.. انعدمت الحياة وفرغ الكون من سكانه.. الجميع ينظر إليّ كمن لا يراني.. أنادي فلا يرد أحد.. كنت أتمنى أن أعاقب بالسجن فهو أرحم. ? ولقد حققت ما تمنيت.. سجنك المنصور لأنك صديق عدوه. - بل لقولي ذلك البيت من الشعر الذي لم يستطع نسيانه ولا قبول اعتذاري أو الاهتمام بمدائحي فيما بعد. ? ولكنك خرجت من السجن في نهاية الأمر. - بل قل في نهاية حياة المنصور.. حيث أخرجني ابنه وقدّم لي ما عوَّضني عن تلك الأيام القاسية. ? انقطعت عن الشعر في السجن؟ - بل قمت بنظم شعر في موضوع الطير، وكنت أريد أن أتقرب بنظمه من ابن المنصور الذي كان يحاول مساعدتي وإقناع أبيه بالعفو عني فلم ينجح. ? هل أحببت يا يوسف بن هارون؟ - لا شعر بغير الحب. ? أحب أن أسمع ما قلت في الحبيب.. - قلت: بحتُ بحبي ولو غرامي يكون في صخرةٍ لباحا ضيعتم الرشد من محبٍ ليس يرى في الهوى جُناحا لم يستطع حمل ما يلاقي فشق أثوابه وصاحا محيَّر المقلتين قل لي هل شربت مقلتاك راحا(1) نفسي فدى لمَّةٍ(2) وخدٍ قد جمعا الليل والصباحا وعقربٍ سلطت علينا تملأ أكبادنا جراحا قد طار من شوقه فؤادي فصار شوقي له جناحا ? أكاد أسمع موسيقى ترافق هذا الشعر يا يوسف. - كانت الموسيقى توأم الشعر في زماننا. ? رغم البساطة التي لجأتم إيها وعدم الاستغراق في الألفاظ القديمة الصعبة، إلا أنكم استطعتم حقيقة أن تقربوا الناس من عالمكم؟ - ولمن كنا ننظم الشعر.. أليس لأولئك الناس الذين يقدمون لنا التشجيع بحفظهم لشعرنا وروايتهم له في كل محفل وفي كل مناسبة؟ ? ما زلت أذكر ذلك البيت الذي تحدثت فيه عن بداية الشيب الذي رأيت فيه صوتك؟ - تقصد الثلاث شيبات.. ? البيت الذي تقول فيه: وثلاث شيباتٍ نزلن بمفرقي فعلمت أن نزولهن رحيلي - قلت تلك القصيدة وعمري لا يزيد على خمسة وعشرين عاماً.. ? واضح أنك كنت تبالغ؟ - نعم.. فلقد عشت حوالى سبعين عاماً بعد هذه القصيدة. ? القصيدة كانت غزلية؟ - أعتبرها كذلك.. ? وهل كان لها هدف آخر؟ - نعم.. كانت مدحاً للغوي المبدع أبي علي القالي. ? لاحظت أن معظم قصائد المديح كانت تبدأ بالغزل؟ - هي عادة شعرائنا منذ أقدم العصور.. الوقوف على الأطلال أو التغزل.. حتى إن كعباً بن زهير في برديته التي مدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ قصيدته المادحة بالغزل فقال: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبولُ ? حسناً.. أثرت اهتمامي بهذه القصيدة.. فهل نسمع منها بعض الأبيات؟ - بكل سرور.. إنها بعنوان: من حاكمٌ بيني وبين عذولي.. أقول فيها: من حاكمٌ بيني وبين عذولي الشجو شجوي والعويل عويلي أقصر فمادين الهوى كفرٌ ولا(3) أعتقدُّ لومك لي من التنزيلِ عجباً لقومٍ لم تكن أذهانهم لهوىً ولا أجسادهم لنحولِ دقّت(4) معاني الحب عن أفهامهم فتأولوه أقبح التأويلِ في أي جارحةٍ (5) أصون معذبي سلمت من التعذيب والتنكيل إن قلت في عيني فثَمَّ مدامعي أو قلت في قلبي فثمَّ غليلي لكن جعلت له المسامع مسكناً وحجبته عن عذل كل عذولِ وثلاث شيبات في نزول ثلاثةٍ فعلمتُ أن نزولهنَّ رحيلي طلعت ثلاثاً في نزول ثلاثةٍ واشٍ ووجهِ مراقب وثقيلِ فعزلنني عن صبوتي(6) فلئِن ذللت فقد سمعتُ بذلةِ المعذولِ ? اعذرني على المقاطعة يا يوسف بن هارون.. القصيدة إلى الآن غزلية بامتياز.. فكيف انتقلت من الغزل إلى المديح؟ - بل انتقلت من الغزل إلى وصف الجواد الذي كان مطيتي في طريقي إلى الممدوح.. ? وماذا أبقيت للممدوح بعد ذلك.. وماذا قلت فيه؟ - قلت إنه روض خصيب بينه وبين السحاب عهد لا ينقضي.. كان أبو علي الغالي بالفعل يستحق ذلك المديح ولم أكن أنافقه أو أجامله.. روضٌ تعاهده السحاب كأنه متعاهد من عهد إسماعيلِ قسه إلى الأعراب تعلمْ أنه أوْلى من الأعراب بالتفضيلِ حازت قبائلهم لغات جُمِّعت فيهم وحاز لغاتِ كل قبيلِ فالشرق خالٍ بعده فكأنما نزل الخرابُ بربعه المأهولِ جمعوا بغيبته وموت شيوخهِ عنهم ولمّا يظفروا ببديلِ يا سيدي هذا ثنائي لم أقل زوراً ولا عرّضت بالتنويلِ شرح المفردات: 1 - الراح: الخمر 2 - اللّمة: يقصد الشعر (شعر الرأس) 3 - أعتد: أعد. 4 - دقت: خفيت وغمضت 5 - جارحة: جمعها جوارح، أعضاء الإنسان العاملة، أو المشاعر. 6 - صبوة: الصبوة هي الاشتياق. المراجع: 1 - شعر الرمادي يوسف بن هارون/ جمعه وقدم له ماهر زهير جراد 2 - معجم الأدباء/ ياقوت الحموي 3 - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس/ أبو عبدالله محمد بن فتوح الحميدي 4 - لسان العرب/ ابن منظور
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©