الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المركزُ الثقافيُّ عربيّاً

المركزُ الثقافيُّ عربيّاً
5 نوفمبر 2015 01:18
نشأت فلسفة التاريخ في ألمانيا التي كانت تعاني تخلفها التاريخي عن إنجلترا وفرنسا ............................ مع ظهور الثقافة الأندلسية كان الرد المشرقي هو أن الأندلسيين لم ينتجوا غير ما تعلموه من المشرق 1ـ لازم المركز الثقافي الحضارات القديمة، كما كان لقوانين اشتغاله مفعولها الكبير في العصر الحديث، عبر العالم. وقد خضعت الثقافة العربية، قديماً، لقوانين اشتغال المركز، سواء في علاقة المشرق بالمشرق أو علاقة المشرق بالمغرب، أو علاقة المغرب بالمشرق، وتحكمت، حديثاً، في صياغة العلاقات الثقافية بين جهات عربية في العصر الحديث، وأشدها دلالة هما المشرق والمغرب العربي. لكن المركز الثقافي، من جهة أخرى، مُعطى إشكالي، وإشكاليته مصاحبة لصيرورة الحضارات، تتحول إلى لغز عندما نبتعد عن قراءتها من خلال مقاربة معرفية. واللغز يتحول بدوره إلى قدَر محتّم، إذ يعتبر المستفيد من فتنة المركز الثقافي أنه هبةٌ سماويةٌ تدوم دوام الطبيعة، والآخر الواقع تحت هيمنته ينظر إليه باعتباره لعنةً لا تفارق المكان. ولأن المظلومين هُم وحدَهم من يفهمون معنى العدالة، ولا يحسون بها إلا عندما تتحقق، فإن التفكير في مسألة المركز الثقافي، مهما كانت درجة التفكير، شأن تقع مسؤوليته على أهل المحيط الثقافي، وفائدة التفكير تعود عليهم بالدرجة الأولى. أما المقيمون في المركز فلا يعبأون بما يعانيه أهل المحيط من تمزقات. لهذا نجد فلسفة التاريخ تنشأ في ألمانيا، التي كانت تعاني من تخلفها التاريخي عن إنجلترا وفرنسا. نموذج ألمانيا وحده يكفي بالنسبة للغرب. أما في العالم العربي، فإن العلاقة بين الطرفين أثارت الجدل، في البداية، مع ظهور الثقافة الأندلسية، وكان الرد المشرقي هو أن الأندلسيين لم ينتجوا غير ما تعلموه من المشرق. ذلك ما قيل إن الصاحب بن عباد عبّر عنه عندما عُرض عليه كتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه فقال، باستعمال آية قرآنية، «هذه بضاعتنا رُدّتْ إليْنا». وهو موقف لم يبق ثابتاً في المراحل اللاحقة. فالأندلس أصبحت نموذجاً بشخصيتها الثقافية، وأصبح لها إشعاعها في المشرق. لكن الموقف التحقيريّ نفسه عاد إلى الظهور من جديد في العصر الحديث. تلك حكاية تصلح أن تروى في سهرات المُتيَّمين بغرابة الحكاية. هذه الإشارات المقتضبة تفيد أن علاقة المركز الثقافي بمحيطه، في العالم العربي، جدالية، وأنها تتطلب قراءة معرفية. ولأنني كنتُ أحد المنتبهين لحساسيتها، منذ بداية حياتي الثقافية، فقد وجدتُ نفسي متورطاً فيها بتلقائية. إثارتها كانت لا تفارق الثقافة المغاربية منذ الثلاثينيات، في تونس والجزائر ثم بعدهما في المغرب. لن أبالغ إن قلت إنها جسّدت تمزّقات كل كاتب مغاربي حديث، باعتبارها أحد المظاهر المؤلمة للثقافة العربية الحديثة. والأدبيات في هذا الشأن متوفرة بشكل مدهش، ومن أبعدها دلالة تلك المراسلات بين الشابي وصديقه الحليوي في تونس، ثم نص «الدكتور طه حسين في إلغ» الذي كتبه محمد المختار السوسي سنة 1938 في المغرب. 