الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اختبارات الصحراء.. الكتابية

اختبارات الصحراء.. الكتابية
14 نوفمبر 2013 12:25
ثمانية أيام قرب الصحراء، كفيلة بأن تأخذ الروح إلى منفاها الداخلي النائي.. إلى آخر العزلة.. ربما تحدث التواء حاداً فيها يفارق المألوف 180 درجة. هناك، بين كثبان الأصفر المترامي أمام البصر مثل خرافة قديمة، تثور الأسئلة الكامنة، تتفجر، تعلو وتخفت، ومع دوامات الرمل الصاعدة إلى السماوات تدور دوامة الأفكار في قيعان الذات بلا رحمة. هكذا تبدو الصحراء في امتدادها المهيب، في لغزها المنكفئ على ذاته مغلقاً الباب أمام كل محاولة لاجتيازه.. كم شخصاً ابتلعته في جوفها؟ كم شخصاً ضاع فيها... واختفى إلى الأبد؟! كانت هذه الأسئلة تشغلني ونحن نستقل الحافلة إلى مكان جديد تطأه قدماي للمرة الأولى. حفنة من الإعلاميين وفرت لهم هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة هذه الرحلة الجميلة، للقاء ثمانية من الكتاب الشباب اختارتهم الجائزة العربية للرواية العالمية (البوكر) ليشاركوا في ورشتها الإبداعية الخامسة، التي انعقدت تحت رعاية سمو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان، ممثل الحاكم في المنطقة الغربية، من 29 أكتوبر ولغاية 5 نوفمبر الجاري، في منتجع صحراوي يسمى “قصر السراب”، يبعد عن أبوظبي العاصمة مسيرة ثلاث ساعات ونصف الساعة تقريباً. ما إن شارفنا على القصر حتى تبخرت الأسئلة.. لا صحراء ولا وحشة.. بل مكان جميل، مترف، هادئ، مجهز بكل أدوات المدنية الحديثة، يصلح بحق للكتابة، وبالنسبة لأولئك الباحثين عن عزلة فائضة للكتابة يمكن أن يكون ثيمة روائية بامتياز. فالقصر القابع بين أحضان الصحراء، يحوطه الرمل من كل جانب، يزوّد العين بقدرة إبصار إضافية تجعلها ترى أبعد بكثير مما اعتادت رؤيته بين شواهق العمران.. ثمة اتساع هائل تنداح فيه العين حتى لا تكاد تؤوب.. وحده القصر الذي يحتمي بأشجار النخيل، بمعماره وزخارفه وأثاثه يؤثث الصحراء بحضور حديث.. فيما يبدو الأمر كله أشبه بقصة فانتازية هربت من الزمن القديم واستقرت في الراهن. كسر الصمت الكتاب الثمانية، الذين عاشوا في القصر ثمانية أيام، كسروا الصمت بضجيج أرواحهم وأحمالها الإبداعية والفكرية. وكسروا أيضاً في هذه الورشة، كما قالوا، عادات الكتابة المألوفة وطقوسها المعتادة، وخرجوا إلى اختبار إبداعي مارسوا فيه قدرتهم على الكتابة في أجواء أخرى، وطقوس جديدة. كسر الرتابة الكتابية - إذا جازت لي العبارة - والخروج إلى فعل الكتابة في حضور الآخر، بالإضافة إلى جماليات العلاقات الإنسانية والصداقات المعرفية، هي أهم ما استفادوه من الندوة. يقول الروائي محمد الأشعري المشرف على الندوة بأنها “جميلة ومثيرة”، مؤكداً أن الجميع “خرجوا من التجربة مختلفين عما دخلوها”، وكان لديهم “إحساس مشترك بأنهم يقومون بمغامرة مشتركة”. ويصف الأشعري النصوص المنجزة بأن “لها عمقا إنسانيا كبيرا”، ويرى أن “هناك تجربة أدبية جديدة هي قيد التشكل الآن على يد كتّاب جدد لهم حساسية ثقافية وفنية مختلفة عن الأجيال السابقة”، لافتاً إلى أن من بين النصوص المنجزة “نصوصاً ستظل عالقة في ذهني حتى بعد فترة طويلة”، متمنياً أن تستمر التجربة هنا، وأن يجري تعميمها عربياً. أما المشرفة مي منسّى، التي