الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جماليات السرد الوصفي والصبغة الخليجية

جماليات السرد الوصفي والصبغة الخليجية
21 مارس 2009 00:55
دخلت الروائية الإماراتية سارة الجروان الى عالم الرواية بهدوء شديد، ولم تعلن عن اسمها الحقيقي ''حصَة خلف بن جميع أحمد الجروان الكعبي'' إلا بعد أن وجدت أدواتها قد نضجت، وأفكارها قد تبلورت، ومضامينها قد أصبحت في دائرة مقاييس الرواية الإنسانية المعاصرة· هي من مواليد أكتوبر العام 69 م، في إمارة عجمان· ودخلت الى هذا العالم الفسيح من خلال كتابتها لـ ''يوميات مجندة'' في مجلة ''زهرة الخليج''، ومن ثم أصدرت رواية ''شجن بنت القدر الحزين'' العام ،1994 وفيها طرقت موضوعا مرتبطا بالبيئة المحلية وعادات وتقاليد المجتمع وكيف نرى بطلة هذه الرواية وهي تحكي عن زوجها الشاب الثري الذي أجبرها والدها على ترك دراستها والزواج به· كما صدرت لها مجموعتان قصصيتان هما: ''أيقونة الحلم'' و''رسائل الى السلطان'' العام ،2003 وقد حازت الكعبي على جائزة أفضل تأليف إماراتي في إحدى دورات معرض الشارقة الدولي للكتاب· أما آخر إصداراتها وما نحن بصدده، فهي رواية ''طروس الى مولاي السلطان'' الكتاب الأول بعنوان ''الحدال'' بفتح الدال، في إطار الواقع المتخيَل وفي 312 صفحة من القطع المتوسط والصادرة عن دار الآداب ببيروت· والعنوان كما يبدو قريباً من عنوان قصة ''ابن مولاي السلطان'' للقاص الإماراتي منصور عبدالرحمن· عنوان الرواية بلا شك مثير للانتباه والتساؤل وبخاصة كلمة ''طروس'' ولها عدة مرادفات أقربها إلينا أنها تلك المراسلات أو الرسائل ذات الأهمية، أما ''السلطان'' فمعروف لدينا بأنه صاحب السلطة والقرار وان اختلفت مسمياته بين بلد وآخر· لكن ''سلطان'' سارة الجروان التي اتخذت دور ''الساردة'' من خلال شخصية ''السلطانة'' بلغة شاعرية تقوم على ''التناص'' وبعض المفردات من اللهجة المحكية ـ مختلف، فهناك عملية اختراق كبيرة في تحديد ملامح السلطان عبر التاريخ، فهو هنا رمز للفضيلة والطهر والنقاء والعدالة والبوح الجميل، ولكل شيء جميل، يصنع صورة مثالية للحياة: ''ااايه مولاي·· لعلك لم تكن سلطاني المعهود، فلا طريق ولا حدود··· وفلسفة تعود·· للتطبيع، وخارطة تضيع! كل الرجال دونك أشباه وخيال مآته·· فمبلغ أخيرهم عندي·· ظلَ يجَره السلطان أدناه التفاته!'' وكما يبدو أيضا فان للسلطان معنى أثيرا بالنسبة للكاتبة، وهو قوة مركزية في المجال التعبيري، كما في معظم كتاباتها كان وحيا وملهما خاصا لبث العديد من التداعيات والدلالات والرموز التي جعلت من صياغتها للصورة صياغة موحية تنفرد ببناء يقوم على مشهدية قصصية صغيرة، كما أن ''المكان'' هنا يؤسس فضاءِ تخيلياِ يفي بأغراض الحكي والقص، على نحو ذكرها لمدن في الإمارات وعمان قبل التقسيم البريطاني، وبخاصة منطقة النسيم، ملتقطة هذا المشهد بذكاء لتستفيد من محيطه الثقافي والاجتماعي والإنساني في محاولة لخلق عالم يرتبط بوضع قبلي له عاداته وتقاليده وطقوسه ولم ترد له الاندثار من خلال زحف ثقافة العولمة الجديدة· موضوع شائع تناولت سارة في روايتها موضوعاً شائعاً لدى العديد من الكتاب المحليين، والمتعلق برصد حياة إنسان هذه الأرض ما قبل وبعد اكتشاف النفط الذي احدث تغييراً هائلاً في حياة المجتمع، إلا أن تناولها لهذا الموضوع جاء على نحو ''شاعري'' يذكرنا بلغة الروسي أنطون تشيكوف فأنت معه تتخيل ما حدث قبل القصة وما بعدها، فهو يجتزئ ''حكاية'' من الزمن ليعلو بها فوق ''الحكي'' مثلما نراه تماما عند كاتبتنا فموضوعها يحكي من خلال بطلها ''جمعة'' قصة حياة عائلة تنحدر من إحدى القبائل الخليجية العريقة، يهاجر ربُها ابان الانتداب البريطاني الى سلطنة عمان، ثم تعود ليستقر بها الحال في الإمارات، وعلى خلفية ازدهار التجارة وظهور النفط تسطر أسماء أعلام وأماكن وأحداث في ذاكرة بدء نشوء دولة· وتتناول أحداث الرواية من خلال السرد الوصفي تفاصيل دورة حياة الأجيال المتعاقبة ما بين طقوس الولادة والموت والمرض وممارسة السحر والتداوي به، والفقر، وتعدد الزوجات وقمعهن، ووداعة الطفولة، وشغف التعليم، ونشوة الحب العذري، في إطار ''نص حكائي'' استلهم الكثير من المعرفة الشفاهية لحياة مجتمع القبائل، بما تحتويه من رموز وسير الشخصيات البارزة مثل: الشيخ الشاعر معضد بن ديين الكعبي، والشيخ عبيد بن جمعة الكعبي، والشيخ عبدالله بن سالم الكعبي، وغيرهم كثيرون، مستثمرة من ذلك مناخاً قصصياً أسس لملامح الموضوع الرئيس، ومن ذلك ما جاء في الطرس الأول حول الشيخ بن عتيج، ذلك الرجل الكريم الدمث، صاحب الحكمة التي كانت تتجلى في تلك المجالس لإحياء حلقات العلم التي كان يحضرها بعض ''المطاوعة'' غالباً ما يفدون من ساحل عمان والدمام وشبه الجزيرة العربية بعامة ''ما كان الشيخ ليغفل عن تربية وتعليم ولده جمعة الذي أولاه جل جهده، وسخر له امكانياته كلها، من علم ومعرفة وتلقين لخصال الرجال وفروسيتهم، وكثيراً ما عيب الشيخ بن عتيج عدم زواجه من امرأة أخرى تلد له أولاداً ذكوراً، بل كثير ما همس في أذنه أبناء عمومته وقرابته: تزوج، أنت شيخ ورجل أنعم الله عليك، اطلب الذرية ولا تصبر على واحد! ـ ص ·''33 من ذلك يبدو اهتمام الكاتبة بالمكان اهتماماً نوعياً، فقد حولته الى بطل من ابطال العمل الروائي، فهي ترتد اليه كلما تأزمت الامور وبخاصة منطقة النسيم، ومناطق عديدة ركزت عليها مثل دبي، والخضراء، وجملة من قرى الامارات، وبذلك تمكنت الكاتبة من استثمار حكاية المكان لتضمها الى حكاية الشخصيات مما سهل على القارئ إدراك المكان عبر الكلام: ''كان كل منزل من منازل شعبية النسيم يتكون من غرفة كبيرة وحمام وليوان ومطبخ، وقد زاد جمعة في كل دار مبرز ـ مجلس أو مضافة ـ غير أن دار آمنة تتكون من منزلين، فالمنزل الآخر المتاخم لحوش الشيوخ كان فيه ايضا مجلس صغير فيه الثلاجة، حتى أطلق عليه حجرة الفلاجة ص ·''257 حكاية شعرية ثمة تنويعات في لغة الكاتبة التي خرجت بنصها الى ''حكائية شاعرية'' تحت ظلال جملة من ''الطروس'' أو العناوين الرئيسية منها: موت المعلم، الكنز، الحرب، الرحيل الباطنة، سنة الجراد، ألف ليلة وليلة، الحدال، وغيرها· بحيث نلمح الحوار الداخلي أو ''المونولوج'' قويا وملحا طوال تصاعد الاحداث على لسان ''حصة''، كم نجد الحوار الثنائي ''الديالوج'' في صور عديدة من الحوار القريب الى لغة المسرح، في اطار حالة التباس توحد بين ذات البطلة والوطن ما بين الانغماس في الكل الجماعية، حيث يذوب احساس ''حصَة'' في ظل الوطن، ان هذا البعد عن الانا والتحول الى الآخر يظهر كثيرا في استخدام الضمائر: ''سألها احساسها·· فتماهت·· بصدق مشهود لها فقالت: روحي تخالك·· دونك الجنان·· وخزائن الثقلين ومدن المرجان لك وحدك''· أما الصمت عند الكاتبة فغالبا ما يتحول الى ''بوح'' ومناجاة للذات عبر وسائل تعبير مختلفة وبخاصة أنها لم تبتعد عن نفسها كثيرا في رسم شخصية البطلة ''حصة أما مواطن الجمال فعديدة في هذه الرواية ومن