الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عملية هزّ الشباك

عملية هزّ الشباك
8 نوفمبر 2013 20:10
يوليو 1986، بطولة كأس العالم بالمكسيك انتهت للتو بتتويج المنتخب الأرجنتيني بطلاً، ومارادونا فعل كل شيء: راوغ من منتصف الملعب، وأحرز الأهداف برأسه وقدميه، ويده أيضاً. وكنت كلما أرى الشباك تهتز أشعر بالحسرة، فمشهد انطلاق الكرة نحو المرمى واهتزاز الشبك واستقرار الكرة خلف الحارس هو أجمل ما في كرة القدم، بينما ملعبنا في «الفريج» ليس إلا ساحة رملية توجد على طرفيها قوائم خشبية كأنها أعجاز نخل خاوية. المرمى اليمين قائم أمام حائط حظيرة يملكها رجل عجوز حاد الطباع، ونصف التسديدات تصطدم بقوة بالحائط وترتد الكرة إلى منتصف الملعب، سواء كانت التسديدة هدفاً أو ذهبت خارج المرمى. والنصف الآخر من التسديدات تعلو الحائط وتسقط الكرة في الحظيرة، ويضيع الوقت في البحث عن الكرة بين أرجل الجواميس وكتل الفضلات المتناثرة في كل مكان، مع تحمّل الشتائم من صاحب الحظيرة إذا كان موجوداً حينها. أما المرمى الأيسر، فخلفه ساحة خالية تنتهي بسور مسجد، وكل الكرات التي لا يتمكن الحارس من الإمساك بها، تذهب بعيداً لنحو 300 متر تقريباً لتستقر تحت السور، فيضيع المزيد من الوقت في الجري خلف الكرة وإحضارها من آخر الدنيا. كان غالبية الأولاد لا يحصلون إلا على درهمين في اليوم، بينما أرخص أنواع الشباك تباع بنحو 300 درهم على ما أذكر، واستطعنا قبل سنوات، وبعد سنوات من النقاش والتفكير، شراء شبك للملعب، لكن للأسف لم نفرح بهزّه إلا يومين أو ثلاثة، ففي ليلة ظلماء يُفتقد فيها الشرف، أغار لصوص على ملعبنا ونزعوا الشباك، وحطّموا العوارض الخشبية أيضاً، ونثروا قطعاً صغيرة من الزجاج في أرجاء الملعب. وبالطبع، أصبح الكلام عن الشباك من الأشياء المحرمة، فلم يكن من الهيّن علينا أن نمتنع عن شراء الحلويات والشيبس والكولا أياماً متواصلة لنوفّر قيمتها لشراء شبك يسرقه أبناء الأفاعي. ولحسن حظ ملعبنا أن صديقاً لي أخبرني وهو يضحك ويشير إلى نعليه الجديدين بأنه أخذ النعلين من المسجد بعد أن خرج ولم يجد نعليه المهترئين، فقلت له بعفوية وببراءة: وما ذنب صاحب النعلين الجديدين؟ فقال بعفوية أيضاً وببراءة: وما ذنبي أنا؟ هل أخرج من المسجد حافي القدمين مثلاً؟ فعلاً، ما ذنب ملعبنا، هل نلعب بلا شباك مثلاً؟ صحيح أننا لا نعرف من الذي سرق شبكنا، لكننا نعرف جيداً أن هناك ملاعب توجد بها شباك. لا ذنب لأحد سوى الشيطان، فهو الذي سرق أول مرة من رجل، فسرق هذا الرجل من رجل آخر، والآخر سرق من آخر، وهكذا. كانت فكرة الإغارة على ملاعب «الفرجان» مستحيلة، فليس كل الأولاد ودعاء أو جبناء مثلنا، وليست كل الملاعب مستباحة مثل ملعبنا، وأهم شيء، لا أحد ضمن أعضاء الفريق يعشق مثلي الكرة ولديه الجرأة لركوب الصعاب من أجلها.. فخطر ببالي أحد الأندية الرياضية الذي كان قريباً من منزلنا. وما شاء الله، خلف أسوار ذلك النادي العريق ملاعب كثيرة، لكن