الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جماليات التنافر..

جماليات التنافر..
16 نوفمبر 2011 22:58
ضمن سلسلة “إبداعات شابة” التي تصدرها وزارة الثقافة وتنمية المجتمع ثمة ديوان وشاعرة لافتين للانتباه، أما الديوان فيحمل عنوانا دافئا تفوح منه أنثوية هادئة، متزنة، ومتمردة في بعض المناطق، أما اسم صاحبة الديوان فهي الشاعرة الإماراتية الواعدة فاطمة المعمري، مواليد عام 1984، وتحمل درجة الماجستير في الأدب والنقد، ولها جملة من المقالات والدراسات نشرتها في مجلة “أحوال”. يستمد الديوان في طبعته الأولى عن مطبعة بن دسمال ومكتبتها في دبي، أهميته من أنه قادم أولا من تحت عباءة مشروع وطني كبير يستقطب المبدعين الشباب، ومن ثم يروّج لكتاباتهم في ألوان مختلفة من الكتابة في الشعر والرواية والقصة القصيرة والنقد والدراسات والبحوث وغيرها، كما أنه يؤسس لقاعدة جديدة من الكتاب الشباب الذين يمتلكون أدوات تعبيرهم الخلاّقة، ورؤيتهم المتجددة لما يدور حولهم من أحداث في محاولة لمسايرة إيقاع العصر واستيعاب متغيراته من خلال قصيدة واعية. وثانيا: إن الديوان يحمل ذائقة شعرية مختلفة على مستوى المضمون ومرونة الشكل والاهتمام بالمشهد اليومي والمشاعر الإنسانية، والتنبّه إلى أهمية التفاصيل ورصد الحالة الداخلية، وبخاصة لدى المرأة، مما يجعل العشرين قصيدة التي نظمتها المعمري حاضرة في ذهن القارئ المعاصر. في تلك القصائد ثمة صور تحمل في ثنياتها جماليات التنافر، فهناك الورود الجميلة والغدر، والمرارة والفرح، والبوح والكتمان الصارم، والحياة والموت، والخير والشّر، والكثير من المتناقضات المرسومة في كيان جدلي يتطور من خلال صراع هذه المتناقضات. لكن شاعرتنا بالمجمل العام تكتب بحبر وردي، تنساب منه روح متفائلة بأن الحياة المعاصرة مهما كانت مظلمة، فما زال هناك ضوء في نهاية النفق. افتتحت الشاعرة ديوانها بقصيدة بعنوان “قبل البداية”، تعلن من خلالها استمرار الحياة برغم كل الجروح والطعنات التي نتعرض لها في الحياة المريرة بفعل الفخاخ التي تنصبها لنا الظروف، إنها تصنع ثنائية جميلة، ترسم من خلالها صورا فنية تتحول فيها كائنات الطبيعة (الورود) إلى شخصيات تلعب دورا مهما في حياة بطلة القصيدة، المتصالحة مع نفسها ومع الآخرين رغم غدرهم وقسوتهم، وهكذا تبدأ قصيدتها: “قبل البداية... ورود أهديها الى كل من مرّ بحياتي وردة حمراء إلى أولئك الذين أحببتهم فبعثوا في روحي الأمان ثم خانوني فأعتموا عالمي أهديهم وردة حمراء بلون دمي النازف ألما” يتضمن المقطع السابق “بوح” متعدد المستويات والإمكانيات غير المحدودة لفيض المشاعر التي بثتها بطلة القصيدة، في إطار لغة شفافة، تتنقل في صور تلعب فيها ألوان الورود أدوارا مهمة في إدارة الصراع الداخلي، فهناك الوردة البيضاء مهداة إلى من أدمى جوارحها، وهناك وردة صفراء وأخرى خضراء ووردية وأخرى بلون الدخان، ولون الحزن والحياة