الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لو أنني كنتُ المايسترو لكانت حياتي أفضل

لو أنني كنتُ المايسترو لكانت حياتي أفضل
21 مارس 2009 00:49
ربما يكون إبراهيم نصرالله من أكثر الأدباء العرب غزارة، مع المحافظة على النوعية العالية لمنجزة· فهو شاعر وروائي وكاتب في أدب الرحلات والنقد السينمائي، ويمارس الفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي، وكتب أكثر من أربعين أغنية لفرق وطنية أردنية وفلسطينية، وينشغل هذه الأيام بكتابة سيناريو لمسلسل تلفزيوني طويل مأخوذ من روايته الأخيرة ''زمن الخيول البيضاء'' التي صدرت عام 2008 ولاقت الترحيب واختيرت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية (التي تمنح بدعم من مؤسسة الإمارات وبالشراكة مع مؤسسة جائزة بوكر البريطانية)· على كل حال فإن من الصعب هنا تعداد منجزاته، والإشارة إلى خصوصية تجربته الأدبية، ولكن يمكن المرور بروايته الأخيرة للتعريف بها سواء عبر هذا الحوار الشامل، أو عبر إطلالة مكثفة تشير إلى تميزها على صعيد البناء والخطاب، فنصرالله في روايته الملحمية هذه، يستند إلى إرث عميق من الصراع على فلسطين، سواء أكان هذا الإرث نفسيا تاريخيا أم وثائقيا أم شخصيا، وهو يعود إلى حقبة الحكم التركي، ويمر بالدور البريطاني المتواطئ لاحقا، وبدء الاحتلال الإسرائيلي، في عمل سردي محكم، فائق التشويق، ومتعدد الشخصيات، ضمن أجواء من الواقعية السحرية أحيانا، ومن الخيال الخصب أحيانا أخرى· وربما يعلي من شأن الخيل ككائنات ذات دلالة أسطورية، أكثر منها واقعية، ضمن نوع من التجسيد البشري لها، ولا ينسى أن يغوص في أعماق الإنسان الفلسطيني في قرية الهادية أو على أرض فلسطين كلها، راصدا لحظات كبريائه الوطنية، ولحظات ضعفه أيضا· صحيح أن نصرالله وظّف عددا من السير الذاتية والشهادات التي رصدت تلك المراحل، مثل مذكرات فوزي القاوقجي 1914-،1932 وأكرم زعيتر، ومحمد عزت دروزة وغيرهم، لكن كتابته أصيلة، ومؤسسة لرواية فلسطينية مغايرة لما اعتدنا عليه، من حيث المعالجة والسرد· كما أنه بارع في مجال التصوير السينمائي للحوادث، وتقريبها للقارئ كما لو أن على رأس قلمه كاميرا، وهذا يأتي من استفادته أيضا من المشاهدات المكثفة للسينما العالمية، وبالطبع فإن للروائي الحق في استخدام كتاباته السردية القصوى للوصول إلى جماليات وحوادث مقنعة وتشد حتى النهاية، ولا يمكن في عجالة كهذه الإشارة إلى ما تزخر به 510 صفحات، من الحيوات والحوادث، ضمن حبكات فنية متقنة، وانسيابات سردية سلسلة· وربما في هذا الحوار المزيد من الإضاءة حول هذا العمل تحديدا ومنجزاته الأخرى عموما· تقول سيرة إبراهيم نصرالله إنه من مواليد 1954 في عمان لأصول فلسطينية، وتلقى تعليمه في مدارس وكالة الغوث في مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين، وأكمل دراسته في مركز تدريب عمان لإعداد المعلمين، وعمل في