الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نجيب محفوظ ومكسيم غوركي: إشعاع العزلة

نجيب محفوظ ومكسيم غوركي: إشعاع العزلة
5 نوفمبر 2015 01:18
غالباً ما يطرح اسم نجيب محفوظ، الأديب المصري العربي (11 ديسمبر 1911 - 30 أغسطس 2006)، كمثال على تلك المعادلة الحساسة والقاطعة بين المحلية والعالمية. كان محفوظ ابن البيئة المحلية المغرقة في محليتها، ومنها نهل بغزارة ليؤثث منجزه السردي الرائد، وبسببها حاز جائزة نوبل للآداب (1988). لم تخترق أعمال محفوظ الروائية الفضاء المصري ـ القاهري تحديداً ـ سواء في أمكنتها، أو شخصياتها، لكنها استطاعت أن تضفي على فضائها المؤطر جغرافياً بحواري مصر القديمة رحابة عالمية.. قبل محفوظ المصري، انطلق آباء الرواية الكلاسيكية الروس من أمكنتهم المعزولة تحت طبقات الصقيع، والحكم القيصري، ومعاناة الناس في الأرياف والمصانع، لكي يصيغوا ملاحم غدت علامات في الآداب العالمية. مثال هؤلاء مكسيم غوركي (1868 - 1936) في رائعته «الأم» التي سجل فيها لحظة غليان المرجل الروسي، قبل أن يصبح انفجاره مدخلا توثيقياً للقرن العشرين. أيقونة غوركي «الأم» نقلت روسيا الأمكنة والبشر، إلى كل الأمكنة والبشر على امتداد العالم.. هنا اقتطاعات من سرديتي نجيب محفوظ ومكسيم غوركي: يارب يا معين.. يا رزاق يا كريم.. نجيب محفوظ تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود الغابرة، وأنه تألق يوماً في تاريخ القاهرة المعزية كالكواكب الدرية. أي قاهرة أعني؟.. الفاطمية؟.. المماليك؟ السلاطين؟، علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار، ولكنه على أية حال أثر، وأثر نفيس. كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصنادقية، تلك العطفة التاريخية، وقهوته المعروفة بقهوة كرشة تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك، هذا إلى قدم باد، وتهدم وتخلخل، وروائح قوية من طب الزمان القديم الذي صار مع مرور الزمن عطارة اليوم والغد..! ومع أن هذا الزقاق يكاد يعيش في شبه عزلة عما يحدق به من مسارب الدنيا، إلا أنه على الرغم ذلك يضجّ بحياته الخاصة، حياة تتعسل في أعماقها بجذور الحياة الشاملة، وتحتفظ ـ إلى ذلك ـ بقدر من أسرار العالم المنطوي. *** آذنت الشمس بالمغيب، والتف زقاق المدق في غلالة سمراء من شفق الغروب، زاد من سمرتها عمقاً أنه منحصر بين جدران ثلاثية كالمصيدة، له باب على الصنادقية، ثم يصعد صعوداً في غير انتظام، تحف بجانب منه دكان وقهوة وفرن، ويحف بالجانب الآخر دكان ووكالة، ثم ينتهي سريعاً ـ كما انتهى مجده الغابر ـ ببيتين متلاصقين، يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة. مضت حياة النهار، وسرى دبيب حياة المساء، همسة هنا وهمهمة هناك: يارب يا معين. يا رزاق يا كريم. حسن الختام يا رب. كل شيء بأمره. مساء الخير يا جماعة، تفضلوا جاء وقت السمر، اصح يا عم كامل وأغلق الدكان. غير يا سنقر ماء الجوز. اطفئ الفرن يا جعدة. الفص كبس على قلبي. إذا كنا ندوق أهوال الظلام والغارات منذ سنوات خمس فهذا شر أنفسنا. بيد أن دكانين ـ دكان عم كامل بائع البسبوسة على يمين المدخل وصالون الحلو على يساره ـ يظلان مفتوحين إلى ما