2. عندما أخذت الثقافة المغربية في السبعينيات تعثر على تعبيراتها الجديدة، حدث ردُّ فعل في المركز الثقافي المشرقي على هذا الجديد، بتجاهل ما يحدث كأنه لا يحدث، وكان رد فعل مثقفين مغاربة، ممن بدؤوا يتعرفون على المشرق، ذا صبغة انفعالية. وفي أواسط الثمانينيات، اتضحَ أن الإبدال الثقافي في المغرب، بل في المغرب العربي، يتعمق ويتنوع بأسرع مما كان يتحول موقف المركز الثقافي من تلك الإبدالات. لذلك أصبح الموقف بين الطرفين يحتدُّ ويعلن عن صراع انفعالي، في مجالات مختلفة، منها العلوم الإنسانية والكتابات الأدبية والأعمال الفنية، التي تشمل حتى الأعمال السنيمائية. وقد لاحظنا آنذاك كيف أن المركز الثقافي المشرقي لم يكن يتنازل عن سلطته وامتيازه. وخلال فترة الثمانينيات ذاتها، تهيأت لي، بمناسبة المشاركة في لقاءات ثقافية مغاربية في تونس والمغرب، فرصة تقديم تصور نظري للمسألة. كنت غير مقتنع بالموقف الانفعالي، فيما كنت أتعمق في قراءاتي للثقافة الألمانية والأمريكية، من ناحية، والثقافات الأسيوية، التي سميتها بالثقافات الباذخة، من ناحية ثانية، لما أخذت ألاحظه من تقاطع وضعية تلك الثقافات مع وضعية المركزية الثقافية في العالم العربي. كنت، في تلك اللقاءات، أختبر مدى صحة الفرضية التي أخذت أصوغها آنذاك لمقاربة العلاقة المعقدة بين المشرق والمغرب. وكنت، بالتزامن مع تلك اللقاءات، أنجز دراستي الأكاديمية عن «الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها»، التي تمت مناقشتها والدفاع عنها سنة 1988. غامرت هذه الدراسة بتناول الشعر العربي الحديث، من خلال شعراء من المشرق إلى جانب شعراء من المغرب. وفي الجزء الرابع خصصت للعلاقة بين الطرفيْن فصلاً كاملاً هو الثالث، أعطيته عنوان «الخارج النصي وشرائط الإنتاج بين المركز الشعري ومحيطه». في هذا الفصل، وجدت نفسي في وضعية تسمح لي ببناء تصور نظري، واضح وصارم، للمركزية الثقافية. بهذا اخترت مصطلحي «المركز» و«المحيط» بدلا من «المركز» و«الأطراف» اللذين كانا شائعين في الثقافة الإنجليزية وعللت الاختيار. وما أكدت عليه هو تاريخانية المركز الثقافي، التي تشير إلى أنه لا وجود لمركز ثقافي خالد وخارج الزمنية، على أنني نظرت إلى المركز باعتباره بنية، عناصرها ثلاثة، أولها حرية التعبير، وثانيها الصحافة والنشر والتوزيع، وثالثها السؤال وجوابه. فالمركز تاريخي ولا يتحقق ويشتغل إلا كنسق لعناصر متفاعلة. ثم جربت الفرضية على وضعية المحيط، الذي كان المغرب حقله الإجرائي، مع تتبع دقيق وموثق لكل من العراق وتونس. بهذا التصور عثرت على منفذ نظري، يغاير المقاربات الانفعالية، لدراسة العلاقة بين المركز والمحيط الثقافيين. وفي العام الموالي من انتهائي من إنجاز الدراسة، بادرت مجلة «اليوم السابع» الباريسية، بدعوة كل من محمد عابد الجابري وحسن حنفي إلى فتح حوار، امتد من مارس 1989 حتى مطلع نوفمبر من السنة نفسها، في موضوع بعنوان «حوار المشرق والمغرب»، يتناول «ضرورة إعادة بناء الفكر السياسي العربي» في ضوء التجارب والأوضاع السياسية العربية. وقد جاء موضوع الخصيصة الفكرية للمنطقتين في ثنايا الحوار، تطرق فيه الجابري إلى القطيعة المعرفية بين مشرق العالم العربي «الصوفي» ومغربه «العقلاني». كان الحوار بين محمد عابد الجابري وحسن حنفي مختلفاً في الموضوع عن تناول المركزية الثقافية، التي كانت لها مصداقية تكاد تكون أبعد من «إعادة بناء الفكر السياسي العربي». ومن المؤسف أنني لم أصادف عربياً أو مغاربياً إلى جانبي في صياغة تأمل نظري للعلاقة بين الطرفين، ثم إن ما اقترحته