الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مراوحة الفكر

مراوحة الفكر
1 نوفمبر 2012
أكدت دراسة جديدة صدرت في كتاب الدكتور محمد يونس أن الخطاب الديني لا يزال يراوح مكانه منذ أكثر من مائة عام، وأن الجدل والنقاش العام لا يزال يدور حول قضايا بعينها، مثل علاقة الإسلام بالمدنية وما يتعلق بتطبيق الشورى ولأي مدى تقترب أو تبتعد عن وسائل الديمقراطية الغربية، وتحرير المرأة، وتجديد الفكر الإسلامي وإصلاح المؤسسات الدينية، وانتماء مصر بين الاتجاه الوطني والاتجاه القومي والاتجاه الإسلامي، والعلاقة بالآخر المختلف دينيا وثقافيا. وعرض الكتاب/ الدراسة لإشكالية معالجة الصحف المصرية للعلاقة مع الآخر الذي جاء خلال فترة الدراسة بوجه مزدوج لا تزال ظلاله تلوح في الأفق، وهو “الغرب المُعلم والعدو معا” حيث مثل نموذجا حضاريا ملهما للنخبة المصرية، وفي النفس الوقت جسد المحتل لمصر وعدد من الدول العربية والإسلامية. كما تناول الكتاب الذي صدر عن دار الكتب والوثائق القومية المصرية ضمن سلسلة “مصر النهضة” بعنوان “الخطاب الديني في الصحف المصرية/ 1882 ـ 1914” تحليلاً عميقاً لعدد من القضايا الدينية التي طرحت في الصحف المصرية منذ الاحتلال البريطاني لمصر وحتى الحرب العالمية الأولى. الماضي والحاضر وذكر الدكتور أحمد زكريا الشلق أستاذ التاريخ المعاصر ورئيس تحرير سلسلة مصر النهضة في تقديمه أن “هذا الكتاب تجتمع أهميته من زاويتين: أولهما: “دراسة الخطاب الديني وكيف يمكن إبرازه في الصحف ومدى تأثيره في المجتمع المصري آنذاك. وما يعاصره مجتمعنا في زمننا من صعود التيارات الدينية سياسياً واجتماعياً على نحو غير مسبوق، وهو ما ظهر جليا في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 والانتخابات التشريعية التي أعقبتها، الأمر الذي يستدعي أهمية دراسة خطابها السابق، الذي عاصر وشارك في حركة التجديد والإصلاح الديني على يد محمد عبده وقطاع مؤثر من تلاميذه”. وقال الدكتور الشلق أن الكتاب “لم يعالج الخطاب الديني في مجاله المباشر أو منفصلا عن الواقع السياسي الاجتماعي، إنما درس موقفه من قضايا على درجة كبيرة من الأهمية مثل: الاستبداد والشورى والحكم النيابي والدستوري، وقضية تحرير المرأة وما ارتبط به من تعليم المرأة وعملها ومساواتها بالرجل”. واهتم المؤلف بدور وتأثير الخطاب الديني في حركة الإصلاح وتجديد الفكر الإسلامي وما يتصل بذلك من إصلاح الأزهر وقضية الاجتهاد . كذلك أفرد المؤلف فصلا مهما لدراسة ما طرحه الخطاب الديني حول مفهوم الوطنية المصرية أو الجامعة الوطنية وما يتصل بها من قضية الوحدة الوطنية، وأكمل الصورة بإضاءة موقفه من دعاة الرابطة أو الجامعة الإسلامية وما اتصل به من علاقة مصر بالدولة العثمانية، كما خصص فصلا لدراسة موقف الخطاب الديني من العلاقة بالآخر وحضارته، فتناول صورة الإسلام في نظر الغرب، ثم موقف هذا الخطاب من نموذج الغرب الحضاري. ويرصد الكتاب وجود أكثر من خطاب ديني طرحته الصحف حول عدد من القضايا المثارة على الساحة المصرية في المجالات السياسية