الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اعوجاج الألسن

اعوجاج الألسن
5 نوفمبر 2015 01:18
لعل واحداً من أشهر الاشتباكات بين منهجين من مناهج الكتابة الأدبية هو الاشتباك الشهير بين رمزين من أشهر أدباء مصر وهما نجيب محفوظ ويوسف إدريس. فبينما أولى محفوظ اعتبار الفن والرمزية والتخييل أولوية أولى، واختار أن يُنطق شخصيات أعماله الأدبية كافة بالفصحى المبسطة التي تعبر، بشكل ما، عن تكوين الشخصيات وخلفياتها الثقافية، فإن يوسف إدريس، على العكس، منح للواقعية الأولوية القصوى؛ مستسيغاً إنطاق الشخصيات باللهجة العامية المصرية، وبطريقة الكلام التي يمكن أن تتحدث بها الشخصيات في الواقع. تراوحت أساليب الكتاب العرب، لعقود، بين هاتين المدرستين مع ميل ملحوظ للفصحى، وتطويع اللغة لتلوين الحوارات الفصيحة بثقافة الشخصيات، وتطعيم تلك الحوارات، وبحذر، ببعض مفردات اللهجة. لكننا، على مدى السنوات الأخيرة، بتنا نلاحظ ظاهرة غريبة مثيرة للاهتمام تمثلت في اجتياح استخدام اللهجات المحلية في الحوار، بل وفي متن السرد أيضاً في عدد وفير من النصوص الأدبية العربية خصوصاً على يد الكتاب الشباب. وبالرغم من أن الظاهرة لفتت الانتباه في مصر أولاً على يد بعض كتّاب الأجيال الجديدة، لكنها سرعان ما أصبحت ظاهرة، جسدها انتشار متزامن لكتابات كتّاب كثر في منطقة الخليج كالكويت مثلاً، وبعض كتاب العراق والسعودية وسواهما. اللافت هنا أن الأمر لم يعد مقصوراً على استخدام الحوارات الروائية والقصصية في الأعمال الأدبية فقط، بل انسحب الأمر على السرد كاملاً، وأخرجت مجموعة من دور النشر بينها دور نشر كبرى في القاهرة وغيرها أعمالاً تتخلى عن فصاحة اللغة العربية وبلاغتها لمصلحة لهجة شفوية محملة بصيغ ودلالات مسلوبة بالكامل من الصياغة الشعبية لجمل الحوار والتفاعل اليومي. بشكل مماثل شهدت الكويت، على سبيل المثال أيضاً، ظاهرة نشر مجموعة كبيرة من الكتب الأدبية لكتاب شباب، من محدودي الموهبة، المتعثرين في معرفة اللغة العربية كما يليق بمن يتوسل الكتابة الأدبية، الذين تمكنوا من دغدغة مشاعر القراء والمراهقين باستلاب لغة الثرثرة الافتراضية Chatting من الوسيط الافتراضي إلى الورق، وقدموا قصصاً ذات حبكات بسيطة تدور حول قصص الحب والرومانسية والعلاقات العاطفية ثم انسحبت لأنواع أدبية أخرى مثل أدب الرعب والجريمة. وما يثير الانتباه هنا حجم الإقبال الشبابي على هذا النوع من الكتابة سواء في القاهرة أو في الكويت، والذي جسدت بعض حالاته إقبالاً جماهيرياً كبيراً مثيراً للتأمل والاهتمام. لكن وبعيداً عن جدل واسع أثارته مثل تلك الظواهر حول جدوى الإقبال على تلك الكتب وقيمتها الأدبية، أو حول مدى اعتبار مثل هذا الجمهور خميرة قراء جدد محتملين لأنواع أدبية أكثر رصانة وبالتالي للقراءة الرصينة بشكل عام، أود التوقف عند الظاهرة نفسها ومحاولة تأمل أسبابها. دلالات الظاهرة في تقديري أن أبرز دلالات هذه الظاهرة المستجدة يتمثل في الإغراق في الذاتية والمحلية، بما قد يعنيه