الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الهويات العزلوية ونقضها

الهويات العزلوية ونقضها
5 نوفمبر 2015 01:18
في النقود والفكريات التي تعنونت بما بعد الاستعمار، جرى اشتغال حثيث على قضايا النسوية والمهمشين والأقليات. وفي السياق الذي اكتنف هذا الاشتغال، سياسياً وثقافياً، ازدهرت الهويات الانعزالية أو العزلوية كما يحلو لكمال أبو ديب أن يقول. وقد التمعت في ذلك الاشتغال وذلك السياق أسماء وجهود جمّة (هومي بابا وجاياتري سبيفاك و...) لكن الصدارة والريادة ظلتا تناديان إدوارد سعيد. وقد كتب كمال أبو ديب في مقدمة ترجمته لكتاب إدوارد سعيد «الثقافة والإمبريالية» أنه على النقيض من تشبث الهويات العزلوية بتاريخ متخيل، وذات متوهمة، وسرديات شتّى، يؤسس إدوارد سعيد روح الهيام بالإنسان، والتهيام، والترحال، والانسراب إلى عالم من دون قيود أو حدود. إنها روح الانخلاع من نقطة ثابتة، وانتماءٍ متحجر، وتاريخ متناسق عضوي يُتصور له الكمال. ويرحل سعيد في تناقضات العالم، ولا تجانسية الثقافات والمجتمعات، ويتلمس تبرعم الطاقات والقوى الجديدة التي تعد بثقافات مغايرة وروح أعظم ثراء في نزوعها الإنساني. في الراهن العربي المتلاطم خلال السنوات الخمس الأخيرة بخاصة، بات للعزلوية في الخطاب الثقافي والسياسي تعييناتها الصاخبة والشرسة والدامية، ومنها: المناطقية والجهوية والشيعية والسنية والمسيحية والكردية والحوثية والعلوية والدرزية والقبطية والنوبية و.. وإذا كان لأغلب ذلك جذوره في زمن الاستعمار وما بعد الاستعمار، فقد تخلّق القديم كالجديد، وتوافرت لهما سريعاً جداً سردياتهما التي يتعلق هذا البحث بواحدة منها، هي السردية الطائفية. لقد أهلّ القرن الحادي والعشرون بالاصطخاب الطائفي، من أمريكا إلى اليابان، وليس فقط في (بلاد العرب أوطاني) ولا في أصقاع المسلمين. فهل هي (الإفاقة الطائفية) في زمن العولمة وما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة؟ عبر التاريخ العربي الإسلامي، ظل الإسلام السني يعني الأصل الذي خرج عليه من خرج، واشتُقَّ منه ما اشتُقّ، وكان أن تمأسس المذهب أو الطائفة، وصار لهما سمات اجتماعية ودينية، وأحياناً لغوية، كما يتجلى في العبادة أو الأعياد أو الغناء أو الزواج... وقد توفّر لكل ذلك تعبيره الروائي، ولكن على ندرة قبل أن يهلّ القرن الحادي والعشرون. السردية الفكرية قبل أن نتبيّن ذلك التعبير الروائي، قد يكون من المهم أن نتبين هذا الذي جاء أقرب إلى أن يكون سردية فكرية، وإن في صيغة البحث أو الدراسة، أعني كتاب هاشم صالح «الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ». والكاتب يهتف عالياً منذ بداية كتابه ـ سرديته «لا أستطيع أن أنتمي إلى أي طائفة، أياً تكن». يرى صالح أن الحالة الطائفية في سورية أكثر خطورة وتفجيرية من الحالة القبطية في مصر، أو المارونية في لبنان، ولعل لي أن أضيف: والحالة الشيعية في العراق على الرغم من كل ما بلغه الاستقطاب والصراع الطائفي هناك. ولأن الأمر السوري كذلك، يذهب صالح