ذلك استخدامها لكم هائل من كلمات اللهجة العامية، على النحو الذي رأيناها واضحا في رواية ''الطريق'' لنجيب محفوظ، وقد افردت سارة الجروان هامشاً كبيراً لشرح الكلمات العامية المستخدمة بعناية في سرد الأحداث، وبذلك منحت مصدر الموروث الشعبي المحلي مساحة ممتازة من النص، كون الموروث عنصرا عاكسا للظروف الاجتماعية والنفسية· وفي مجال آخر عنصر ''التقابل'' متلازمة ثابتة ما بين حصة والسلطانة وجمعة والسلطان، هذا التقابل، مع طغيان الإيقاع الانثوي الجميل في عملية السرد الوصفي، حتى حينما استقطعت مفردة من نجاحات دولة الاتحاد وهي ''التعليم'' ظل العنصر المناخ الانثوي سائدا وبخاصة طفولة ''حصَة'' وكيف كانت تستمتع بمخزونات الحكاية الشعبية· لقد أعادت الكاتبة من خلال ريادة التعليم جيلا كاملا الى العهد الذهبي للمدرسة في عهد المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ''طيب الله ثراه'' الذي ارسى مظهرا مهما عرف باسم (حلقات تعليم وتحفيظ القرآن الكريم) وعرف لدى العامة باسم ''الدينية'' يوم أن كانت تصرف مكافأة مالية لمن يتعلم ويحفظ القرآن· الرواية وكما تذكر كاتبتها استغرقت في انجازها ثماني سنوات كاملة، لانها تحكي وتسجل وتسرد من خلالها حكايات لازمان مختلفة مستقاة من التكوين الخاص بالمجتمع الاماراتي، مع الاستعانة بالسوالف المتوارثة والمتناقلة جيلاً بعد جيل، وقد وفر البناء السردي المتدرج امكانية التقطيع على غرار ما نجده في المونتاج السينمائي، حيث التقطيع يشمل الاطار الموحد للصورة، ولكن في تناغم شمولي، وصراع ديالكتيكي متوالد· وقد جاء في إهداء الكاتبة في مقدمة روايتها: ''الى وطني الحبيب دولة الإمارات، تأريخا في ذاكرة وفاء له·· ومن أجله''، وكذلك: ''قبل البدء في نبش سطور هذا العمل الذي اردته خالصاً لحبَه ''وطني'' اذ ان البعض اخذ علي مأخذاً بأن اقحامي لبعض المفردات المحلية في متن النص قد يحول دون عالميته، الا انني ازددت اصراراً ورغبة، اذ لمست في هذا الامر حلاوة المفردة المحلية التي من شأنها ان تركز على هوية العمل فتصبغه بطابع النكهة ذات الخصوصية المترفة وشعرت بان له رائحة ''دهن العود'' الذي يمزج بغيره من العطور يبقى حضوره طاغيا''، ومن ذلك نقول إن عنصر التناص عند الكاتبة كان مهماً في صقل المشهدية، كما كان مهماً في تصدير عمل وصفه برواية التناص الجميل، خروجاً عن مألوف التداعي الذهني الذي وقعت به كاتبات عديدات· لقد اختلط التاريخي بالمتخيل، والواقعي في التعبير الذاتي، والرواية هنا تؤشر الى ذلك التغيير، حتى لا تقتل الرغبة في القراءة، وهنا نستطيع القول إن سارة الجروان بلغتها المفعمة بالحيوية، وبشخصياتها المليئة بالوطنية والرغبة في الحياة، بمناخاتها وأحداثها ذات الخصوصية المستمدة من البيئة المحلية والخليجية هي رواية ''كاملة الدسم'' ان صح التعبير، لكننا نقول والكاتبة تشرع حالياً في كتابها الثاني إن عليها في القادم ردم الهوة بين الإغراق في الرومانسي، والوقوف على أطلال المدهش في الواقعي والتواصل مع المختلف وشبكة علاقات النص اللغوية· وتبقى ''طروس الى مولاي السلطان'' من اجمل الاعمال المحلية في تداخل الذاتي بالموضوعي عبر رؤيا إشكالية، لانها حاولت تقديم اجابات انسانية على اسئلة الواقع، عبر توازي مع طموح الانسان المعاصر بعيداً عن تهميشات التكنولوجيا· لقد قادتنا سارة الجروان نحو تخوم الدهشة من خلال خلطة وكيميائية عسيرة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©