ذلك، بقصد أو من دون قصد، من تضخيم للذات وتجاهل للآخر والانغلاق على الذات ودعم القيم المناطقية الشوفينية المضادة لمفاهيم القومية والعروبية، بشكل ما، كما أنها، من جهة تالية، ظاهرة تقترح، بوعي أو من دون وعي، القضاء على وحدة اللغة العربية والثقافة التي تعبر عنها هذه اللغة بالتالي، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى نوع من تفتيت الثقافة العربية. وفي ظل ما نراه حولنا على الساحة السياسية من مشاهد محاولات الغرب الحثيثة لتفتيت ما تبقى من وحدة العرب جغرافيا، باستخدام الاستعمار والحروب، أو عبر إشعال الفتن الطائفية وإشاعة الإرهاب، مستغلة لجرثومة التخلف التي تستمرئ الوقوع في أسر هذه الأوهام الطائفية باقتدار. أقول حين يتأمل الفرد الظاهرة في ضوء ما يحدث على الساحة فإن الظاهرة بمدلولاتها تبدو مريبة تماماً، وهو ما يقتضي التأكد مما إذا كانت هناك جهات أو مؤسسات تمول أو تبتغي أو تشجع هذا النوع من الكتابة أم لا، وأزعم، عبر بحث سريع على شبكة الإنترنت أن هناك جهات، كثر عددها أو قل، تشجع وتحث على الكتابة باللهجات المحلية، ما يجعل هذا الفرض قابلاً لأن يجانب الحقيقة بشكل أو آخر. لكني أود الإشارة أولا إلى أن أبرز سمات هذا اللون من الكتابة إشاعة لغة هجين من العامية والفصحى تتكئ على المدلول الشعبي لمرادفات اللهجات الشفاهية ومفردات العامية، وتقترح هذه النصوص في الغالب بلاغة تعتمد على المدلول المختزن في الذاكرة الثقافية المحلية باعتبارها ملاذا للخصوصية، على حساب إغفال استخدام الإمكانات البلاغية العديدة والثرية للعربية الفصحى. أما منبعها فقد بدأ مع شيوع اللغة العامية في الصحافة المصرية وشيوع استخدام وسائط حين أقبلت قناة تلفزيونية على تقديم نشرة الأخبار بالعامية المصرية لفترة قبل عام 2010. وبالتدريج انتقل الأمر للأدب ثم أصبح شائعاً بشكل يدعو للدهشة. التفسير والتبرير واللافت أن هناك الكثير من بين المهتمين من يبرر الظاهرة باعتبارها وسيلة جيل جديد في التعبير عن ذاته، أو محاولة لإبراز خصوصية ثقافية كل مجتمع عربي من خلال استخدام اللزمات والمرادفات العامية، أو إبراز للتعددية الثقافية التي تتضمنها الثقافة العربية، وغيرها من مسوغات شبيهة. ويذهب البعض في تبريره لاستخدام العامية إلى أنها رافد أدبي وثقافي يتمثل في شعر العامية، مثلا أو في بعض تجارب الحكي التراثي الشعبي، أو في بعض التجارب السردية المميزة كما في تجربة د. مصطفى مشرفة الذي كتب رواية كاملة بالعامية المصرية هي رواية «قنطرة الذي كفر» على سبيل المثال، والتي سار على نهجها كاتب معاصر مثل يوسف القعيد في نص واحد على الأقل أذكر أن عنوانه هو «لبن العصفور». وهو ما يمكن القياس عليه بالقول أن الشعر النبطي العامي في منطقة الخليج هو رافد أدبي. والحقيقة أننا قبل الإجابة عن سؤال السياق الخاص والتاريخي الذي كتب فيه مصطفى مشرفة مثلاً تجربته، هو أو سواه، أو من دون الوعي بالطابع الغنائي للشعر العامي في نسخه المختلفة خليجيا ومصريا وكذلك في الشام أو