بعد الغروب بقليل. ومن عادة عم كامل أن يقتعد كرسياً على عتبة دكانه – أو حقه على الأصح – ويغط في نومه والمدية في حجره، لا يصحو إلا إذا ناداه زبون أو داعبه عباس الحلو الحلاق. هو كتلة بشرية جسيمة، ينحسر جلبابه عن ساقيه كقربتين، وتتدلى خلفه عجيزته كالقبة، مركزها على الكرسي ومحيطها في الهواء. * من رواية «زقاق المدق» أسألك، ربّ، الرعاية للمسلمين والنصارى والإنجليز! كم تروعها المآذن التي تنطلق انطلاقاً ذا إيحاء عميق. تارة عن قريب حتى لترى مصابيحها وهلالها في وضوح كمآذن قلاوون وبرقوق، وتارة عن بعد غير بعيد فتبدو لها جملة بلا تفاصيل كمآذن الحسين والغوري والأزهر، وثالثة من أفق سحيق فتتراءى أطيافها كمآذن القلعة والرفاعي وتقلب وجهها فيها بولاء وافتتان، وحب وإيمان، وشكر ورجاء، وتحلق روحها فوق ذراها أقرب ما تكون إلى السماء، ثم تستقر منها العينان على مئذنة الحسين، أحبها ـ لحب صاحبها ـ إلى نفسها. فتنتفض نظرتها حناناً وأشواقاً. مشوبة بحزن يطوف بها كلما ذكرت حرمانها من زيارة ابن بنت رسول الله وهي على مسير دقائق من مثواه. وتنهدت نهدة مسموعة، استردتها من استغراقها فثابت إلى نفسها وراحت تتسلى بالنظر إلى الأسطح والطرقات فلم تزايلها الأشواق، ثم استدبرت السور وقد فاض بها التطلع إلى المجهول، المجهول بالقياس إلى الناس جميعاً وهو عالم الغيب، والمجهول بالقياس إليها وحدها وهو القاهرة، بل الأحياء المتاخمة التي تترامى إليها أصواتها. ترى ما هذه الدنيا التي لم تر منها إلا المآذن والأسطح القريبة؟ ربع قرن من الزمان خلا وهي حبيسة هذا البيت لا تفارقه إلا مرات متباعدات لزيارة أمها بالخرنفش، وعند كل زيارة يصطحبها السيد في حانطور لأنه كان لا يحتمل أن تقع عين على حرمه سواء وحدها أم بصحبته، لم تكن ساخطة ولا متذمرة، إنها أبعد ما تكون عن هذا، بيد أنها ما تكاد تنفذ ببصرها من ثغرات الياسمين واللبلاب إلى الفضاء والمآذن والأسطح حتى تعلو شفتاها الرقيقتان ابتسامة حنان وأحلام. ترى أين تقع مدرسة الحقوق، حيث يجلس فهمي في هذه اللحظة؟.. وأين مدرسة خليل آغا التي يؤكد لها كمال أنها على مسير دقيقة من الحسين؟.. وقبل أن تغادر السطح بسطت كفيها ودعت ربها قائلة «اللهم أسألك الرعاية لسيدي وأبنائي، وأمي ويس، والناس جميعاً مسلمين ونصارى، حتى الإنجليز يا ربي وأن تخرجهم من ديارنا إكراماً لفهمي الذي لا يحبهم...». * من رواية «بين القصرين» كانت المداخن القاتمة تنذر بالويل والثبور.. كان دوي صفارة المصنع ينطلق عنيفاً، كل صباح، في الجو الدبق المثقل على الضاحية العمّالية، فيخرج في تلبية صاغرة لندائه المرتجف، أناس انقبضت وجوههم وتجهمت، وأنهك التعب عضلاتهم وأجهدها، ولم ترد عليهم يقظتهم المبكرة ما يحتاجون إليه من راحة وقوة. كانوا ينطلقون من بيوتات صغيرة غبراء اللون أشبه بالصراصير المذعورة ويستحثون الخطى، في الفجر البارد المظلم، عبر الشارع غير المرصوف ميمّمين شطر جدران المصنع الحجرية الشاهقة التي تنتظرهم في طمأنينة باردة غير عابئة، مضيئة الطريق الموحلة بعشرات من الأعين الزيتية المربعة. وكان الوحل يتكسّر تحت أقدامهم، والجو يتمزق بشتائم قبيحة أو آهات عميقة تلقيها حناجر ناعسة مبحوحة، فيما أصداء