والاجتماعية والدينية، والثقافية. ويوضح أن الأطروحات التي قدمها كل خطاب ديني، قد تباينت وفقا للخط الفكري الذي تنتمي إليه الصحيفة. واعتمد المؤلف في تحليله للخطاب الديني على أبرز خمس صحف صدرت في مصر خلال فترة الدراسة، مثلت أهم التيارات الفكرية والسياسية والدينية التي كانت سائدة آنذاك، وهي صحف: الأهرام والمؤيد والمنار واللواء والجريدة. وكشف الكتاب أن الدور المزدوج الذي لعبه (الآخر) وهو هنا الغرب، انعكس على نوعية الأطروحات التي عرضتها الصحف في خطابها الديني حول كيفية التعامل معه، فالغرب في فترة الدراسة، وربما بعدها، لعب دوري المعلم والعدو معا؛ فهو صاحب الحضارة المسيطرة التي ترفع لواء العلم والحرية، وفى العواصم الغربية قد تلقى الكثيرون من أبناء النخب المصرية تعليمهم، وحملوا القيم الغربية عندما عادوا إلى وطنهم، والغرب في الوقت نفسه هو المحتل لمصر ولكثير من البلدان العربية والإسلامية، والطامع في ثرواتها. مما جعل الخطاب الديني حول العلاقة بالآخر يغلب عليه الطابع الدفاعي. وتوزعت الأطروحات التي عرضتها الصحف المصرية في خطابها الديني حول هذه القضية بين الرد على محاولات الغرب (العدو) تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وكشف مطامعه في العالم الإسلامي، من ناحية، وبيان كيفية التعامل مع نموذجه الحضاري (الغرب المعلم) من ناحية أخرى. فقد قامت جميع صحف الدراسة بتفنيد اتهام الغرب للمسلمين بالتعصب باعتباره أبرز مظاهر تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وأوضحت غالبية هذه الصحف أن هذا الاتهام باطل وأن الغرب يقصد من ورائه تحقيق أغراض سياسية من أبرزها منع الرأي العام الأوروبي من التعاطف مع قضايا المسلمين، وتبرير القسوة التي يتبعها الاحتلال ضد الشعوب الإسلامية الخاضعة له. اتهامات وحجج واعتمدت صحف الدراسة في تفنيدها لهذا الاتهام على حجج استندت إلى سماحة الخطاب الإسلامي في مصادره الأساسية تجاه الآخر حيث يدعو إلى احترام المخالفين له في العقيدة ويعترف بأهل الكتاب ويدعو إلى التعامل بالحسنى معهم، كما استندت إلى الخبرة التاريخية التي تؤكد سماحة المسلمين مع المخالفين لهم في الدين بالمقارنة بتعصب الغرب المسيحي ضد المخالفين لهم في العقيدة مثل اليهود، بل التعصب الذي ظهر فيما بين الفرق والمذاهب المسيحية نفسها في أوروبا منذ العصور الوسطى. فضلا عن أن هذه الحجج قد استندت إلى الواقع حيث يعيش غير المسلمين في الدول الإسلامية ويتمتعون بحرية ممارسة حقوقهم الدينية والمدنية. وتصدت جميع صحف الدراسة لتفنيد اتهام آخر هو أن الإسلام يعارض المدنية مؤكدة ان الإسلام يدعو إلى العلم وان التاريخ الإسلامي يشهد بتفوق المسلمين في ميادين العلوم. واتفقت معظم هذه الصحف على بيان طمع الغرب في الشرق الإسلامي، وسعيه إلى السيطرة عليه. وتباينت الزوايا التي نظرت من خلالها صحف الدراسة لكيفية التعامل مع معطيات الحضارة الغربية، فقد ركزت كل من الأهرام والجريدة على الدعوة إلى الأخذ بالوسائل التي سلكها الغرب في التقدم باعتباره النموذج الأمثل في