والنقاء والحب، حتى توصلنا صور الشاعرة المتقافزة في أركان الحياة إلى همس الربيع حيث الإعلان الأخير أن الحياة مستمرة برغم كل ما فيها طعنات وجراح وكبوات، هي في النهاية مجرد استراحة المحارب ومن ثم النهوض لمواصلة المسير في قافلة الحياة: “ويهمس الربيع في أذن الحياة استمري برغم جفاف قلبي واصفرار أوراق أشجاره حتى أن نبضاته تحولت إلى صفير الأغصان الخاوية خضرة قلبي تحطمت تلك المدينة الزاهية تحولت إلى ظلام دامس وبنظرة إلى السماء اسكب علي المطر عودا واستقر في حياتي واستمرت معه حياتي”. في قصيدتها “عذرا سيدي” تنطلق الشاعرة من معادل موضوعي لتعبر من خلاله عن تجربة شعورية، بأسلوب تنأى فيه عن التحدث بلسان الشاعر صراحة، فتبدو في قصيدتها كمن يسرد علينا حكاية، أو يصف صورة، أو يرسم لوحة، فيها تداخل الفضاءات والألوان لتضع في النهاية تلك العلاقة الجدلية الأزلية بين الرجل والمرأة، فتقول في مطلع القصيدة التي تستفيد فيها من بنية القصة التلغرافية التي عرفتها أوروبا قبل نحو 10 سنوات: “عذرا سيدي من أنت؟ أذكر تلك الملامح لكن أراها مضببة.. لا أعلم أين ومتى قابلت هذا الوجه من أنت؟ عذرا سيدي.. عرفتك.. ولكني لا أريد أن أتذكرك.. ولا أريد معرفتك.. ولا أريد عودتك في حياتي.. بعد أن تحررت من قيودك عذرا سيدي.. من أنت لتطرق أبواب غرفتي الخاصة.. قف خارجا.. وأطلب الإذن في الدخول.. ولكن لا تتوقع أن اسمح لك بالدخول فالأفضل أن ترحل”. كلمات بسيطة ومشاعر واضحة من امرأة غدر بها رجل، هي تعرفه ولا تريد أن تتذكره، إنها تفضل البقاء في الحياة وحيدة من دونه، وان تعبيرها بهذا القدر الشفيف من المفردات المنتقاة الجميلة إنما تعبر عن فكرة (الوحدة) الداخلية، التي طالما داعبت خيال الشعراء القدماء والمحدثين، فلجأت ربما إلى تخيل صور صغيرة لكي تصنع منها صورا أخرى ممتدة يتداخل فيها الذاتي بالعام. باستثناء بعض القصائد القليلة مثل: لوحة مقلوبة، عازف الناي، صداقاتي، مؤلم، فمعظم القصائد التي يتكون منها الديوان الذي جاء في 74 صفحة من القطع المتوسط، فان فاطمة المعمري تركز بشدة على أنواع من المشاعر التي تبثها امرأة تجاه رجل له العديد من الصفات، أهمها أنه مصدر آلامها وحزنها، لكنها بالمجمل العام تعشقه، فهو خيالات وأطياف تتحرك في جنبات حياتها الراكدة، في ثنائية جماليات التنافر كما ذكرنا سابقا، ويبدو هذا الاتجاه في قصائد عديدة منها: إليك، الحاضر الغائب، قصتي وجروحي، تساؤلات تعصرني ألما، أحبه وأعشقه، سيدي، إليك سيدي. وقد صورت من خلالها العلاقة السلبية بين الرجل والمرأة مستفيدة من معرفة القارئ بهذين القطبين النموذجين اللذين يشكلان الحياة وما يوحيان به من دلالات، ولعلها بهذه الطريقة التي اعتمدتها باستعارة أشياء من الحياة مثل الورود والطيور والأماكن الطبيعية تتوسلها كرموز تلمّح من خلالها لغرضها الفني من القصيدة، في حين نراها تتخطى هذا السد الذكوري إلى قصائد