إلى أن تقسيم سورية سينجح، إلا إذا ظهرت قيادات فكرية وسياسية متنورة داخل طائفة الأغلبية (السنية) وأمسكت بزمام الأمور. كما يرى صالح أن التقسيم، إن حصل، فلن يكون نهائياً، بل مؤقتاً في انتظار أن تنضج الشعوب بأقلياتها وأكثرياتها، وتصبح قادرة على التعايش فيما بينها. وفي هذا (الرجم) السياسي بالغيب، أي بالأفق السوري المنظور ـ وربما الليبي أو اليمني أو العراقي: أضيف ـ لايطلب المثقف الأقلوي إلا أن يرضى عنه مثقف الأغلبية، ويقبل بالتحاور معه، أو التنازل قليلاً من موقعه! من هذا التبسيط الذي يدغدغ مثقفين وساسة يجلجلون في الفضائيات والمؤتمرات والمقالات بطائفية جهيرة أو مواربة، ومنهم من كان علمانياً أو ماركسياً أو يسارياً عتيّاً، يمضي صالح إلى أن لا معنى لطرح فكرة الديمقراطية في العالم العربي، إن لم تحل أولاً مشكلة الطائفية والمذهبية، لتحلّ الفلسفة السياسية الحديثة المنبثقة عن فلسفة الأنوار محل اللاهوت السياسي السائد. ففي الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة: لا أقليات، وكل متدين مواطن، ولكن ليس كل مواطن متديناً. في كتاب (الانتفاضات العربية...) فصل عنوانه (المثقف العربي والمشكلة الطائفية)، وفيه لا فرق بين الأصولية العلوية الشيعية التي تربى عليها المؤلف في طفولته، وبين الأصولية السنية أو أية أصولية أخرى. وفي الفصل أيضاً أنه لا يمكن أن تُتجاوز الطائفية إلا من خلال تفكيك الفكر الديني الذي يخلع عليها المشروعية. وإذا كانت الطائفية مدانة كالعنصرية، فالمثقف الحقيقي ليس من يدافع عن طائفته، حقاً أو باطلاً، ويحتقر غيرها، بل هو الذي يخوض المعركة مع ذاته ويواجه طائفته. وبحسب المؤلف فإن تعصب الأغلبية هو الأخطر، دون أن يقلل من خطر طائفية الأقلية. وبخلاف ما كان سائداً من التعالي على حديث الطائفية، يهتف صالح «اتركوا الناس يعبرون عن طائفيتهم وأعماق أعماقهم حتى يشبعوا.؟ بعدئذ يمكن أن نحل المشاركة». وأخيراً، وليس آخراً، يعلن صالح قلقه عندما يسمع من يسمّيهم بمثقفي التيار القومجي الأصولي العنصري الطائفي يعكسون الأمور، فتصبح الضحية هي الجلاد، والجلاد التاريخي هو الضحية. وبترجمة ذلك في سورية يكون السنّة هم الجلاد التاريخي، والعلويون هم الضحية التاريخية، ولكن أليس في ذلك انزلاق إلى ذلك الموقف المقلق نفسه؟ في قليل أو كثير من التبسيط والخطابية والإطلاقية، مما تلامح من قبل، تتواصل هذه السردية الفكرية وهي تذهب ـ مثلاً - إلى أنه لا يكاد يوجد مثقف عربي واحد قادر على المصارحة، أي لا يكاد يوجد فكر نقدي راديكالي متحرر أيضاً مما سماه صالح بالأيديولوجيا العربية الغوغائية. ومثل ذلك هو القول بأن ليس من مصلحة الأقلية أن تتحدى الأكثرية «أكثر من اللزوم»، وبالتالي: أليس من بأس إن كان التحدي بحدود اللزوم أو أقل؟ وما هي هذه الحدود؟ تترجع الأفكار السابقة في أغلب السردية المتعلقة بالطائفية، سواء ما سبق منها كتاب هاشم صالح، أم ما زامنه أو تلاه، وبالقدر نفسه، أو أكبر، أو أقل، من التبسيط والخطابية والإطلاقية، وبقدر آخر من الثأرية أو التحريضية أو العماء أو تشغيل الأسئلة والفكر النقدي، كما لعله سيتبين فيما يلي. السردية المسيحية في رواية المصرية أهداف سويف «خارطة الحب» (2001) تمضي الأميركية الصحافية إيزابيل مع المصرية أمل إلى قرية الطواسي في قلب الصعيد، حيث تتركز منطقة الإرهابيين، ولا تفتأ الأحداث الطائفية تتفجر، مما شهده الصعيد من اعتداءات على المقدسات المسيحية ومن استهداف للأقباط ـ من يذكر أحداث المنيا؟ ـ وصولاً إلى حوادث الأقصر الشهيرة، ليس أمس ولا أول أمس، بل قبل خمسة عشر عاماً، ويزيد. وكانت قد عادت إلى هذه الأحداث الطائفية ومثيلاتها رواية إدوارد الخراط «يقين العطش» (1996)، ولكن في إهاب من الصوفية والشعرية، مما تميزت به بخاصة روايات الخراط. وما يحكم هذا الشطر من السردية الطائفية هو النظر المدقق فيها، لكنه النظر النقدي أولاً وأخيراً، وهو ما قد يبدو متلجلجاً في شطر آخر، كما لعله كان في بعض ما كتب رؤوف مسعد من السردية الطائفية في رواياته، حيث اصطخب الصوت المسيحي العزلوي. غير أن حضور السردية الطائفية المسيحية الأكبر جاء في لبنان على إيقاع الحرب الأهلية اللبنانية، حيث جرى تشغيل سؤال الهوية العزلوية الدينية والمذهبية والمناطقية ـ الجهوية، فيما كتب من الرواية إلياس خوري وهدى بركات ويوسف حبشي الأشقر وسواهم. وإذا لم يكن من بد للإشارة، فلتكن إلى رواية «عودة الذئب إلى العرتوق» (1982) لإلياس الديري، وهي الرواية التي تطوح فيها سمران بين ماضيه في الحزب السوري القومي وفي رهاب الامتحان ورهاب الاستذئاب والحرب، وبين باريس والمجموعة الانتحارية، وبين القرية من جديد، حيث نكوص المقاتل العلماني من العمل غير الحزبي والتعليمي إلى الجحر العصابي بفعل الحرب الأهلية والحمى الجهوية والطائفية. وفي الصدى الروائي القوي للحرب الأهلية اللبنانية في سورية كان للطائفية المسيحية حضور ملحوظ، ومنه ما جاء في رواية قمر كيلاني «بستان الكرز» والتي صدرت في مستهل الحرب (1977)، وقدمت عبر أسرة الجبيلي اللبنانية التفاعل المسيحي الإسلامي على إيقاع الحرب. فمن قمة الهرم الطبقي الإسلامي يأتي من صوفر وديع الجبيلي المسلم الذي تزوج كميلة المسيحية (من جونية). وإذا كانت كميلة تنقم على الفلسطينيين فسوف ينتهي بها المطاف بالانفصال عن وديع، والالتحاق بالدير، بينما يتعرض الابن الوحيد رياض للخطف على يد مسلمين، وبعد الخطف يمضي إلى زغرتا المسيحية ليقاتل مع المسيحيين فترة. وعلى نحو أبلغ فنياً بما لا يقاس، تومض الطائفية المسيحية والانعزالية في رواية غادة السمان «كوابيس بيروت» (1977) وفي روايتها «ليلة المليار» (1986) وفي رواية أحمد يوسف داوود «فردوس الجنون» (1996). والومض يعبر دوماً عن النظر النقدي المدقق. وتذهب الإشارة أيضاً إلى رواية ياسين رفاعية «الممر» (1977) حيث تقود المصادفة رنا المسيحية المتزوجة من مديرها السابق ميشيل، إلى الممر في عمارة، فتحشرها الحرب مع محمود الذي يقول: «لو أتيح لي أن أخرج حياً هذه المرة، لكان هذا الممر سهماً للتغيير، للثورة الحقيقية