النهضة، فالغربي “هو معلمنا في كل حال”، على حد قول الأهرام . وإن كانت الصحيفتان قد رفضتا تقليد الغرب في الجوانب السلبية . وأكدت “الجريدة” ان تقليد الغرب في الأمور التي تتناقض مع تعاليم الدين يترتب عليه تقهقر الأمة. أما “اللواء” و”المؤيد” فقد ركزتا بصفة خاصة على التحذير من تقليد الغرب في الجوانب السلبية، وعنيت المؤيد بكشف سوءات المدنية الغربية، وإن كانت الصحيفتان قد دعتا إلى ضرورة تقييم ما يأتي من الغرب بمعيار القيم الإسلامية، بما يحقق التوازن بين الأخذ بعلوم الغرب وفنونه المعاصرة، والمحافظة على التراث والقيم الحضارية للأمة في الوقت نفسه. أما “المنار” فقد عنيت بالتمييز بين الأخذ الواعي من الآخر الذي هو أقرب إلى التعليم، وبين التقليد الأعمى له. وأوضح الكتاب أن الخطاب الديني حول الشورى والاستبداد كان في مجمله داعما ومفسرا لمطالبة الحركة الوطنية بالمجلس النيابي والدستور، بينما لم يبلور هذا الخطاب آلية لتطبيق الشورى مستمدة من التراث الإسلامي أو من التجربة الإسلامية، وإنما اتجه إلى تقديم التفسير الديني لجواز أخذ المؤسسات الديمقراطية الغربية لتطبيق الشورى. تأثير الحزبية تبين وجود تأثير للخط الفكري والانتماء الحزبي للصحيفة على خطابها الديني، وقد تجلت مظاهر هذا التأثير في عدة مواقف من أبرزها: أولا: لم يتضمن الخطاب الديني حول العلاقة بالآخر في “الجريدة” شيئا يذكر عن طمع الغرب في العالم الإسلامي، وهذا وينسجم مع الاتجاه الفكري الذي مثلته “الجريدة” وحزب الأمة التي تصدر عنه، والذي لم يجعل مصالحه تتوقف عند حد مسالمة الاحتلال ونبذ سياسة معاندته فحسب، بل أكد أنه لا جدوى من الاستقلال الذي لا تمتلك الأمة أدوات حمايته، مقتنعا بأن السعي إلى هذه الأدوات يمكن ان يتم من خلال الاستفادة من إصلاحات الاحتلال مما يوجب التخلي عن عدائه. في حين كشفت غالبية صحف الدراسة عن الطمع الغربي في العالم الإسلامي، وإن اختلفت حول الأساليب التي تراها لمقاومته، وقد تأثر خطابها الديني في هذا الصدد بالخط الفكري والانتماء الحزبي، فقد اعتبرت اللواء هذا الطمع امتدادا للحروب الصليبية مؤكدة ان الاحتلال الغربي للبلاد الإسلامية هو حلقة من سلسلة غزوات يقوم بها الغرب في الشرق، ورأت ان التصدي لهذا الطمع يكون بالعدة والسلاح. وهو ما يتسق مع موقف صاحب الصحيفة، مصطفى كامل، والحزب الوطني من الاحتلال البريطاني ورفعه مبدأ “لا مفاوضة إلا بعد الجلاء”. أما المنار فترى أن مواجهة هذا الطمع تكون بإصلاح أحوال العالم الإسلامي، ومعالجة عيوبه التي نتج عنها احتلال بلاد المسلمين، وذلك بالوسائل التربوية، فضلا عن الوسائل الاقتصادية، ودعت إلى مسالمة الاحتلال باعتبار ان ذلك وسيلة لاستمرار مسيرة الإصلاح، وهذا الموقف لصحيفة المنار وصاحبها رشيد رضا، ويجسد مدى التأثر الذي بلغه رشيد رضا بأستاذه محمد عبده الذي تنسب إليه أراء ثابتة في مسالمة الاستعمار خاصة بعد عودته من بيروت، وإن كان رشيد رضا قد نفى هذه التهمة. أما المؤيد فقد أكدت وجود هذا الطمع ولكن لم تظهر موقفها من أسلوب مواجهته، ويظهر ذلك