الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جوعي يختلف عن جوع هامبسون وفلاحي لا يشبه فلاح الآخرين

جوعي يختلف عن جوع هامبسون وفلاحي لا يشبه فلاح الآخرين
20 مارس 2009 00:11
الكاتب المصري محمد البساطي أحد أبرز الروائيين العرب المعاصرين، لذلك لم يكن ظهور اسمه بين قائمة الكتاب المرشحين لنيل جائزة البوكر العربية (التي تمنح بدعم من مؤسسة الإمارات وبالشراكة مع مؤسسة جائزة بوكر البريطانية) مفاجئاً لمتابعي إنجازه الروائي والقصصي الذي يعود الى أربعين عاما مضت، إلا أن الكاتب في روايته ''جوع'' التي ظهرت في قائمة الروايات المتنافسة يقف في قلب عالمه الأثير، وهو عالم القرية المصرية الذي اقترب منه في معظم أعماله، لا سيما ''صخب البحيرة'' و''فردوس'' و''أوراق العائلة'' و''الخالدية'' و''دق الطبول''، لكنه يعمل على إزاحة الهاجس السياسي لصالح التركيز على كابوس الواقع الاجتماعي الذي تعيشه شخوص الرواية· هنا حوار معه عن تجربته الروائية التي وصلت الى حد التنافس على جائزة البوكر بعد سنوات من نيله جائزة سلطان العويس حيث يدفع هذا الحوار بالروائي الكبير الى مساحات الجدال الدائر حول أعماله في الأوساط المصرية وموقفه إزاء السلطة التي بدا للكثيرين أنها تعاقبه إزاء آرائه السياسية المعارضة التي أعلنها في السنوات الأخيرة· ؟ هل فوجئت بوصول الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية؟ ؟؟ نعم فوجئت بذلك، كما فوجئت بالاستقبال اللافت لها· فعندما كتبتها، اعتبرتها رواية عادية تكمل الطريق الذي رسمته لنفسي لكن الاستقبال النقدي لها لفتني الى أشياء لم تكن في ذهنى، ومن ثم ظلت ترفع من قيمة العمل وهي تعدد طرق قراءته· أتذكر الآن أن ''دار الآداب''، ناشرة الرواية، هي التي تقدمت الى الجائزة وفرحت طبعا بقرارها على الرغم من أنني طلبت أسبوعاً للتفكير في الأمر، وقلت لنفسي ما شأني بالجوائز بعد كل هذا العمر· السؤال يراودني على فترات، لكن الكتابة ممتعة بذاتها كما أنني حصلت على جائزة العويس وفخور بها، ولفترة كنت مكتفيا بها· ولكن عندما فكرت، وجدت أن جائزة البوكر العربية عليها إقبال كبير ولها صدى نقدي مهم فقلت لنفسي: وما المانع في التقدم اليها وبالتأكيد لو فزت بالجائزة فسأكون معتزاً بذلك· ؟ أريد أن أبدأ معك بالجملة الاستهلالية في الرواية: ''ادخلوها بسلام آمنين''· لا شك أنه كانت لهذا الاستهلال دلالة داخل الرواية، فهل أردت مثلا أن تركز على المفارقة القائمة في الواقع المعيشي بين الجوع والفقر كما تجلت داخل الرواية؟ ؟؟ لا شك أن هذا صحيح، ومن الغريب أن بعض النقاد قالوا إن الرواية ترمز الى مصر في لحظتها الراهنة· في الحقيقة لم يكن في رأسي هذا المعنى، لأني كنت أحفظ الآية كقول مأثور أقرأه على اللافتات والبيوت في الريف، خصوصا بيوت العائدين من الحج ولم أكن أعرف أنها آية قرآنية، لكن الأكيد الآن أن المفارقة كانت في رأسي للكشف عن الداخل المصري الممزق· صحيح أيضا أنني عندما بدأت الكتابة لم أكن واعيا أنني أكتب رواية عن مصر، ولكن الكتابة قادتني في اتجاه ملامسة الواقع على طريقتي، فأنا لا أحب البدء من فكر سياسي مسبق لأن الكتابة في هذه الحال تكون بلا طعم· التلقائية مهمة في أي عمل يريد لنفسه أن يبقى· ؟ وما الذي أظهرته لك الدراسات النقدية إزاء العمل؟ ؟؟ أعترف لك بأن كتابتي دائما كانت تبدو لي مثقلة بالحكايات الفرعية، وهذه عادة لم أكن أستطيع التوقف عنها، وفي ''جوع'' بالذات لم تكن هناك حكاية واحدة بل حكايات فرعية تتناسل داخلها، لأن طبيعة موضوع الرواية كانت تفرض ذلك، وخيل إليَّ أن الحكايات الفرعية ستصيب بنية الرواية بالترهل الى أن قرأت ما كتبه الدكتور صبري حافظ في تفسير هذه التقنية وابتكر مصطلحا رائعا في شأنها سمّاه الترصيع السردي· هموم صعبة ؟ في رواياتك بشكل عام هناك رغبة في إظهار القوة الروحية للشخصية المصرية وقدرتها على التحايل على الفقر في واقعها· في ''جوع'' بالذات يتجلى هذا الهم على نحو لافت وإن كان يأخذ شكل السخرية في مساحات كثيرة من السرد· ؟؟ لم يعد الكاتب يستطيع في السنوات الأخيرة تحديدا الابتعاد عن هموم الواقع، حتى في القصة القصيرة، لأن تلك الهموم أصبحت شديدة السطوة وأصبح تجنبها مسألة صعبة ومن ثم يصعب خلال عملية الكتابة الخروج من هذا الهم· ؟ في الروايات التي سبقت ''جوع'' كانت الكتابة تتجه الى رسم صورة القرية الفانتازية التي ليس لها وجود في الواقع، لماذا عدت من جديد الى رسم معالم رواية لقرية واقعية بكل تفاصيل مأساة أهلها؟ ؟؟ اعتبر ذلك نوعا من التشويق، فالمرء يحن أحيانا الى الأرض الصلبة التي اعتاد ان يقف عليها ككاتب، والروايات الفاتنازية التي كتبتها مثل ''دق الطبول'' التي نالت جائزة مؤسسة ساويرس في مصر، جاءت عفوا، ورواية ''الخالدية'' لم أعتبرها فانتازيا كما تصوّر البعض، فهى رواية واقعية تماما· ؟ عدد كبير من المقالات التي كتبت عن ''جوع'' أشارت الى التشابه الموجود بينها وبين رواية ''الجوع'' للكاتب هامبسون، وأنت نفسك لم تنكر إعجابك بالعمل· فهل كانت لديك رغبة في التناص معه؟ ؟؟ رواية هامبسون جميلة فعلا وأنا قرأتها منذ سنوات ولم يخطر على بالي أن أكتب رواية شبيهة· لكن من يقارن بين الروايتين يجد الأجواء مختلفة تماما، وعلى صعيد شخصي كنت مفتونا بحالة الهستيريا التي تملكت بطلها بسبب الجوع، لكن ''جوع'' البساطي كتبتها وأنا أفكر في الهموم التي تعيشها أسرة مصرية فقيرة بهدف تصوير أقصى حالات الجوع بتنويعاته التي يقابلها الفلاح المصري· فرضت الرواية نفسها تكنيكيا عند كتابتها في شكل الكتابة عن ثلاث حركات، وأذكر أنني أردت أن أكتبها على لسان الزوج لكني وجدت أن جوانب أخرى من شخصية الزوجة والابن ستختفي، ومن ثم جاءتني فكرة تقسيمها ثلاث حركات· بعيداً عن الميلودراما ؟ على الرغم من الواقع القاسي الذي عاشته شخوص الرواية إلا أنك تجنبت التورط في الميلودراما اذ لم تعطها الطابع الحزين المتوقع في مناخ كابوسي كهذا· ؟؟ كل أعمالي خالية من الميلودراما لأني أستسخفها، ورأيي أنها تضعف اي عمل· وعندما تكون لديَّ رغبة في إشعار القارئ ببكاء الشخصية فأنا لا أجعلها تبكي البتة لأن ذلك الأسلوب ينهي مفعول الكتابة وسحرها· أفضل أن أكتبها وهي في حالة تأهب للبكاء، وساعتها سينوب القارئ عنها في أداء المهمة· ؟ أنت من جيل الستينات الذي عاش تحت ظلال الواقعية الاشتراكية بمفهومها المبتذل، لكنك طوال الوقت ورغم انخراطك كفرد معهم كنت تبتعد عن هذا المفهوم· فالفلاح عندك ليس هو الفلاح الذي أظهره عبدالرحمن الشرقاوي في روايته الشهيرة ''الارض'' ولا هو فلاح أغنية ''محلاها عيشة الفلاح'' لمحمد عبد الوهاب· ؟؟ تنبهت الى هذا في فترة مبكرة من حياتي لأني عندما قرأت رواية ''الأرض'' لم أحبها إطلاقا لأن الفلاح فيها كان مجهزا بالتعليمات الثورية الخارجة من أدراج الرفاق المناضلين في صفوف الأحزاب الشيوعية· وبالمثل، عندما قرأت قصص محمد صدقي وأدركت تأثيرات مكسيم غوركي عليه، ثم قرأت دراسات محمود أمين العالم عنه وكيف كان يرفعه الى فوق، قلت في نفسي لقد خضع العالم لصدقي· ما أعنيه أن هؤلاء كانوا كتّاب ايديولوجيا أكثر منهم كتّاب فن، فالكتابة شيء آخر وفي طبيعة الحال كنت أشارك هؤلاء الكتّاب رسالتهم النبيلة في الدفاع عن الفقراء لكن وسيلتي كانت مختلفة· كنت أقول لنفسي ''عايز تتكلم في الاشتراكية أكتب دراسات إنما الإبداع شيء آخر''· في تلك الفترة المبكرة من حياتي لم أكن على علاقة وثيقة بأيٍّ منهم، لكني قرأت كل أعمال الشرقاوي وأحببت منها كتابا واحدا هو ''محمد رسول الحرية''، وقلت لنفسي من يملك مثل هذه العقلية الممتازة في البحث لا يمكن أن يكتب رواية جيدة· وفي ظني أن ما أعطى رواية ''الأرض'' قيمتها هو الفيلم الذي أخرجه يوسف شاهين وليس النص الأدبي في ذاته· من ناحية أخرى أنا على اقتناع بأن سنوات الطفولة والصبا هي التي تشكل وعي الكاتب· ومن يتأمل مسيرة كتّاب عظام يجد أن غالبية أعمالهم فيها هذا الرجوع الى سنوات الخطوة الأولى، وأنا لا أكتب عن قرية الواقعية الاشتراكية لأن القارئ قد اكتفى في هذا السياق بما قدّمه اليه عبدالرحمن الشرقاوي في ''الأرض'' أو يوسف إدريس في ''الحرام''، والمشكلات التقليدية التي تناولتها هذه الأعمال وغيرها لم تعد غريبة للقارئ أو الكاتب، والقرية المصرية تغيرت الآن، وأنا ككاتب أحب أن أكتب عن العالم الذي أعرفه وأعرف حتى مكوناته من بشر وطبيعة فأحس بطعمه ورائحته، ولذلك لم أكتب إلا رواية واحدة عن المدينة· ؟ على الرغم من ظهورك ككاتب في الستينات حيث الاهتمام النقدي بتسييد كتاب الواقعية الاشتراكية على النحو الذي أشرت اليه، إلا أنك أيضا وجدت دعما نقديا كبيرا في بداياتك، فهل كنت تشعر بأن ذلك الدعم جاء استجابة لكتاباتك أم بدافع رغبة من نقاد آخرين لتسييد نوع آخر من الكتابة يغاير مسار الكتابة الواقعية؟ ؟؟ قبل أن أدخل مجال النشر أخذت صك الدخول والاعتراف بسهولة بعد فوزي بجائزة أدبية في القصة القصيرة عام 1962 من خلال لجنة يرأسها الدكتور طه حسين، ومن ثم تيسرت الأمور تماما إذ لم أذهب الى أي جريدة أو مجلة لنشر أعمالي إلا وجدت كل ترحيب، مما يعني أن كل كتابة حول أعمالي جاءت بعد ذلك وهي تضع في اعتبارها تقرير عميد الأدب العربي من دون ان تشكك فيه بالطبع· رواية ريفية ؟ كل النقاد لديهم إصرار على أن ما تكتبه هو رواية ريفية بامتياز· لو طلبت منك أن تميز ريف محمد البساطي عن ريف مجايليه أو من سبقوه مثل خيري شلبي والراحل يوسف أبو رية، فماذا كنت تقول؟ ؟؟ الريف في مصر مختلف ومتعدد وكل كاتب يكتب عما يعرفه· الريف الذي جئت منه ساحليّ بمعنى ما، حيث نشأت على أطراف بحيرة المنزلة وهي منطقة ريفية أكثر تمدنا من قرى الدلتا الأخرى، ولذلك تجد فيها الشخصيات التي نقول عنها تلعب 3 ورقات، ذكية ومغامرة وقاسية تجيد القفز فوق واقعها بالحيلة، بالإضافة إلى أن هناك ارتفاع مستوى المعيشة كما أن البحر علّم سكانها صنع علاقات حميمية بين الأسر، وهذا الريف مختلف عن ريف خيري شلبي الطافح بالفقر المدقع· ؟ اللغة في كتاباتك الأخيرة أصبحت يومية وأليفة، ومع ذلك لا تتخلى عن الفصاحة فكيف تختارها؟ ؟؟ خضت معركة في الكتابة مع اللغة، حتى وصلت الى ما وصلت له، ولا أزال أكتب والقاموس إلى جواري وأكتشف كثيرا أن الكلمات الدارجة التي نتداولها فصحى، وأحيانا الكلمة العامية لا تجد لها شبيها بالفصحى، وأختارها لأنها تكون معبّرة بشدة عما أريد كتابته في 3 أسطر، لذلك أستخدم العامية أحيانا لأنها لغة غنية جدا· هذا الجهاد هو أيضا من دروس عبدالفتاح الجمل الذي كان أستاذا في اللغة· من يقرأ روايته ''محب'' سوف تذهله لغتها الفاتنة، واللغة اليومية هدفها أن أعطى إحساسا للقارئ بأن الشخصيات التي يقرأ عنها حية ومجاورة له وهذا مهم بالنسبة اليَّ· ؟ أريد أن أنتقل الى ملاحظة عامة في أعمالك وهي العلاقة مع اللغة التي تبدو حيادية لكنها محمّلة بأكبر قدر من الشاعرية التي تقتنص اللحظات الموحية في حياة الشخوص، فكيف تكونت هذه الخبرة عبر مسيرتك الروائية؟ ؟؟ ربما تعرف أنني عملت موظفا في الجهاز المركزي للمحاسبات، لمدة تزيد على الثلاثين عاما وقد خدمتني حياتي الوظيفية في دعم تجربتي على أكثر من مستوى، لأنني عملت كمفتش مالي أراقب الأداء المالي لمجموعة من المصالح والمؤسسات الحكومية، وأتاح لي هذا العمل فرصة رؤية قرى مصر ومدنها كاملة، الأمر الذي ساهم في إغناء تجربتي الإنسانية واتساع عالمي الروائي· فالفترة التي راقبت فيها الأداء المالي لبعض السجون والمحاكم المصرية أثمرت إبداعيا بخروج مجموعتي ''محابيس'' وروايتي الجديدة ''أسوار'' وساهمت كذلك في تدريبي على كتابة لغة تتسم بالحياد وملتصقة بالواقع لأنها ابنة التقارير الوظيفية التي كنت أكتبها بصرامة وحياد وفيها افتقار لغوي يرفض الزوائد، أما الشاعرية فهي ابنة تجربتي القصيرة كشاعر· فقد بدأت مثل معظم المبدعين بكتابة الشعر، ولا أزال الى الآن أمتلك صندوقا مليئا بالشعر الرومنطيقي الذي لم أنشره وتوقفت عن كتابة الشعر بعد أن فزت بجائزة في القصة، أما رهافة الجملة الشعرية فهي دائما ابنة الموقف نفسه وليست ابنة لغة النص، لأن لغتي القصصية ليست شعرية· هي لغة ملتصقة بالواقع كما قلت لك· ؟ قلت إن ما كان يشغلك عند كتابة ''جوع'' بشكل أساسي هو التعبير عن مشاهد مؤلمة في الحياة اليومية وأشرت الى مشهد لمواطنين مصريين يأكلون من صناديق القمامة؟ ؟ كنت أرى الكثير من هؤلاء الناس وأنا أطل من شرفة منزلي ورأيت أن مصر وصلت الى حالة تعبانة وأنا عمري ما رأيتها في هذه الحال، وكان من الصعب الكتابة والقفز فوق واقع على هذه الدرجة من الفساد والقسوة· ؟ ما هي حدود الإسقاط بين شخصية رجل الدين في الرواية ومثيلها في الواقع؟ ؟؟ رجل الدين في الرواية مستوحى من شخصية حقيقية أعرفها· ولو كتبتها كما عاشت حياتها، لخرج نص ساخر بامتياز· المؤكد أن تلك الشخصية موجودة في كل مكان، يكفي أن تنظر الى سلوك رجال الدين المقربين من السلطة في مصر وغيرها لتدرك ما أقول· الكتابة والسياسة ؟ بعيدا عن الكتابة يردد البعض أن محمد البساطي انخرط في سجال ثقافي له طابع سياسي في السنوات الأخيرة، فما أسبابك التي دفعتك الى المشاركة المتأخرة في الشأن العام؟ ؟؟ يمكن أن أقول لك بطمأنينة كاملة إن السجال الوحيد الذي شاركت فيه، وكان له طابع سياسي ـ ثقافي هو توقيع البيان الذي صدر من ستة من كبار المثقفين، وكان مضادا لمؤتمر المثقفين الذي انعقد تحت شعار ''نحو خطاب ثقافي عربي جديد'' وأثار ضجة كبيرة وأثبتت الأيام أن مخاوفنا عن المؤتمر كانت صحيحة ولا تزال قائمة، فنحن لم نكن ضد إقامة المؤتمر لكن كانت لدينا تحفظات على التوقيت وعلى الشكل التهريجي الذي سعى إليه وزير الثقافة الذي يبحث عن دور له وسط المثقفين، ويبحث عن الحضور والفاعلية القائمة على الضوضاء الثقافية والمهرجانات لأنه وزير يبحث عن الضوء ويخاف من الظل· ؟ ما الدرس الذي تعلمته من أزمة الروايات الثلاث التي انتهت بإقالتك من مهمة الإشراف على واحدة من سلاسل النشر التابعة لوزارة الثقافة في مصر؟ ؟؟ كانت الأزمة كما يعلم البعض رقابية وسياسية في الأساس، حيث كانت الدولة تعمل على مغازلة بعض القوى المحافظة، وعندما رفضت العمل بعقلية الرقيب جرى ما جرى· لكن الحياة الثقافية في مصر انتفضت كلها لحماية حرية الإبداع وأدركت قدر الزيف في التجربة كلها، وقد تعلمت منها أن أقف مع الأشياء الجوهرية الأساسية مثل حرية التعبير وتعلمت أن المثقفين الأحرار هم القوة التي نريدها لمواجهة السلطة وردعها· لكن الوضع مؤسف حاليا لأن المثقفين في حالة مهلهلة بعد أن استطاع النظام أن يفتتهم· ؟ كانت روايتك ''صخب البحيرة'' التي صدرت عام 1996 بحسب وصف الكثيرين نقطة فارقة في مسيرتك ككاتب، حتى إن كل ما جاء بعدها يشكل عالما قائما بذاته رغم احتفاظه بسمات من عالمك القديم· ؟؟ من الصعب وضع أي رواية تحت تأويل واحد، فكل قارئ يراها بشكل مختلف وأنا مندهش من ذلك· عندما اكتب لا أخطط لشيء وأفضل أن تأتي الكتابة عفوية، لكن ''صخب البحيرة'' نالت اهتماما كبيرا ربما لأنها لامست عملية الخلق الإلهي· وفي تاريخ الأدب كله، لكل كاتب عمل اتفق النقاد على أنه الأبرز والأعمال الأخرى ليست إلا حلقة لاستكمال هذا العالم، فكثير من الناس ترى أن ''الحرافيش'' هي عمل نجيب محفوظ الرئيسي، وبالمثل يعتقد الكثيرون أن ''صخب البحيرة'' هي درة أعمالي وما جاء بعدها استكمال لعالمها· ؟ لكن ألا ترى معي أنك اختلفت ككاتب بعد نجاحها حتى أن إنتاجك بعدها اتسم بالغزارة والتدفق؟ ؟؟ قعدت 5 سنوات من دون أن أكتب حرفا واحدا· كنت غادرت الوطن وعملت في السعودية حيث شعرت اني مثل نبات خرج من التربة، الى درجة أني ظننت اني لن أكتب بعد ذلك ابداً، ولكن الطفرة التي تتحدث عنها جاءت بعد تقاعدي من العمل الوظيفي وتفرغي للكتابة والقراءة· ؟ على الرغم من أن النقاد يرون أن ''صخب البحيرة'' هي أهم أعمالك، إلا أنك ترى أن ''ويأتي القطار'' و''أصوات الليل'' هما الأهم من وجهة نظرك؟ ؟؟ أقول ذلك لكيلا أستسلم لكلامهم وأجعله قيدا على كتابتي· لكن ربما اعتقد أن ''ويأتي القطار'' فيها جزء من السيرة الذاتية لي، لذا أحن لها اكثر من اي عمل آخر لي· ؟ ولماذا لم تفكر في كتابة سيرة ذاتية كنص أدبي خالص؟ ؟؟ لا يزال الينبوع الذي آخذ منه في حالة تدفق، وعندما أشعر انه لم يعد يوجد لديَّ ما أكتبه فمن الممكن أن أفكر في العكوف على كتابة سيرة ذاتية ومن الممكن ان تكون سيرة جيدة· ؟ عمل مثل ''ليال اخرى'' هل تعتقد أنه كان ضحية الخروج عن عالمك التقليدي، وطريقة التلسين في قراءة العمل الذي اقترب من سيرة شخوص معروفة في الحياة الأدبية؟ ؟؟ الشخصية التي كتبت عنها في الرواية موجودة وحية ومعروفة من الجميع، وعندما قالوا لها إنني كتبت عنها رواية قالت أنا سعيدة بما كتبه البساطي، فهي شخصية مثقفة استطاعت ان تصل بوعيها الى أمور لم يصل اليها من أساؤوا الى العمل وتورطوا في تفسيره بهذا الأسلوب· ؟ لكن المؤكد أن النميمة شاعت عن العمل من حيث رغبتك في استهداف شاعر عامية معروف أضرت به؟ ؟؟ هذا صحيح وقد ساعد على ذلك أن الرواية لم تنشر في مصر واكتفيت بطبعتها اللبنانية· ؟ منذ سنوات يسيطر عليك هاجس الرواية العائلية، ولم تعد تميل الى كتابة الشخصيات المنعزلة كما كنت في السابق· ؟؟ ربما يكون ذلك بسبب الخلفية الريفية التي نشأت فيها، حيث يصعب فرار الفرد من محيطه العائلي، لكن في بعض القصص ألجأ الى نماذج منعزلة لعمل ثراء يغذي روافد الرواية· ؟ في رواية ''أوراق العائلة'' على سبيل المثال، هناك ملاحظة أساسية تتعلق باغتراب الشخصيات رغم الأجواء الحميمية البادية في الرواية· ؟؟ لا أتعمد رسم شخصية فيها هذا الاغتراب الذي تتحدث عنه، وملامح أي شخصية تتكون أثناء الكتابة، ثم أجد قراءة نقدية ترى في هذه الملامح شكلا من أشكال الاغتراب، والحقيقة أن كل شخصية تكون حاضرة في عقلي الباطن· أنا لا أكتب متعمدا، وعندما بدأت الكتابة في ''أوراق العائلة'' كنت مدفوعا بالرغبة في كتابة قصة حب جميلة، ومن أجل هذا الدافع أردت إبراز قيمة الحب وسط علاقات اجتماعية معقدة، وتدريجيا تكونت الرواية بصورتها التي خرجت بها وفيها الكثير من ملامح رواية الأجيال، وما تغير فقط من نقطة البداية هو النهاية لأنني كنت أفكر في نهاية أخرى وجدت عند اكتمال العمل أنها غير صالحة لأن المعنى قد اكتمل والإيقاع توقف عند نقطة موت الأب· رواية الأجيال ؟ على ذكر رواية الأجيال، نحن نعرف هذا النمط عربيا في كتابات نجيب محفوظ وفتحي غانم وهي كتابات فيها دائما الرغبة في استكمال القصة الأولى بأجزاء ثانية وثالثة، فهل كانت لديك رغبة استكمال عالم ''أوراق العائلة'' في ما كتبته بعد ذلك من روايات؟ ؟؟ رواية الأجيال بالمعنى الذي يكتبه محفوظ وفتحي غانم كانت مهمومة بأن يكشف كل جيل عن فترته التاريخية وما حدث فيها من تحولات اجتماعية من منظور رؤيته الشخصية الروائية لها، وكذلك التقنية الأساسية كانت تعتمد على قول هذه الشخصية وصوغها، وتكون الرواية من تعدد الأصوات وهو أمر لم يكن في حسباني عند كتابة ''أوراق العائلة''· فهاجس الكشف عن ملامح لفترة تاريخية في عينها لم يكن في ذهني، وقصة الأجيال عندي لا تعني الامتداد التاريخي وهي غير معنية برصد التحولات الاجتماعية التي تكشف عن نفسها عبر تفاصيل صغيرة ليس فيها هذا النفس الايديولوجي المنحاز· فانشغالي الأساسي هو العلاقات والقيم الإنسانية التي كانت راسخة في الريف المصري، وأعتقد أنها تتعرض الآن للتأكل· ؟ انشغالك بكتابة سردية تتعدد فيها أصوات الرواة والمستويات اللغوية، هل هو أثر واضح لذائقتك الموسيقية؟ ؟؟ أنا أعشق الموسيقى وأسمعها أثناء الكتابة فهي تساعدني على تأمل أي مشهد والاستماع إليه كاملا بمختلف عناصر الطبيعة، وهذه المرة ساعدتني الذائقة التي نتحدث عنها في التفكير في استخدام النساء في الرواية في وضع أقرب الى الكورس كما نعرفه في المسرح الإغريقي، ووجدت أن هذه التقنية تغني عن تكرار السرد وملل رواية الحوادث على لسان راو واحد، ولكسر تراتبية العمل ذاته· ووجدت الكورس يلخص الحوادث ويحدد الإيقاع بحيث يبدو تطور الوقائع كانعكاس طبيعي لأفعال الشخوص· ؟ وهل كان التفكير في المسرح الإغريقي تحديدا مدخلا للتعامل مع شخصية الأب في ''أوراق العائلة'' كبطل تراجيدي بالمعنى الإغريقي، خصوصاً مع وجود افتتاحية للنص الروائي مأخوذة من يوربيدس؟ ؟؟ ما زلت أتعامل مع الأدب الكلاسيكي كأدب عظيم وممتد وقادر على تقديم إجابات لأي ورطة تقنية تواجه كاتبا معاصرا، ولا يجوز إطلاقا إهمال هذا الأدب بدعوى الحداثة، ومن ثم فتأثيره في أعمالي ممتد· ؟ معظم النقاد الذين تناولوا رواية ''فردوس'' تحدثوا عن نموذج جديد للمرأة الريفية يتبدى في أعمالك وهو نموذج المرأة التي تحاول مواجهة السلطة الذكورية· النموذج نفسه تكرر بملامح مختلفة في أعمالك الاخرى، فهل أنت مهموم فعلا برفع القهر عن المرأة الى هذا الحد؟ ؟؟ لديّ اقتناع بأن المرأة العربية تعرضت لظلم تاريخي فهي تعيش مهانة مستمرة، خصوصاً في ظل الردة الأصولية التي شهدتها المنطقة وجعلت إهانة جسدها فعلا يوميا، وجعلتها هي ضحية لشبكة معقدة من القوانين والإرث التقليدي الذي يتعامل معها كسلعة فقط· لذلك جاءت رواياتي لتقول إن هناك امرأة مختلفة وتقاوم على طريقتها وهي في هذه المقاومة لا تستند الى خطاب نسوي يدّعي التقدمية وإنما الى ميراث من الحيلة والعطاء· فالمرأة الريفية هي حاملة الحكاية والعمود الراسخ لأي أسرة، وبدونها يتحطم كل شيء· وعندما وجدت أن هذا النموذج ينحسر، بدأت بكتابته لكي أقاوم انحساره، وأؤكد أن لكل امرأة بطولة وكنت أجد ملامح هذه البطولة دائما في أمي التي تحملت عبء بنائنا جميعا، والمرأة التي تجدها في اعمالي هي امرأة تمارس دلالا أنثويا جميلا وتبدو أكثر عملا من الرجال· ؟ عندما تتأمل مشوارك الأدبي، هل تشعر بالإنصاف ككاتب على صعيد الاستقبال النقدي والترجمة؟ ؟؟ نعم أشعر بالرضا والإنصاف، فقد كتب عني أحسن النقاد حتى من جيل لا يعرفني وترجمت اعمالي الى لغات عدة، وتالياً لا أشكو من أي شيء· ؟ تتحدث عن استقبال الشباب لأعمالك، هل تعتقد أن هذا الاستقبال الجيد دليل على صحة اختياراتك الفنية؟ ؟؟ سمعت من كاتب روائي شاب حيّانى ذات مرة، بجملة: ''يا استاذ انت بقيت تكتب زيّنا''! غيري قد يعتبر هذه العبارة إهانة، أما أنا فقد سعدت بها لأن كتابتي لا تزال شابة وقادرة على أن توضع في سياق معاصر· ؟ هل تعتبر الإقبال الجماهيرى على قراءة الروايات علامة صحة أم استجابة لظاهرة وقتية؟ ؟؟ نعم علامة صحة، خصوصا أن فن القصة القصيرة ينزوي في العالم كله، ولا أدري لماذا، مع أنه فن صعب كاشف للعيوب بينما الرواية فن سهل·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©