منطلقة على نحو قصيدتها “لوحة مقلوبة” والتي تتمتع بقدر واضح من النسيج التصويري، وفيها أيضا استعارات لطيفة مستجادة، كما أن الصورة تنمو فيها نموا يلحظه المتتبع للمشاهد المبنية في إيقاع درامي، يقوم على خيال معكوس فالسمك يطير في السماء، والطائر يسبح في الماء، وما إلى ذلك من صور برغم غرابتها إلا أنها غير منفّرة، فتقول في بداية القصيدة: “مياه خضراء... شجر أزرق طائر يسبح في الماء.. وسمك يطير في السماء هي لوحتي المقلوبة تحسبه جنونا.. وأراه صائبا لم تعد الدنيا كما كانت لم يعد الحب حبّا ولا العشق عشقا ولا الهيام هياما فكيف يبقى السمك في الماء وكيف يبقى الطير معلقا في الهواء”. القصيدة في تقديري هي مونولوج درامي لصورة العاشق المتمرد على واقع الحياة، صاحب الإرادة الحرة القادر على التنازل عن الحب في سبيل الكرامة، وهي الصورة المعروفة في الشعر الحداثي (الصراع بين العقل والعاطفة)، وحري أن نذكر هنا أن شاعرة واعدة مثل فاطمة المعمري وقد وصلت إلى هذا النوع من التعبير، يشكل نقطة انطلاق حقيقية لها للوصول إلى قصيدة نثر متكاملة البناء والمعنى والخطاب والوعي التنويري. ربما تكون قصيدة “عازف الناي” من أفضل ما كتبته الشاعرة في ديوانها في إطار صور وملامح من الحداثة الشعرية، كذلك الوضوح والإيقاع الرومانسي، وجزء من التجربة المعيشة: “يعزف سيمفونية الفراق يقف على مؤخرة الطريق ويدندن وترقص أوتار عودي على عزفه يعزف عزفا تأنّ معه الطيور ويأنّ معه طير بين قضبان أضلعي أهتز لأنينه منظر يدمي قلبي أصابع تتراقص على أحزاني وذرات الهوا تتطاير”. إن النص الشعري عند فاطمة المعمري يستفيد صراحة من تقنيات السرد، كما تستخدم في بناء مواقف ومشاهد النّص حشدا من التفاصيل المنسوجة من الحياة لتتعانق في الحياة مع حقيقة الموت، فالشاعرة تتساءل: “كيف وهو يعزف الجرح يبتسم؟ أتراه عازف أعمى لا يسمع أو أنه أصم لا يبصر لأنه لو كان بشرا لما عزف لي مقطوعة موتي”. وبهذا المقطع توصلنا الشاعرة إلى معنى خاص في استخدام الرمز، في قصيدة جيدة هي أشبه بـ(الومضة)، ذات إيقاع لاهث، يعكس الخوف من التهديد بالموت والفناء عبر رمزية تقوم على استخدام شخصية العازف وهو ضمنا القدر الذي يتربصنا على الدوام. لا يخلو هذا الديوان بالطبع من الهنات، مثل استخدام العديد من الصور الركيكة، كما في قصيدتها “مؤلم” وهي بمجملها ليست أكثر من مشاعر خاصة، كذلك ورود بعض المفردات التقليدية المستهلكة في قصائد معروفة، إلى جانب أن الديوان مشبع إلى حد كبير بالحديث عن مسألة الحب بإسهاب يدفع إلى تكرار المواقف في بعض القصائد، لكن هذا لا يقلل من تدفق التجربة وحرص الشاعرة على تقديم قصيدة مفعمة بالمشاعر وروح التفاؤل، بما يعلن عن مولد شاعرة إماراتية جديدة، ذات شخصية تحمل خصوصيتها وهويتها، ولها من الأدوات التعبيرية ما يؤهلها لدخول عالم القصيدة الشمولية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©