التدريس أولا ثم في الصحافة بين عامي 1978 و1996 وانتقل بعدها للعمل مديرا ثقافيا في مؤسسة عبد الحميد شومان ـ دارة الفنون ثم نائبا لرئيس مؤسسة خالد شومان بين عامي 1996 و2006 وهو متفرغ الآن للكتابة· نال جوائز عدة أهمها جائزة سلطان العويس للشعر العربي عن مجلد أعماله الشعرية ،1997 وأصدر عددا كبيرا من الدواوين الشعرية منها: ''الخيول على مشارف المدينة'' ،1980 ''المطر في الداخل'' ،1982 ''نعمان يسترد لونه'' ،1984 ''الفتى النهر والجنرال'' ،1987 ''فضيحة الثعلب'' ،1993 ''بسم الأم والابن'' ،1999 ''شرفات الخريف'' ،1997 ''حجرة الناي'' 2007 وغيرها· وفي الرواية: ''براري الحُمّى'' ،1985 ''عـــو'' ،1990 ''مجرد 2 فقط'' ،1992 ''حارس المدينة الضائعة'' ،1998 ''شرفة الهذيان'' ،2005 ''الملهاة الفلسطينية''، وغيرها· له كتب في النقد السينمائي والرحلات وللأطفال، وحرر العديد من الكتب أيضا· أقام معارض فوتوغرافية وتشكيلية عديدة، وشارك في العديد من المؤتمرات المحلية والعربية والدولية، وترجمت معظم أشعاره ورواياته إلى أبرز اللغات العالمية الحية مثل الإنجليزية، الإيطالية، الدتنماركية، والألمانية، أما أبرز الكتب التي صدرت عن أعماله فهي: ''شعرية طائر الضوء ـ جماليات التشكيل والتعبير في قصائد إبراهيم نصرالله'' للناقد محمد صابر عبيد، ،2004 ''البنية والدلالة في روايات إبراهيم نصرالله'' للدكتور مرشد أحمد، ،2005 ''الكون الروائي ـ قراءة في الملحمة الروائية (الملهاة الفلسطينية)'' لمحمد صابر عبيد، وسوسن البياتي ·2006 ؟ لنبدأ من ''زمن الخيول البيضاء'' فهي ملحمية الطابع ومقسمة ثلاثة أجزاء ''كتاب الريح''، ''كتاب التراب''، و''كتاب البشر''، وكأنك أردت من خلالها أن تستكمل بشكل نهائي ''الملهاة الفلسطينية'' عبر ثلاث مراحل من الاستعمار التركي، ثم البريطاني وأخيرا الإسرائيلي لفلسطين، فهل يمكن القول هنا إنك استكملت هذه السلسلة ولو بأثر رجعي للتاريخ؟ ؟؟ لا أعتقد أن هذه الملهاة يمكن أن تكتمل، فهناك الكثير الذي يمكن أن أقوله في هذا الشأن، ويقوله غيري بالطبع، ولكن ''زمن الخيول البيضاء'' كان لا بد منها لكي أتأمل بدايات القضية الفلسطينية ومنعطفاتها وأي روح تلك التي سكنت الفلسطيني في تلك الأزمنة، وكيف تشكَّل، وتالياً كيف تشكلت هويته· بعيدا من هذا، من الصعب أن نفهم ما الذي جرى ويجري اليوم في الضفة وغزة والمنافي التي يتواجد فيها الفلسطينيون· وربما كنت إنسانيا، في حاجة الى هذه الرواية، مثل أي شخص أحبها في ما بعد، فقد أتيح لي تأمل تلك الفترة الطويلة، والإحساس بأنني عشت هناك وكنت واحدا من تلك الشخصيات التي تحيا وتموت وتنهض مرة أخرى· وليس ثمة وسيلة للفهم في اعتقادي أفضل من أن نحفر بأنفسنا في أي قضية، ونتأملها من مختلف جوانبها· بالنسبة إلى كتابة روايات ''الملهاة الفلسطينية''، كنت عام 1985 أفكر في كتابة رواية تتحدث عن روح الفترة من عام ،1917 أي دخول