المشكلة أن مرمى كرة القدم عريض جداً بالقياس إلى مرمى ملعبنا، فمرمانا في عرض وطول مرمى ملعب كرة اليد، لكن للأسف هناك ملعبان فقط لليد، واحد في الصالة المغطاة ولا يمكن الدخول إليها خلسة، والثاني في مكان مفتوح لكنه يقع تحت حراسة دائمة. أخذت أجري مسحاً في ذاكرتي لكل الملاعب التي يمكن أن يكون بها شباك، وتذكّرت مدرسة إعدادية يدرس بها أحد أشقائي، وقد دخلت هذه المدرسة يوماً ورأيت الملعب يقع بعيداً عن غرفة الحارس، كما أن هناك بوابة حديدية تقع خلف المدرسة.. فقُضي الأمر. فجأة، طلبت من أبي اصطحابي معه إلى محلّه في السوق، فقد كانت المدرسة قريبة نسبياً من ذلك السوق، ويبدو أن أبي فرح كثيراً بالتغيير الكبير الذي طرأ على ولده، إذ كانت الوالدة تحن طوال فترة الصيف بأن أرافقه إلى السوق لتعلم شيء مفيد بدلاً من تجزية الوقت مع أصدقاء السوء. المهم أنني حققت رغبة أمي في ذلك اليوم وابتعدت عن أصدقاء السوء، وبالوصول إلى المحل، تواريت عن الأنظار واتجهت إلى المدرسة سيراً على الأقدام، وقبيل المغرب وصلت إلى هناك، وبعد قليل كنت أقفز من سور المدرسة بعد أن رميت الشبك في الخارج، ولسوء الحظ أنني لم أتمكن من استعارة الشبك الآخر، فالمرمى الثاني كان أقرب إلى غرفة الحارس، ويبدو أنه رآني أثناء الاقتراب من المرمى، فقد سمعته ينادي علي، فأخذت أجري مكتفياً بشبك واحد. ولأن الشبك كان ثقيلاً علي، فقد أوقفت سيارة أجرة وانطلقت إلى حيث يوقف أبي سيارته، وهناك خبأت الشبك تحت السيارة، وكان الظلام حليفاً لي، واشتريت «سمبوسة» من مطعم هندي وعدت إلى المحل وتعمّدت أن يراني أبي وأنا ألتهم تلك العجينة المثلثة ببراءة الأطفال. بقيت أفكّر في الشبك طوال الوقت، فكيف سأنقله بسيارة أبي إلى البيت؟ وكنت أسير خلف أبي بعد إغلاق المحل متجهين نحو السيارة وليس في بالي أي خطة، وحين فتح أبي السيارة وجدت نفسي أصعد إليها بينما الشبك تحت السيارة ينتظرني. قبل أن ينطلق أبي، قلت له بأنني أرغب في الجلوس في صندوق السيارة الخلفي، فقد كنت صغيراً وبريئاً ومن عادة الصغار اللعب في الصندوق الخلفي، فوافق أبي، فكان أمامي ثواني قليلة لأتصرّف. نزلت من السيارة وفتحت الباب الخلفي، وبلمح البصر انحنيت وسحبت الشبك ووضعته في الصندوق وجلست فوقه وتنفست الصعداء. الآن يمكن العودة إلى الملعب بحذاء رياضي وليس بخفي حنين. كان أبي يوقف السيارة في فناء البيت، ولا يقفل أبوابها، فنزلت من السيارة بهدوء، ودخلت الصالة ورأيت نظرات الرضا في عيني أمي، وبعد قليل عدت إلى السيارة وأخذت الشبك إلى سطح البيت، ثم آويت إلى فراشي وأنا أحلم بعصر الغد، حين سألعب مثل مارادونا وأهز الشباك. عصر اليوم التالي، أخذت أبكي وأنا أرجو أمي أن تتركني ألعب الكرة خارج المنزل، وهي تصر على أن أرافق أبي إلى المحل، وتقول: كنت أعتقد أنك بدأت تفهم، لكن يبدو أنك تحتاج إلى بعض الضرب. ولم يكن هناك بدٌ من الرضوخ، وأصبح للملعب شبكان. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©