تأثير صاحبها الشيخ على يوسف وانتماء الصحيفة لحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، الذي ارتبط بالخديوي ودافع عنه، فقد اضطرب موقف المؤيد من الاحتلال البريطاني بسبب تبعيتها لموقف الخديوي عباس من الاحتلال، والذي اتسم بالتذبذب والتردد ثم الميل إلى المهادنة. العامة والمتخصصة وأوضح الكتاب وجود تأثير لنوعية الصحيفة (عامة/ متخصصة) على خطابها الديني، فقد أظهر التحليل أن كون “المنار” صحيفة متخصصة في الشؤون الإسلامية قد أثر على خطابها الديني تجاه القضايا محل التحليل، مقارنة بالصحف العامة، وفي هذا الإطار يمكن تحديد ثلاثة أنماط للمعالجة تميزت بها صحيفة المنار (المتخصصة) عن بقية صحف الدراسة (العامة) في الخطاب الديني، وهي: أولاً، التعمق في معالجتها للقضايا من خلال تقديم خلفيات تاريخية ودينية لها: فالمنار لم تكتف ببيان ان الشورى هو أصل نظام الحكم في الإسلام، وأن تطبيقها يمكن أن يتم من خلال النظام النيابي، وانما بينت أنه كان من الممكن أن تتطور بالفعل إلى الشكل النيابي المعمول به في الغرب، لولا وجود ظروف وأسباب تاريخية حالت من دون ذلك، من ابرزها: جهل معظم المسلمين بحقيقة السلطة في الإسلام، وتقصير علماء الدين في القيام بواجبهم لتوعية الأمة بحقوقها السياسية. كما تجلى تعمقها في تناولها لهذه القضية في عدة مظاهر أخرى من أبرزها: العناية بوضع تعريفات للمفاهيم التي استخدمتها في هذا الصدد، مثل الحكومة المقيدة والحكومة المطلقة. وعرضت الشورى باعتبارها الفريضة السياسية في الإسلام. ثانيا، عرض اجتهادات جديدة حول بعض القضايا، من أمثلة ما عرضته المنار في هذا المجال: أنه “يجوز لغير المسلمين أن يكونوا أعضاء في المجلس النيابي للدولة الإسلامية”. وتبني المفهوم التجديدي للحجاب، فالمنار ترى جواز كشف الوجه والكفين ومخالطة المرأة للرجال من أجل التعليم وذلك اعتمادا على قاعدة ترجيح ما فيه المصلحة والمنفعة العامة. ثالثا، الاتجاه نحو المنهج العلمي في معالجة بعض القضايا: على سبيل المثال تميزت المنار في معالجتها لكيفية التعامل مع معطيات الحضارة الغربية بإتباع أسلوب أقرب إلى المنهج العلمي، من خلال التمييز بين الأخذ الواعي من الآخر الذي هو أقرب إلى التعليم، وبين التقليد الأعمى له. وأوضح الكتاب أن جميع صحف الدراسة اتفقت في الهجوم على الاستبداد، فبعد فشل الثورة العرابية التي قامت أصلا لمواجهة استبداد الخديوي، وانتهت بالاحتلال البريطاني لمصر، حدث ارتباط ـ في العقل المصري ـ بين حدوث هذه الثورة والاحتلال البريطاني، وبناء على ذلك ظهرت دعوة في بعض الصحف المصرية تقول أن “استبداد الخديوي لأفضل ألف مرة من استبداد المحتل” وروجت بعض الصحف لفكرة المستبد العادل. وقد رفضت كل من الأهرام والجريدة هذه الفكرة على أساس استحالة الجمع بين العدل والاستبداد. وتضمن الهجوم على الاستبداد في صحف المؤيد والمنار والجريدة الإشارة إلى حكام الدولة العثمانية وبخاصة السلطان عبد الحميد، تلميحا في حياته وتصريحا بعد وفاته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©