على الطائفية». وفي رواية ياسين رفاعية الأخرى «رأس بيروت» (1992) يأتي عزف آخر على وتر الحب بين المسلم والمسيحية: وليد وسوزان اللذان يخرجان على سكاكين الطائفية ويتزوجان ويبحران بعيداً، بينما تنتصر الطائفية حين يصطحب السارد المسلم بسيارته جاره المسيحي، فيعترضهما حاجز مسلم وقد جُنَّ جنون القتل على الهوية، ويقتل شاب ذلك المسيحي انتقاماً لأبيه وأخيه اللذين قتلهما مسيحي من قبل. وفي رواية «فردوس الجنون» تنهض علاقة المسلم السوري بليغ باللبنانية المسيحية زهرة تعبيراً عن مواجهة الطائفية التي يواجهها بشكل آخر سليمان الأستاذ الجامعي للفلسفة، والذي ترهبن واعتزل ليؤسس رهبانية جديدة مستقلة عن سائر الأديان والمذاهب والكنائس. السردية العلوية بالاطراد مع الزلزلة السورية 2011، بات للعلوية سرديتها الجهيرة. ومن اللافت أن أغلب السردية قد كتبه كتاب وكاتبات ذوو وذوات منبت علوي، وأن من السردية ما نتأت فيه ما يمكن تسميتها بالطائفية المقلوبة، أي أن يصير العلوي أو المسيحي، مثلاً، أشد بأساً ضد العلوية أو المسيحية ليثبت برأه من جرائر طائفته. أما ما كتبه من السردية العلوية آخرون من منابت طائفية أخرى، وسواء أكانت السردية فكرية أم روائية، فمن اللافت نتوء الطائفية فيما يضارع الخطاب السياسي الإقصائي والتكفيري، ولكن على ندرة في النصوص، وبصوت أعلى خارج النصوص. ربما كانت رواية حيدر حيدر «شموس الفجر» (1997) من أول الروايات التي عنيت بالعلوية، وإن بصورة مواربة، تركزت في نكوص اليساري إلى طائفيته العلوية، وفي تعليل هذا النكوص بالجينات. لكن الجيل الجديد من الكاتبات بخاصة، مضى أبعد، كالذي كتبته حسيبة عبدالرحمن ـ السجينة السياسية سابقاً ـ في رواية «الشرنقة» (1999) عما كان بينها وبين السجينات اليساريات أو الإسلاميات في السجن. وإذا كانت «الشرنقة» متواضعة فنياً، فقد توفرت لسواها مغامرة فنية بديعة، ابتداءً من رواية روزا حسن الأولى «أبنوس» (2003)، وباطراد في رواياتها التالية «بروفا» و»حراس الهواء» وصولاً إلى «الذين مسهم السحر» (2015). وحيث تعريتها وهجائيتها للطائفة العلوية مدى أبعد، وبخاصة مما تقدر الرواية من علونة النظام. أما سمر يزبك، فتلح رواياتها على عرض ما توفر لها مما تعده كتابات باطنية علوية، وذلك في سياق نقدي صارم ومتقدم فنياً، كما في روايتيها «صلصال» (2005) و»لها مرايا» (2010). وقد أفردت الروايتان مقاماً خاصاً للتأرخة لما حلّ بالعلويين من مذابح وتهجير في القرون العثمانية. وإذا كانت سمر يزبك تعوّل أحياناً على الإشارة إلى العلوية، وليس بصريح العبارة، فقد سبق خالد خليفة إلى ذلك في روايته «مديح الكراهية» (2006) حيث يكتفي بالقول (الطائفة الأخرى) مما يدركه القارئ السوري، ولكن ماذا عن قارئ تونسي أو إماراتي، مثلاً، غير متابع لتفاصيل الحالة السورية؟ بين المواربة والمواجهة تنوس رواية ابتسام التريسي «مدن اليمام» (2013). فبينما لا يسمي الطبيب الطائفة التي ينتمي إليها من ارتكب مجزرتي جسر الشغور (1980 و2011)، فإن شخصية روائية أخرى تسمي الطائفة العلوية حين تعلن أن النظام علوي. ولكن يظل المنظور الروائي، كما في الروايات السابقة، غير عزلوي. ولعله من المضحك المبكي أن تتسلل الطائفية إلى ما بين السجناء السياسيين، وفي أعتى السجون السورية: سجن تدمر، مما صورته رواية راتب شعبو «روزنامة المسجون» (2014). ولكن إذا كان ذلك يأتي في المنظور الروائي المذكور، فالأمر ينقلب إلى عزلوية لافتة في رواية فواز حداد «السوريون الأعداء» (2014)، وهو ما تبدو له مؤشرات قوية في رواية سابقة لحداد هي «مشهد عابر» (2007). إلى الطائفية في سجن تدمر تعود أيضاً رواية نبيل الملحم «سرير بقلاوة الحزين» (2013) كما تعود روايته «بنسيون مريم» (2011) إلى ماتعده غلبة العلويين بين معتقلي اليسار السوري خلال أربعين سنة من الحركة التصحيحية التي قادها حافظ الأسد. بعد هذا العرض قد يكون مفيداً أن يلي التفصيل في أنموذج لنقض العزلوية، ليس بالخطابة السياسية، بل ببناء الشخصية الروائية وبالحوار الروائي في الطائفية والعزلوية على إيقاع الزلزال السوري. والأنموذج المعني هو رواية «قميص الليل» (2013) لسوسن جميل حسن. تروي الرواية كاتبة اسمها حياة، علوية، ومطلقة من زوجها اليساري السجين السابق الحموي (السني) الذي انقلب إلى الأسلمة الطائفية كشقيقته وداد. وتقدم الرواية أيضاً أكثر من شخصية علوية عزلوية. وبينما تنقل حياة عن شاب حموي مناداته بسورية جديدة، سورية دولة المواطنة الحقيقية، وبينما ترى أن العنف الذي قوبلت به المظاهرات سنة 2011، استفز عنفاً بالمقابل، فإن وداد لاتفتأ تسوط حياة، موحدةً بين النظام وبين الطائفة العلوية، حتى لكأنها واحدة من شخصيات رواية «السوريون الأعداء» الموغلة في العزلوية، أو لكأنها صوت من أصوات النخبة الثقافية والسياسية السورية التي أصابتها العدوى الطائفية المتفشية في لبنان أو اليمن أو العراق، حيث توحّد السيمفونية العزلوية بين الصوت الطائفي السني والشيعي والحوثي والإيزيدي و.. وبعيداً عن الحرب، حيث يتعلق الأمر بالفسيفساء الاجتماعية، بالتعدد الديني والمذهبي تلك هي رواية «امرأة من طابقين» لهيفاء بيطار، وفيها يوحد الحب بين نازك المسيحية وصفوان المسلم. ولأن الطريق انقطعت بهما، فقد لجأت إلى الكاهن الذي يصدعها بالمعمودة: الولادة بالمسيح، وبأن الجنس قربان عند المسيحيين، ونهم عند المسلمين. لكن نازك تتشكك في قول الكاهن. وسوف تصارع في علاقتها بصفوان حقيقة المؤسسة الدينية وحقيقة المؤسسة الأسرية الاجتماعية. سرديات أخرى من السردية الطائفية في الفسيفساء السورية، تأتي روايتا ممدوح عزام «قصر المطر» (1998) و»أرض الكلام» (2005). وقد عنيت الأولى بالدولة الدرزية التي أقامها الاستعمار الفرنسي في السويداء كما أقام الدولة العلوية في الساحل. وفي «قصر المطر» اشتغال على الثورة ضد الدولة الدرزية، كما على المعتقدات، سواء في الكتب الدينية أم عبر الشيوخ، مما سيتكرر بأشكال بديعة أخرى في رواية «أرض الكلام» أو كتحريم المذهب الدرزي لتعدد الزوجات، أو كالقضاء المذهبي الذي يفصل في الزواج