تحدثت بثقلها الروحي والإنساني، معبرة عن ما يجول في أذهان كل المشاركين، فقالت إن “الكتابة شيء صميمي، وهي عادة لا تعرض ولا تستعرض أمام العالم لأنها من الحميميات، والكتاب يفتح عندما ينتهي”. واستدركت: “أما التجربة هنا فكانت على العكس تماماً.. كان ما يكتبه الليل يفرشه النهار.. ما يكتب في النهار نقرؤه في الليل”. وتخيلت مي، التي وصفت القصر بأنه “مكان فردوسي يبدو كأنه من سفر التكوين جاء على هذه الأرض” أن هؤلاء الكتّاب سيكونون مثلها؛ ستسحقهم هذه الرؤية.. سيظنون أنفسهم حبة رمل من الربع الخالي، وسيحاولون أن يجعلوا من حبة الرمل هذه حقيقة”، لكنهم خيبوا خيالها لأنهم “جاؤوا إلى الورشة وفي بالهم لغة/ مدينة/ تقاليد/ تجارب/ إمكانات، وفي بالهم رؤى للحرية، وكيف يريدونها. هذه كانت المفاجأة الكبرى لي وليس فقط الربع الخالي، المفاجأة كانت في هذه الأرباع الثمانية التي ملأت المكان بالكتابات”. ما قاله المشاركون شارك في “الندوة” 8 كتاب شباب من الوطن العربي، وهم: هشام بنشاوي (المغرب)، سمير قسيمي (الجزائر)، أيمن العتوم (الأردن) نسرين طرابلسي (سوريا)، نهى محمود (مصر)، بشرى المقطري (اليمن)، عبدالله العبيد (السعودية) ولؤلؤة المنصوري من الإمارات، وأجمعوا كلهم على ثراء الندوة، وعمقها الإنساني، وروح الأخوة التي سادت بين الجميع، واستفادتهم على المستوى المعرفي وتقنيات الكتابة. افتتحت بشرى المقطري شهادات الكتاب عن الندوة معتبرة أنها “تجربة جديدة طلعتها على تجارب عربية متنوعة”، وقالت إن هذا التنوع هو سر ثرائها، لافتة إلى أن “ثمانية أيام غير كافية لكي يكتب الروائي نصاً روائياً”، متمنية “أن تكون الوقت أطول، بحيث يتسع المجال لتدريب حقيقي على تقنيات السرد والكتابة بشكل منهجي. وأن يكون هناك نقد أكاديمي ومتخصص للنصوص لكي نستفيد أكثر ونعود أكثر مهنية أو حرفية في ممارسة الكتابة”. أما نسرين طرابلسي، فقالت إنها أصيبت “بـصدمة رفاهية”، حيث وجدت “مكاناً مختلفاً تماماً عن المكان الذي أكتب فيه”، وأوضحت: “نحن نكتب بين الأعباء الكثيرة التي يفرضها علينا الإيقاع السريع، فضلاً عن الأخبار الكارثية المتواترة التي نسمع عنها في العالم العربي، لهذا احتجت إلى وقت لكي أدخل في مزاج الكتابة”. وأكدت أنها “خرجت بثلاثة آلاف كلمة، وبإصرار على إتمام مشروع روائي يسجل أنه بدأ هنا، في قصر السراب”. سعادة من نوع خاص بالامتنان لهذا الوطن بدأت لؤلؤة المنصوري حديثها، معربة عن شعورها “بالسعادة البالغة لأن تخرج هذه الفكرة من دولة الإمارات، وبرعاية كريمة من سمو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان”، مع أمل أن تنتشر هذه الفكرة في الوطن العربي، وأن تستمر هنا في الإمارات”. وقالت: “وجودي في هذا المنفى الأدبي الجميل، قصر السراب، كسر روتين الكتابة لدي لدرجة أنني مرضت. لكن المهم في الأمر أنني اكتشفت أنني قادرة على الكتابة في حال وضعت في ظرف معين”. تغيرت فكرة لؤلؤة عن الكتابة، حيث كانت تعتقد أن الفكرة تأتي إلى الكاتب صدفة ثم يلتقطها ويصوغها في شكل أدبي ما، لكن التجربة التي خاضتها جعلتها تطارد الفكرة، وتركض وراءها، بل وتجاهد، حسب قولها، حتى تقبض على فكرة تكتبها، مضيفة أن “أجمل شيء في التجربة هو المرونة في طرح وجهات النظر. واكتساب معارف جديدة تتعلق بتقنيات الكتابة، والسرد، والأهم كيف ينفصل الكاتب عن نصه”. من جهتها، كانت نهى محمود في طريقها إلى “الندوة” تشعر بقلق كبير، وتتساءل: “كيف سأكتب بين مجموعة ولم يسبق لي أن كتبت أمام أحد؟”