الإنجليز لفلسطين، حتى عام النكبة، لكن الأمر لم يكن سهلا، ربما لأنني رأيت أن كثيرا من الكتاب الذين عايشوا تلك الفترة لم يكتبوها· هذا الأمر يضعك أمام امتحان كبير، ولذلك كان لا بد من أن أعطي الرواية كل ذلك الزمن من التأمل والبحث، وحين أحسست بأنني أصبحت هناك بكاملي روحا وفكرا بدأت الكتابة· لكن ما حدث أن العمل الطويل عليها قلب الفكرة الأولى، وأعني الكتابة انطلاقا من دخول الإنجليز، إذ اكتشفت أنني أبدأ من زمن الأتراك، وقبل ثلاثين أو أربعين عاما من دخول الإنجليز، وهو زمن كنت قرأت الكثير عنه أيضا· ؟ في هذه الرواية أيضا قمت بتوظيف المذكرات والسير الذاتية والتاريخ لشخصيات حقيقية عاصرت تلك المراحل ولكنك استفدت منها لتقوم بتحويرها روائيا· ترى كم يحق للروائي في رأيك أن يأخذ من الواقع الحقيقي، وكم هي نسبة المخيال الإبداعي للكاتب لبناء الشخصيات والحوادث؟ ؟؟ الكتب التي استندت إليها، ووثّقت أسماءها في نهاية الرواية، اعتمدت عليها بدرجات متفاوتة تماما، فهناك كتب اعتمدت على أسطر قليلة منها، وهناك كتب اعتمدت على صفحات منها، ولكن كل ذلك كان في أدنى الحدود، وأحيانا بعض الفقرات في بعض الكتب أوحت اليَّ بشيء ما، فطوَّرته، لكن أهم ما أفادني هي الشهادات الشخصية التي جمعتها بنفسي لعدد من كبار السن وأمضيت وقتا طويلا في تسجيلها وتفريغها· أما عن الواقعي والخيالي فأحب أن أقول إن القسم الأول، أو الثلث الأول من الرواية تدور حوادثه في زمن العثمانيين، وبالطبع، لم يكن لديَّ الشهود الذين يحدثونني عن تلك الفترة، ولذا، فإن معظم شخصيات الرواية الرئيسية، تشكلت في هذا الجزء واستمرت في القسمين الثاني والثالث، أي أن الفترة العثمانية كانت أقل فترة أملك مواد واقعية عنها· أما في الفترتين التاليتين، الثلاثينات والأربعينات، فقد تبادل الواقع والخيال الأدوار وتمازجا بحرية، والسبب أنني كنت أريد كتابة رواية بعيدة عن الفكرة التقليدية للرواية التاريخية، بمعنى أن أقدّم تاريخ الإنسان الداخلي وهو يجد نفسه في فترة، أو فترات متشابكة متعاقبة، وسط تعقيدات استثنائية· وبالطبع، فإن ذاكرة الفترتين الأخيرتين عشتها حية عبر الذاكرة المدهشة لأهلي الذين كانوا يتحدثون باستمرار عن كل ما عاشوه هناك وعن حلمهم بالعودة إليه· مصادر الكتابة ؟ هذا يقودنا إلى سؤال: كيف تنظر إلى الشهادات، المراجع، إن صح القول، كمصدر للكتابة؟ ؟؟ بقدر ما تمد الشهادة الكاتب بخيوط فترة زمنية ما، فإنها تضعه في المناخ النفسي الاجتماعي الذي يعيشه الناس، وبغيرها يصبح من الصعب عليه أن يقدّم صورة وفيّة لتلك الفترة، لكنه أيضا في حاجة إلى معرفة الواقع الاجتماعي والسياسي الأوسع، إذ مهما تكن سعة معرفة الشاهد، فأنها تبقى محدودة ومحصورة في نطاق منطقته الجغرافية، وما دام معظم الشهادات التي حصلت عليها هي شهادات فلاحين وقرويين، فإن معرفة الواقع الأوسع، المحيط بالشهادة، تغدو ذات أهمية كبيرة· من هنا يلجأ الكاتب، وكما حدث معي، إلى القراءات التي تتناول تلك الفترة التي يريد الكتابة عنها، ويكون مضطرا في الحقيقة إلى قراءة كل شيء: مذكرات، كتب في السياسة، في الاقتصاد، في الثقافة السائدة في تلك الفترة، في اليوميات، وفي الصحافة التي كانت تصدر في تلك الأيام، وفي أشياء قد يتحدث عنها الشاهد ولكنه لا يستطيع أن يقدِّم معرفة شاملة فيها، مثل كثير من المعتقدات السائدة، والحوادث السياسية والتاريخية، ولذا كان لا بد من اللجوء إلى الدراسات التي تناولت ميتولوجيا الحياة الشعبية الفلسطينية بصورة علمية وواسعة أيضا· وهذا ما حصل معي· ولأن الكاتب الروائي ليس مدوّن سير في النهاية أو جامع شهادات، أو باحثاً، فإن عليه أن يجد المعادل الروائي لذلك كله، وعندما لا يجده، عليه أن يخترعه، أو يخلقه بالخيال، وهذا ما تم في الجزء الأول، إذ تفتحت الشخصيات بأثر من المعرفة العلمية الاجتماعية بعلاقات الفلسطيني مع الخيول· الشهادة في رواية من هذا النوع أشبه بالطين الذي لا بد منه للخزّاف· أو اللون والقماش الذي لا بد منه للرسام· لكن لا الطين نفسه يمكن أن يصنع تمثالا ولا اللون والقماش وحدهما يمكن أن يصنعا لوحة· كما أن الطين نفسه واللون نفسه سيتحولان إلى أعمال خزفية مختلفة، ولوحات مختلفة من فنان إلى آخر· ولذا تبرز المشكلة الأولى لدى الكاتب، في ما يمكن أن يبقيه وما يمكن أن يتجاهله من شهادات، وكيف يمكن أحيانا أن يوفق بين شهادتين متضاربتين، أو متباعدتين بقوة الكتابة أو بقوة الخيال· كما أن كل كاتب له أسلوبه ورؤاه، ونظرته إلى العالم الذي يتعامل معه، ومن هنا، ولذا، لا بد من أن يختار في النهاية، وأن يطور بالخيال أو بشهادات أخرى ما يكتبه· فدائما هناك مساحات فارغة في كل شهادة يستمع إليها، ومساحات فارغة بين الشهادات التي بين يديه· أما ما يمكن قوله هنا أيضا: لو أن كل ما اعتمدتُ عليه من شهادات وكتب ووثائق تم وضعه بين يدي كاتب آخر، هل كان ليكتب ''زمن الخيول البيضاء'' نفسها؟ بالطبع لا· ولذا أظن أن الكتابة أكثر تعقيدا من المفردات الأولية اللازمة لتشكلها· ؟ وماذا عن الشخصيات؟ ؟؟ إنها المسألة المهمة، فالرواية شخصيات، كما هي حوادث، والشهادات تقدّم حكايات غير مكتملة بالنسبة إلى الروائي، مهما اكتملت، أو أجزاء من حكايات، كما تقدّم أجزاء من شخصيات، أو شخصيات غير مكتملة، أو متباعدة، وهنا يأتي دور الكاتب لخلق شخصيات تخدم عمله الروائي، أولا، لكنه في أحيان كثيرة، يقوم بتطوير شخصية صغيرة في حكاية صغيرة هامشية، لتغدو جزءا أساسيا من الرواية، لأن هذه الشخصية على رغم هامشيتها في الشهادة إلا أنها تحمل في جوهرها بعدا روائيا يمكن تطويره وتصعيده بما يخدم رؤية الكاتب وفن الرواية في آن واحد· هناك شخصيات كثيرة في الرواية لديَّ، تطورت وفق هذا المنظور، وهناك أكثر من شخصية متفرقة في الشهادات، تجمّعت في شخصية واحدة، وهناك حوادث وقعت في قرى مختلفة لكنها باتت تكمل بعضها بعضا بقوة الكتابة أو بقوة الخيال، وغدت في النهاية هي حكاية القرية التي كتبت عنها· وهناك بالطبع شخصيات كثيرة جدا خرجت من داخلي· الشهادة الشفوية ؟ ولكن ماذا عن مدى سطوة الشهادة الشفوية عليك ككاتب، ولا سيما انك أيضا التقيت بالعديد من الذين عاصروا بعض الحوادث الفلسطينية ولا سيما في رواياتك الأخرى؟ ؟؟ من الأشياء التي لاحظتها، أن الكاتب قد يبدأ أحيانا من حدث واقعي قدّمته له الشهادة، لكنه لا يلبث أن ينسى بقية الحدث الحقيقي وينطلق به إلى آفاق تخييلية، تنبع من روح الحدث وتتطور، ولكنها لا تخون جوهره، وأحيانا يحدث العكس، إذ يستند الكاتب إلى حدث ويقوم بعكسه تماما، أو قلبه، كي يتحقق معناه الأهم، وأضرب مثلا على ذلك في روايتي ''طيور الحذر'' التي استندت إلى شهادة أمي وشهادة أبي وسيرتي الشخصية، فقد كان الواقعي الذي نعيشه يتمثل في أن الأطفال يصطادون العصافير ويأكلونها، لكن الرواية عكست الوضع، إذ جاءت بولد صغير يصطاد الطيور ويعلّمها الحذر حتى لا تقع في فخاخ الأولاد الآخرين، وهنا انقلبت الحكاية· ؟ كأنك أيضا أعليت من ''الخيل'' ومنحتها بطولة أسطورية في الحوادث وسياق الحياة اليومية· هل يمكن أن نعدّ هذا الأمر نوعا من استحضار لزمن الخيول العربية والماضي التليد للأجداد كرد فعل على الحاضر البائس باشتراطاته الهزائمية؟ ؟؟ لم أكتب لأنتقم من الماضي، أو استعيد ما مات، كتبت لأضيء الحاضر الذي تعيشه شخصيات الرواية، وقد كنت على المستوى الشخصي مفتونا بالخيول، وليست مصادفة أن يحمل ديواني الأول اسم ''الخيول على مشارف المدينة''· ولعل مجاز الخيل بدأ يسكنني بقوة متزايدة بعدما كتبت رواية ''طيور الحذر'' ولم أجد أفضل من الخيل كائنات يمكن أن تحمل أزمنة البراءة تلك في جوهرها، كما أن وجودها يعمق العمل ويوسّعه· ولا أذيع سرا هنا إن قلت إن الحيوان يلعب دورا أساسيا في كل عمل روائي كتبته، ربما كانت طفولتي هي المرجع في هذا المجال، سواء من خلال المعايشة لكثير من الحيوانات، أو في الرغبة بمعايشة بعضها كالخيول· وفي اعتقادي أن الخيل لو غابت عن هذه الرواية، لكنا أمام رواية أخرى تماما، وغير قادرة على التعبير عن روح ذلك الزمان وتقلباته في البراءة والرداءة، في الطيبة والقسوة، في الموت والحياة· ؟ الشخصيات الفلسطينية في الرواية تخلصت من مسألة تنميطها التي وقعت فيها بعض الأعمال الأدبية العربية والفلسطينية السردية الأخرى، أي أنها كائنات مناضلة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها· أنت هنا مثلا أشرت إلى شخصيات خائنة وضعيفة ومنكسرة، فهل هذا يساهم في اعتقادك في فهم جديد لأسباب الهزيمة وتداعياتها بدل إغماض العين عن الأخطاء؟ ؟؟ لا في هذه الرواية ولا في سواها تعاملت مع الشخصية الفلسطينية بأي نوع من النمطية، وقد قلت ذات مرة، إني ذهبت، كاتبا، إلى تلك الفترة لأعرف وأفهم كيف ضاعت فلسطين، ولألتقي جدي الذي كان شابا وأبي الذي كان طفلا وأمي التي كانت طفلة أيضا· لقد أحسست بأنني أقوم برحلة هي نمط من أنماط الرحيل في الزمان، بعيدا من فكرة الخيال العلمي في هذا المجال، والتي باتت تقليدية لفرط تكرارها· الحقيقة أن كل الشخصيات تعاملت معها في مطلق إنسانيتها وأنا أتأملها، وليس الشخصيات الفلسطينية فحسب، فالهبَّاب، الشخصية الأكثر دموية يحطمها الحب في نهاية القسم الأول والحس بالذل، وبترسون، الضابط الإنجليزي السفاح هو شاعر ونقطة ضعفه حبه للخيول العربية· حين يذهب الكاتب إلى مرحلة، أو مراحل كتلك، فإن الشيء الوحيد الذي يجب ألاّ يفعله هو أن يخون نفسه بخيانته الجوهر البشري وتشابكاته، لأن خيانته لهذا الجوهر تنفي فكرة البحث وفكرة الكتابة وتنسفها من أساساتها· الواقعية السحرية ؟ في روايتك ''زمن الخيول البيضاء'' أيضا سرد ينتمي إلى الواقعية السحرية التي اشتهرت بها روايات أميركا اللاتينية، ولا سيما في مجال الغنى الصوري· سؤالي هنا من شقين: هل ترى أنك شعرت بهذه الواقعية السحرية مبثوثة في ثنايا فلسطين وما مر بأهلها فاستفدت منه؟ وهل هذه الصور واللوحات السردية شبه الجاهزة بصريا هي التي قادت إلى اختيار الرواية ليتم إنتاجها تلفزيونيا في رأيك؟ ؟؟ لست أدري إن كان الأمر يتعلق بنوع من الواقعية السحرية، إذ إن التراث الفلسطيني والمخيلة البشرية والمدونة اليومية للحياة تزخر دائما بما يحيل على الأسطوري والسحري، وقد أفدت مما أوحاه اليَّ التراث الفلسطيني والقصص الشعبية الفلسطينية، وطوعته أو حررته بالطريقة التي رأيتها أنسب لكتابة رواية تعبّر عن فلسطين، وتفاجئ الفلسطيني الذي كان يعرفها، بأنه لم يكن يعرفها تماما، بعيدا عن الذاكرة المتداولة، والتي تبدو في أحيان كثيرة مشتركة ومعمّمة· كنت أبحث وسط هذه الذاكرة لكي أؤسس ذاكرة خاصة جديدة تعزز موقع فلسطين في الروح الفلسطينية والعربية ويمكن أن يتقبّلها الإنسان في كل مكان ويُقْبِل عليها، لا بصفتها فقط ذاكرة فلسطينية، بل لكونها أيضا ذاكرة إنسانية مفاجئة للإنسان الذي قد لا يرى في فلسطين إلا حالة من التشرد والقتل اليومي أو الصورة المقلوبة لصاحب الأرض الذي تحول إلى متهم ومطارد بسبب قوة الإعلام الغربية· ولذلك يمكنني القول في شأن هذه الواقعية السحرية، إنني لم أخترع، ولكنني وسعت أفق الحكاية لكي تكون رواية، أو لكي تكون فنا· أما عن الشق الثاني من السؤال والمتعلق بالصورة البصرية، فكما تعرف أن هذه الصورة جزء أساسي من كتابتي الشعرية والروائية، رواية ''مجرد 2 فقط'' والتي صدرت في 180 صفحة، تتكون من 260 مشهدا أو فصلا قصيرا، وكذلك الأمر في ''طفل الممحاة'' و''زيتون الشوارع'' و''براري الحمّى'' وسواها· ربما المغري في رواية ''زمن الخيول البيضاء'' كونها رواية أجيال عابرة لأزمنة مختلفة، ولأنها المرة الأولى تذهب فيها رواية فلسطينية لتتبع الحكاية منذ زمن العثمانيين· ولأن ما فيها يكفي لتغطية مسلسل طويل بصورة مريحة تماما بعيدا عن فكرة المط من أجل بلوغ الحلقة رقم ثلاثين· وهي تالياً مريحة للمشاهد والمخرج والمنتج والممثل والمصور أيضاً· ؟ لننتقل إلى أعمالك الأخرى فمن الملاحظ أنك متعدد الخلق، فأنت روائي وشاعر وكاتب مقالات سينمائية وأدب رحلات، وفوتوغرافي وتشكيلي وكلها مجالات تميزتَ فيها ونلت عنها الجوائز، دعني أسألك بصراحة: كيف يمكن الخلاّق أن يشظّي نفسه في كل هذه الاتجاهات؟ ؟؟ الكتابة هي الشيء الأساسي بالنسبة إليَّ، وأعني هنا الشعر والرواية، أما بقية الفنون فإنني تجاوزت فيها عتبة الاهتمام إلى مساحة التفاعل والمشاركة والاكتشاف من الداخل، وأعني هنا الكتابة عن السينما والتصوير والرسم· وهذا التفاعل هو الذي يحولها إلى جزء أساسي من سيرتي الثقافية كإنسان معايش لها، لا مجرد عابر لها بالمشاهدة· فالفيلم الذي أكتب عنه، غير ذلك الذي أشاهده فقط، لأن الفيلم الذي أكتب عنه أتأمله وأفككه وأعيد تركيبه· وإذا تذكرنا أن السينما هي اليوم من أعظم الفنون التي تشهد تطورا لا نظير له في أي فن آخر، فإن معايشتها تعني أن تغدو السينما بصورة تلقائية جزءا من منظور الكتابة وجزءا من منظور اللغة وطبيعتها أيضا· الأمر نفسه متعلق بالتصوير والرسم، فالصورة المتحركة في السينما هي مجموعة صور متراصّة ثابتة في حقيقة الأمر، والتصوير يمنحك عينا جديدة لرؤية الأشياء، عينا ثالثة ربما· طبعا، نحن في العالم العربي نتحفظ كثيرا عن فكرة التنوع أو التعدد، مع أن أمرا كهذا يعتبر قيمة مضاعفة في كثير من بلاد العالم· هل يعود ذلك لأننا اعتدنا أن نرى أننا أنجزنا الكثير إذا ما أنجزنا أمرا واحدا فقط؟! أم يعود إلى أننا ككتّاب ومواطنين أيضا، غير قادرين على أن نعيش سوى حياة واحدة في الحياة نفسها؟ فالمصرفي هو مصرفي فقط، حياته هي مهنته، والمعلم معلم فقط، حياته هي مهنته، وكذلك الأمر مع المدير والعامل والميكانيكي والشاعر، إذ إن أحدا لا يجرؤ على تجاوز الحدود المرسومة له، ليكتشف أن خارج حديقته الصغيرة، إن كانت هناك حديقة، هنالك غابة أو أكثر من غابة دائما· بالنسبة اليَّ أميل إلى الاعتقاد بأن حياتنا هي مجموعة حيوات، كما هو البحر مجموعة أنهار، أو البحيرة مجموعة جداول، وكلما ازداد عدد الجداول التي تصب فيها تصبح أكبر وأعمق! ؟ بعض أعمالك لم تلق الاهتمام النقدي الذي يشير إلى خصوصيتها أو حتى إلى إخفاقاتها، ولا سيما في الأردن، على الأقل على مستوى النقد الصحافي· هل تعتقد أن هناك مشكلة في هذا التوجه محليا وعربيا أم أن الكتاب الناجحين سرعان ما يكثر حسّادهم وتالياً يتم تجاهلهم؟ ؟؟ قلت يوما، لو سمحت الحكومات للكتاب العرب باستخدام المسدسات لرأيت القتلى يملأون شرفات اتحادات الكتاب العربية وقاعاتها· هناك نمط من العلاقات المخزية وحجم كبير من الكراهية، وقد كتبتْ عن ذلك قبل عشرين عاما تقريبا المستشرقة السويدية مارينا ستاغ وتحدثت عن كراهية الكتاب العرب بعضهم للبعض وحجم النميمة والإقصاء الذي من الصعب أن تستطيع الكتابة العربية بوجوده أن تحقق شيئا كبيرا· بالطبع، دائما هناك استثناءات، وهناك علاقات نادرة قد تجمع بعض الكتاب العرب، لكن الثقافة العربية للأسف حُشرت في مجال القطرية بدل القومية الإنسانية، وهناك صراع مر على تحقيق مكاسب بكل الطرق لهذه الساحة أو تلك· وأحيانا قد تجد نفسك ككاتب محترم غير قادر على النشر في مجموعة من الصحف، أو أن هذه الصحف لا يمكن أن تنشر شيئا عنك إلا إذا كان شتيمة بالطبع· لا أقول إنني أعاني أكثر مما يعاني غيري، ولكنني بالتأكيد خارج أي سلطة سياسية أو حزبية أو إعلامية أو حتى عائلية، وإذا ما نظرت الى ما تحقق لي وسط هذا كله فإن الأمر معقول جدا، فهناك دراسات جامعية كثيرة في العالم العربي وأوروبا حول تجربتي، وفي السنوات الثلاث الماضية صدرت خمسة كتب عن تجربتي الشعرية والروائية، والأمر المهم أن علاقتي بالقارئ أُحسَد عليها كثيرا، فكتبي تباع وتعاد طباعتها باستمرار بصورة ممتازة جدا وتترجم بتسارع مهم· ولذلك أفهم أن يتم تجاهل كتاب لي أو كتب أحيانا، فهناك كتّاب رائعون وكتب رائعة في العالم العربي لا نقرأ عنها خبرا واحدا· ؟ في هذا الصدد أيضا فقد عانيت كثيرا من الرقابة، فما الذي تقوله عن ذلك؟ ؟؟ الشيء الذي يجب أن نتمسك به جميعا هو حرية التعبير، وإذا ما نظرنا إلى الكتب التي تمنع في العالم العربي فإن غالبية التهم منصبّة على محاذير سياسية يرى هذا الرقيب أنها موجودة في هذا الكتاب أو ذاك، بعد ذلك تأتي مسألة الدين والجنس، وهي لا تشكل أكثر من عشرة في المئة من أسباب منع الكتب لدينا، ولذلك أرى أن الرقابة في جوهرها لا تعني المنع فقط، بل تعني أن يجلس الرقيب معك ليكتب أهم مفاصل التاريخ وأن يتحكم بوجهة نظرك تجاه الحياة· والرقابة بذلك هي إساءة الى العقل، وهي سعي لوضع الخيال الإبداعي داخل أحزمة عفنة من نوع مختلف، يقرر الرقيب شكلها ومدى إحكامها، وفي هذا المجال، يمكنني أن أسأل هنا: هل هنالك إنتاج فكري، فني، آخر، معرض للرقابة غير الكتاب؟! وإجابتي: لا، ليس هنالك ما هو عرضة للتضييق عليه إلا الكاتب وكتابه، إذ يمكن أن تنزل إلى الأسواق وترى أفلام البورنو تباع للأطفال، ويمكن أن تنزل وتشتري تسجيلات تحض على التعصب ونفي العقل وتشويه التاريخ بالقراءات المغلوطة وإقفال المستقبل· من المحزن أن الكاتب ممنوع من تأمل الماضي بصورة جريئة، وممنوع من تأمل الحاضر والحديث فيه بصراحة، وممنوع من تأمل المستقبل وهو يراه أشبه ما يكون بثقب أسود يبتلع كل الأحلام، وحتى الصغيرة منها· كل الشعوب تعود وتقرأ ماضيها بصورة واضحة وجريئة حتى تستطيع تجاوز ذلك الماضي فعلا· وعلى رغم أن الحكومات تعيد النظر في ذلك الماضي، وتقرر تجاوزه بإحداث تغييرات فعلية أو شكلية أحيانا، مثل الدخول في مراحل ديموقراطية، إلا أن الكاتب ممنوع من الحديث في أشياء ومفاصل أقرّت الحكومات نفسها بأنها كانت ذات آثار سيئة على المجتمع برمته·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©