المغرب، من حيث كونه جنس أدبي يستدعي اللهجة الشفاهية ويعتمد على السماع والإلقاء الشفاهي ويُنصت له أكثر من كونه نوعا أدبيا يعتمد على القراءة والتدوين، فإننا نغفل طبيعة السياق الذي نتحدث فيه؛ باعتبار أن الرواية والسرد في النهاية أشكال أدبية تصاغ باللغة العربية الفصحى وتمتح من بلاغة وتركيبات هذه اللغة، وأنها بدأت في وسيط مدون موجه لقارئ عليم باللغة العربية. وبحثا عن أسباب الظاهرة لعله من المناسب السؤال: هل اللجوء إلى اللهجات يعود لقصور اللغة العربية عن استيعاب نمط حياة معاصر جديد له إيقاع مختلف؟ هل يعود ذلك لإيجاد وسائل تعبير جديدة لا يجد الجيل الجديد في مفردات الفصحى ومعاجمها ما يلائم ما يرغب في التعبير عنه؟ أظن أن ثمة علاقة ما بين السؤال المطروح هنا وهذه الظاهرة، فلا شك عندي أن اللغة العربية المستخدمة في المتون والمتوارثة ممن انتهوا من عملهم في صياغتها وحققوا بلاغتها على مدى الفترة التي تلت جمع القرآن الكريم وحتى اليوم، تحتاج للكثير من جهد التطوير، والبحث عن أساليب جديدة لتخفيف تقعر اللغة أو بعض الاستخدامات النحوية حتى التي تحتاج لإعادة النظر، أو لإدخال أفعال جديدة أو مفردات مستوحاة من المعيشي اليومي، بالإضافة لتعريب مفردات دخلت في نسيج حياة الفرد العربي بفضل العولمة، ولكن هذا التجديد هو المطلوب في الواقع لكي تتطور لغة الأدب وترتقي والعكس في تقديري غير صحيح ممثلاً في استبدالها باللهجات الإقليمية المحلية. وربما يتصور الكثيرون، ومعهم كل الحق، أن هذا الجهد يتحمل مسؤوليته، بداهة، أغلب المختصين في علوم اللغة العربية ومجامع اللغة العربية، لكني أعتقد أن جانباً كبيراً من هذا الجهد أيضاً ينبغي أن يقوم به الكتاب أنفسهم، بالبحث عن مفردات تناسب ما يرغب كل منهم في التعبير عنه، وأن يبحث في أصول المفردات العامية ما يعود جذره للفصحى، أو حتى بحفر وابتكار اشتقاقاته اللغوية إذا تطلب الأمر. أي أن تطوير اللغة العربية ينبغي أن يكون المطلب المبتغى وليس وأد اللغة العربية لمصلحة اللهجات المحلية. وأظن أن الجهد الذي يمكن حقاً أن يمثل بصمة الكاتب الخاصة ليس تدليل القارئ والكتابة له بخطاب عامي، يصل أحياناً إلى حد الابتذال، بل ذلك الذي يحقق به الكاتب أسلوباً أدبياً خاصاً، يميزه من جهة ويضيف إلى مسيرة الإبداع الأدبي من جهة أخرى. نحو الاحتكار إن استخدام العامية في السرد في تقديري لا يؤدي فقط إلى المناطقية وتضخيم المشاعر الشيفونية المحلية بل قد يؤدي إلى ظواهر أكثر خطورة. لأننا حتى لو سلمنا جدلاً بكل التبريرات التي يستخدمها البعض في تبرير هذه الظاهرة، فهل يمكن أن نرى في مثل هذه التعددية (العاميات العربية) خصوبة ما في متن الخطاب الأدبي العربي؟ شخصياً أشك كثيراً والأسباب عديدة. فمن بين ما أراه مخاتلاً في مثل هذه المسوغات في المدى المنظور أو البعيد إمكانية أن تتحول مثل هذه الظواهر إلى كرة ثلج تغري المزيد من الكتاب الشباب في الإقبال على الكتابة بهذه الوسيلة التي تنسحب على النص كاملاً. وبينما يظن البعض أن هذه لغة تعبير جديدة يمكنه بها استغلال إمكانات إضافية في الأدب، فمن المرجح، عاجلاً أم آجلاً، أن تجد اللغة العربية الفصيحة ملاذاً لدى أصحاب الخطاب الديني المتشدد، باعتبارها لغة النص المقدس، ولاحقاً باعتبارهم محتكري هذه اللغة المقدسة، بمعنى أنهم سوف يحتكرون اللغة الفصحى باعتبارها وسيلتهم في التعبير عن أفكارهم، تماماً كما فعل الغرب، وفق إشارة الكاتب والفيلسوف الهندي آمارتيا سن، التي يوضح فيها أن الغرب نجح في إقناع العرب، بممارسات غير مباشرة، بأن لغتهم العربية ينبغي أن تنشغل فقط بالجدل في قضايا الإصلاح الديني، وكانت النتيجة احتكار الغرب لغة العلم والمعرفة، على الرغم من أن اللغة العربية في عصر التطور المعرفي العربي، خصوصاً في الحقبتين العباسية والأندلسية، جسدت لغة من لغات العلوم الأساسية نقل عنها الغرب بذور نهضته العلمية اللاحقة في عصر النهضة عبر الترجمة. وعلى هذا القياس يمكن القول أن جانباً أساسياً وكبيراً من الدور الذي يمكن أن يلعبه الأدب العربي المعاصر والفكر هو اقتحام ساحة الخطاب المتشدد الرجعي ليواجهها باللغة ذاتها وبنفس القدر من الفصاحة والبلاغة، بل واختبار مدى صحة ما يستخدمه الفكر المتشدد من صياغات يفسرها على هواه لكي يحقق أغراضه في فرض رؤاه المعادية للحياة وللتطور والتحديث والاختلاف والتعددية وقيم التسامح والتعايش. الاستشراق واللغة انطلقت الدعوة إلى هجر اللغة الفصحى، واعتماد العاميات بدلا منها، من جانب المستشرقين وكان أولهم، الألماني ولهم سبيتا، الذي نزل مصر، وعاش في أحيائها، ودرس العاميّة، ووجد أنها تختلف من بلد إلى بلد، ومن حي إلى حي. وفي سنة (1880) ألّف كتاباً بعنوان «قواعد اللغة العامية في مصر» أورد فيه نبذة عن فتح العرب لمصر ثقافتهم بين أهلها، وقضائها على اللغة القبطية. وقال: «وأخيراً سأجازف بالتصريح عن الأمل الذي راودني على الدوام طوال مدة جمع هذا الكتاب، وهو أمل يتعلق بمصر نفسها، ففي مصر تتأثر كل نواحي النشاط، بسبب الاختلاف الواسع بين لغة الحديث ولغة الكتابة». وقد أيد ذلك المستشرق الألماني سبيتا اللورد فرين في تقرير وضعه سنة (1882م) دعا فيه إلى هجر العربية الفصحى وإحلال العاميّة المصرية محلها، وقال في تقريره: «إنَّ أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أنَّ العامَّة تتكلم اللغة الفصيحة العربية لغة القرآن كما هي في الوقت الحاضر». وعام 1890 ألَّف المستشرق الألماني كارل فولرس كتاباً بعنوان «اللهجة العاميّة الحديثة في مصر» وصف فيه العربيّة الفصحى بالجمود والصعوبة وشبهها باللاتينية وشبه العامية بالإيطالية. ثم أتى بعده المهندس المبشر الإنجليزي وليم ولكوكس الذي كان مهندساً للري فألقى محاضرة ونشرها في مجلة الأزهر التي آلت إليه سنة (1893) وزعم فيها أنَّ الذي أخَّر عامَّة المصريين عن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى، ودعا إلى التأليف بالعاميّة وألقى خطابا عاما في نادي الأزبكية بهذا المعنى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©