والطلاق.. وكانت رواية «قصر المطر» قد جرت على صاحبها التهديد بالقتل، إثر حملة قادها ضد الرواية وكاتبها في السويداء وريفها ظلاميون، بعد صدور الرواية بسنوات. والمفارقة أن الرواية كانت قد صدرت عن وزارة الثقافة السورية، ثم منعت إثر الاحتجاج عليها، ثم صدرت منها طبعة جديدة وجرى توزيعها في سورية. وقد كان للمربع الفسيفسائي الدرزي حضور طيفي في رواية فخر الدين فياض «رمش إيل» (2013)، وهو كممدوح عزام من منتسبي السويداء. ومن اللافت في رواية فياض مجافاتها للواقع وليّ رقبته في حملتها الخاطفة والضارية على المربع الفسيفسائي العلوي. وفي هذا السياق ينبغي ألا يغفل المرء عن التنويه برواية ربيع جابر «دروز بلغراد»، وإن اختلف الزمان والمكان. بالعودة إلى لبنان، ولكن بما يتعلق بالشيعة، تتألق السردية الروائية النقدية في روايات شتى لعلوية صبح وعبير إسبر وإيمان حميدان... وفي رواية الأخيرة «باء مثل بيت... مثل بيروت» (1997) ـ كمثال ـ يشتبك بسؤال الهوية سؤالُ الطائفية والعائلية، عبر اشتباك حيوات ليليان التي تتهيأ للهجرة إلى أستراليا فراراً من جحيم الحرب، وعباس العائد من ألمانيا إلى الجنوب، والمأخوذ بالحزب الذي لا تسميه الرواية، تاركةً الإشارة تذهب إلى حزب الله. وقد فرض عباس التحجب على زوجته الألمانية، بالاطراد مع صعوده الحزبي، فأدمنت على الكحول، فصار يوصد الباب عليها، فاستعاضت عن الكحول بالسبيرتو. وقد جبهت ليليان عباس المنهمك بإعادة كتاب خطاب العائلة في ذكرى استشهاد الجد: «لماذا الهوية نبحث عنها بين الأموات؟ لماذا الهوية تردنا إلى الماضي؟». ولعله لا ينبغي أن يغفل أخيراً ما كان لليهود في السردية الطائفية، كما جاء في رواية فيصل خرتش «حمام النسوان» (1999) رسماً للتطور الذي مضى من الفسيفساء الاجتماعية والروحية والوطنية إلى الصدع إثر قيام إسرائيل عام 1948. وفي رواية أخرى، هي «ثورة المخمل» (2001) لكلاديس مطر، وفي لعبة ـ استراتيجية اللاتعيين، يبرز قتلة الصحراء: اليهود في الوادي الذي لم يكن فيه إلا الوئام المسيحي الإسلامي، حتى «فتحت الطائفية فكيها كذئب على وشك الانقضاض». سردية خاصة لعلي أشير إلى ما حاولت في بعض رواياتي، من كتابة السردية الطائفية بخاصة والعزلوية بعامة، ومن كتابة نقضها. ففي «رباعية مدارات الشرق» (1990 ـ 1993) كان للمسيحية والعلوية والدرزية واليهودية حضورها، كما كان للدولة العلوية وللدولة الدرزية اللتين أقامتهما فرنسا أثناء استعمارها لسورية. وفي رواية «درج الليل... درج النهار»(2003) كان للإيزيدية حضورها، وفي رواية «أطياف العرش» (1995) كان للمرشدية حضورها. ولم تغب الطائفية عن رواية «مدائن الأرجوان» (2013) على إيقاع الصراع المسلح بين الأخوان المسلمين والسلطة في سورية في نهاية سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي، وبخاصة في حماة. كما لم تغب الطائفية عن رواية (جداريات الشام ـ نمنوما ـ 2014) على إيقاع الزلزال السوري سنة 2011. والزعم، على كل حال، هو إن محاولتي، كمحاولة أغلب الروايات التي سبق