. وسرعان ما تبخر القلق وتشجعت على ترجمة فكرتها إلى نص، بعد أن استمعت للكتاب المشاركين وفرحت بكتاباتهم وعوالمهم المميزة والجميلة”. وقالت إن الندوة عرفتها بعدد من الكتاب الشباب الذين تسميهم هي “كتاباً كباراً بالفعل، وموهوبين جداً، ولديهم مشاريع إبداعية”، مؤكدة أنها شعرت بالفخر بأن تكون مع شباب واعد وعلى هذا القدر من الوعي”، مشيرة إلى أنها باتت أكثر حرصاً وانتباهاً في الكتابة، وخرجت بخبرات كثيرة كشفت لها كيف تتخلص من “مطبات” تحدث معها أثناء الكتابة”. ويشعر السعودي عبدالله العبيد بأنه مدين بهذه الورشة لعدة أسباب، أحدها هو حصوله على الإلهام الذي بحث عنه في دول عديدة ولم يجده. لكنه خلال ثلاثة أيام في هذه الورشة حصل على فكرته وعاد بأفكار كثيرة يحملها على عاتقه. ويضيف العبيد منحة أخرى تمثلت في أنه حصل على ما كان يتمناه: أن يسمع رأياً مباشراً حول نصه، وقد حصل على بغيته، وقال: “أستطيع القول بأنني سأعود إلى بلدي ولدي فكرة واضحة عن مشروعي القادم”. ومثل غيره من الكتاب دخل سمير قسيمي الندوة بحال وخرج منها بحال مغايرة، كان متردداً في المشاركة وغير متحمس لها في البداية، حيث يقول “كنت أتخيل أنني لو نزعت من مكاني، ومن عزلتي، ومن أجوائي الكتابية، ومن رائحة المدينة التي أعرفها فلا يمكنني أن أشم رائحة أخرى، ولا أن أعبر عن نفسي كما يجب، لكن أجواء المكان الجميلة، المكان الفردوسي كما قالت مي، وهذه الفخامة التي لم تؤثر على هواجسي أو رغباتي الكتابية، قد تفتح في صدرك نوافذ جمال أخرى؛ أن تطل من شرفتك التي كانت لا تطل إلا على الجزائر على تجارب روائية جميلة، وطرق تفكير مختلفة عن طرق تفكيرك. ومثل الآخرين أيضاً، أكدت التجربة لقسيمي أن “قدرة الكاتب تتجاوز بيئته وتتجاوز عاداته الكتابية. يجوز أن تخرج من عزلتك إلى مكان آخر وتبقى تكتب، لأن الكتابة في النهاية هي طريقة حياتك، هي المتنفس، هي الهاجس الذي تشعر به”. ويعتقد أيمن العتوم أن الندوة أكدت مرة أخرى أن “اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية”، وأوضح: “أتينا من بيئات مختلفة، نحمل أفكارا مختلفة، ربما أحيانا من توجهات مختلفة.. كل ذلك انعكس ثراء على الجلسات ولم يفسدها. وجدنا قلوباً مفتوحة وعقولا مفتوحة تتقبل الآخر، تستمع إليه حتى النهاية”. وأضاف: “نحن كمن يأخذ قطرة من كل بحر، ثم يجمع هذه القطرات، ويخرج بماء مختلف، والذين سيشربون من هذه الكأس سيقولون إن هذا الكاتب طور من تجربته. لم يكن هذا ليتم لو لم يتسن لمثل هذه الورشات أن تعقد. وبالتالي تتلاقى هذه الثقافات”. مع مغيب الشمس، كنا نستقل الحافلة للعودة مرة أخرى إلى أبوظبي.. كان الغروب هائلاً في حضوره.. فادحاً في جماله وهو ينكسر على حواف القصر المشيد على الطريقة التقليدية في العمران.. تلك البساطة التي تعلمت كيف تدخل إلى الفخامة واثقة الخطى.. مع آخر خيوط الشمس الغاربة استعدت أحداث النهار، ذهبنا في الصباح بحال وها نحن نرجع في المساء بحال أخرى.. ورغم تعب السفر قلت لنفسي: ثمة ما يستحق العناء...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©