أخرى تبلغ آذان هؤلاء القوم هي جعجعة الآلات الثقيلة وضجيجها، وغليان البخار وصفيره. وكانت المداخن العالية، القاتمة، السوداء تشرف على الضاحية بأسرها مثل مسلات شامخة تنذر بالويل والثبور. فإذا تولى النهار وراحت الشمس، وهي تأوي إلى مضجعها، تجد لها على زجاج النوافذ انعكاسات حمراء متعبة تقيّأ المصنع أولئك القوم من أحشائه الحجرية وكأنهم فضلات لا حاجة به إليها، فيملؤون - من جديد الشوارع الوسخة، متعفّرة وجوههم ومسودة بالدخان، متألقة أسنانهم الجائعة، فاتحة من أجسادهم رائحة زيت الآلات اللزجة. ثمة شيء من النشاط، بل ثمة غبطة أيضاً يترددان الآن في أصواتهم. لقد انتهى العمل الشاق إلى يوم آخر، والعشاء والراحة في الدار ينتظران. لقد استهلك المصنع النهار بأسره، وامتصت آلاته من عضلاتهم ما تحتاجه من قوة. ويمر اليوم على هذا المنوال، دون أن يخلّف أثراً، ويتقدم المرء خطوة جديدة في اتجاه لحده. لكنه يتوقع الآن، على الرغم من ذلك، بعض الأفراح، أفراح الراحة في حانة تعج بالدخان والقذارة، وإنه بذلك لسعيد. في أيام الآحاد كان الناس ينامون عشر ساعات، ثم يرتدي المتزوجون الوقورون منهم أفضل ثيابهم ويغدون إلى الكنيسة، موجهين اللوم - أثناء ذلك - إلى الشبان لانصرافهم عن أمور الدين والآخرة. فإذا انتهت خدمة القداس الإلهي قفلوا راجعين إلى دورهم، وأكلوا الفطائر اللذيذة، واستسلموا من جديد للنوم حتى المساء. إن التعب المتكدس خلال الأيام يُفقد الشهية، فلينبهوها إذن بالشراب الغزير، وليخرشوا المعدة الكسول بلذع الفودكا الحارق الملتهب. إذا أتى المساء أخذوا يتجولون في الشوارع بكسل.. والذين يملكون جزمة مطاط لبسوها، وإن كانت الأرض جافة، والذين يملكون مظلة حملوها، وإن كان الطقس صافياً لا ينذر بالمطر. وإذا تلاقى الأصحاب دار الحديث حول المصنع والآلات، أو تناقلوا الشكوى ضد رؤسائهم وتعسّفهم، فهم لا يفكرون أو يتكلمون إلا في الأمور المتعلقة بعملهم، وفيما ندر، تخترق ومضات من الأفكار العاجزة المتلعثمة أجواء أيامهم الرتيبة المملة، حتى إذا عادوا إلى بيوتهم ليلاً أخذ الرجال يخاصمون زوجاتهم، أو يضربونهن في غالب الأحيان، دون أن يأبهوا لما يلحق أكفهم من الأذى. أما الفتيان فيترددون على الحانة أو يحيون الحفلات في المنازل، حيث يعزفون على الأكورديون، وينشدون أغاني بشعة مرذولة وهم يرقصون، ويتسابّون، ويعبون الخمرة دون حساب، وسرعان ما تتسرب الفودكا إلى رؤوسهم، هم الذين أضناهم التعب وأرهقهم، فيتّقد في صدورهم هيجان مريض عصيّ على الإدراك يسعى وراء منفذ له، فيتمسكون بأتفه الأسباب كي يطلقوا لمشاعرهم العنان مزمجرين في وجوه بعضهم بعضاً بوحشية حيوانية تنتهي دائماً باصطدامات دامية، تنتج عنها أضرار بالغة في بعض الأحيان والقتل في أحيان أخرى. كان إحساس بالحقد الدفين يسيطر على علاقاتهم الإنسانية. وكان ذلك الإحساس قديماً قِدم التعب الذي لا شفاء له في عضلاتهم. إنهم يولدون وذلك المرض الروحي فيهم، يرثونه عن آبائهم، فيرافقهم كشبح مظلم طوال حياتهم حتى القبر، يدفعهم دون انقطاع إلى ارتكاب أفعال تثير وحشيتها العديمة المعنى والاشمئزاز والنقمة معاً. *من كتاب «الأم»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©