ذكرها، لا تقلد النعامة، فتنكر الطائفية، بل تدرك عميقاً الأس الاجتماعي والتربوي والثقافي والنفسي للطائفية، وبما يتصل بالنشأة، والخصوصية، والمحلية. كما تدرك أن كل ذلك أمر، والعماء الطائفي الأيديولوجي والسياسي الناشب في سنوات الزلزال، أمر آخر. والإدراك الأكبر والأهم هو للطائفية كبسملة للعزلوية. أليس نقض العزلوية، بالتالي، هو التحدي الإبداعي في السرديات الروائية والفكرية والسيرية و.. كما هو التحدي الإبداعي في الممارسة السياسية والثقافية، الآن، وهنا؟ «نحن» و«هم» «…مبدأ الهوية، وهو مبدأ سكوني أساساً يشكل لباب الفكر الثقافي خلال العهد الإمبريالي. إن الفكرة الوحيدة التي لم يكد يمسها التغير إطلاقاً، عبر التبادلات التي بدأت بانتظام قبل نصف قرن من الزمن بين الأوروبيين و»آخريهم» هي أن ثمة شيئاً (جوهرانياً) هو «نحن» وشيئاً هو «هم»، وكل منهما مستقر تماماً، جلي، مبين لذاته وشاهد على ذاته بشكل حصين منيع. وهو انقسام يعود (تاريخياً) كما ناقشته في «الاستشراق»، إلى الفكر اليوناني عن البرابرة؛ لكن أياً كان من ابتكر هذا النوع من فكر «الهوية» فإنه مع حلول القرن التاسع عشر كان قد أصبح العلامة المميزة للثقافات الإمبريالية، إضافة إلى تلك الثقافات التي كانت تسعى لمقاومة التطاولات العدولانية الأوروبية عليها. نحن ما نزال ورثة الأسلوب الذي يتحدد المرء تبعاً له بالأمة، الأمة التي تستقي، هي بدورها، سلطتها من تراث يفترض أنه مستمر دونما انقطاع. ولقد أفرز هذا الانشغال بالهوية الثقافية في الولايات المتحدة، النزاع حول الكتب والثقافات والسلطات التي شكل تراث «انا». إن محاولة قول إن هذا الكتاب أو ذاك هو (أو ما هو) جزء من تراثـ «أنا» هي، بصورة عامة، إحدى أكثر ما يمكن تخيله من ممارسات إنضابا للحيوية. وإضافة، فإن ما تؤدي اليه من تجاوزات وإفراط أكثر تواتراً بكثير مما تسهم به من دقة تاريخية. * من كتاب إدوارد سعيد «الثقافة والإمبريالية» سرديات طائفية فيما يلي عدد من العناوين الروائية العربية التي اشتغلت على المسألة الطائفية بعمق، أو أنها ُرضت نفسها على سياقاتها بشكل أو آخر: ـ «خارطة الحب» أهداف سويف ـ «يقين العطش» إدوار الخراط ـ عودة الذئب إلى العرتوق» إلياس الديري ـ «بستان الكرز» قمر كيلاني ـ «كوابيس بيروت» و»ليلة المليار» غادة السمان ـ «فردوس الجنون» أحمد يوسف داوود ـ «الممر»، و»رأس بيروت» ياسين رفاعية ـ «شموس الفجر» حيدر حيدر ـ «الشرنقة» حسيبة عبد الرحمن – ـ «أبنوس» و«بروفا» و«حراس الهواء» و«الذين مسهم السحر» روزا حسن ـ «صلصال» و«لها مرايا» سمر يزبك ـ «مديح الكراهية» خالد خليفة ـ «مدن اليمام» ابتسام التريسي ـ «روزنامة المسجون» راتب شعبو ـ «السوريون الأعداء» و«مشهد عابر» فواز حداد ـ «سرير بقلاوة الحزين» «بنسيون مريم» نبيل الملحم ـ «قميص الليل» سوسن جميل حسن ـ امرأة من طابقين هيفاء بيطار ـ «قصر المطر» و«أرض الكلام» ممدوح عزام ـ «رمش إيل»- فخر الدين فياض ـ «باء مثل بيت..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©