لم يكن له أيُّ صدى في الثقافة العربية، لا عند الدارسين الشعريين ولا عند علماء اجتماع الثقافة ولا عند المعنيين بالدراسات الأدبية. وفي سنة 2006 نشرت مجلة «العربي» الكويتية، في العددين 65 و66 من كتابها، أعمال ندوة أقامتها بعنوان «حوار المشارقة والمغاربة» (لا توجد إشارة إلى تاريخ انعقاد الندوة). ورغم مرور أكثر من خمس عشرة سنة على صدور كتابي، لم أعثر، في مداخلات مشارقة ومغاربة شاركوا في هذه الندوة، على أثر لما قدمته. هذه مجرد ملاحظة، ويمكن تأملها بكل هدوء. 3. وقائع المركز الثقافي المشرقي في العصر الحديث دلتني على معطيات مفيدة. لا شك في أن القاهرة كانت الأسبق إلى بناء هذا المركز الثقافي، منذ أواسط القرن التاسع عشر. وبفضل عناصر بنية المركز هاجر مثقفون لبنانيون وسوريون إلى القاهرة، وكان لهم دور حاسمٌ في الحركة الثقافية الحديثة. وفي بداية الستينيات ظهرت بيروت كمركز ثقافي بدلاً من مركز القاهرة، الذي ظل مع ذلك يتنفس هواء المركز فيما كانت سلطته تضمحل شيئا فشيئاً. هكذا عرفت بيروت كيف تستلم المشعل من القاهرة وتمنح الثقافة العربية مركزاً جديداً ومتجدداً في آن. لم ينقض وقت طويل حتى كان الغزو الإسرائيلي لبيروت سنة 1982. ومن نتائج الغزو العديدة كانت نهاية بيروت كمركز ثقافي. عند ذاك حصل ما لم يتعرض للتفكير والتأمل من أي طرف في المركزين معاً. وبدلا من التأمل واعتماد المعرفة، فاجأنا خطاب مصري عن عودة الدوالريادي لمصر في الثقافة العربية. ومع هذا الخطاب تم استعمال لغة حماسية متشنجة، بعيدة عن الوعي النظري والفكر النقدي، أي لها الانفعال نفسه الذي كان من قبلُ للمحيط الثقافي في المغرب العربي. أما بيروت ففضلت الاستمرار في عملها كما كان عليه الفينيقيون دائماً، تخدم مصالحها التجارية، بدون ضجيج أو انفعال صريح. وما يتضح اليوم هو أن هناك مناطق، في المغرب كما في المشرق، أصبحت منتجاً ثقافياً وفاعلاً ف ي الثقافة العربية. تلك حالة المغرب العربي ومنطقة الخليج بالإجمال. في هذين الجناحين حركة ثقافية، لكل واحدة منهما خصيصتها. وهذه الواقعة تحولت إلى مدار استقطاب ثقافي وعلمي وإعلامي وتجاري. كتابات إبداعية متنوعة، ودراسات في مختلف فروع العلوم الإنسانية، وإنتاجات فنية تشكيلية وسينيمائية لها حضورها هنا وهناك. وانتقل هذا الحضور الثقافي إلى خارج العالم العربي، في أوروبا والعالم الأنجلوسكسوني. 4. مع ذلك فإن ردة فعل المركزين الثقافيين القديمين لم يصرّحَا بعد بخطاب ثقافي جديد، قادر على استيعاب هذا الذي يحدث. ما زلنا نقرأ كتابات متلبّسة بنزعة لا ثقافية في معالجة مسألة ثقافية. ولعل المبادرات التي نتتبعها اليوم، في المركزين الثقافيين القديمين، لا تكاد تُفصح عن رؤية مختلفة عما كان عليه الأمر قبل بروز هذين الجناحين الثقافيين. وأكثر من ذلك، لا يزال تأثير الخطاب التقليدي في النظرة اللامعرفية للثقافة المغاربية سائداً في سائر البلاد العربية، بما فيها البلدان المغاربية ودول الخليج، التي يتحرك فيها الإنتاج الثقافي نحو فضاء مختلف. وما تم تقديمه من مداخلات نقدية وتحليلية في ندوة مجلة «العربي» (بخلاف شهادات) لا يتعدى، في مجمله، إعلان حسن النوايا بلغة خطابية. لا أفهم السبب الذي يجعل باحثين سوسيولوجيين لا يفكرون، مثلا، في تخصيص قسط من أعمالهم لهذه المسألة، أو ينشؤون فرعاً في المؤسسات الأكاديمية لدراستها، باعتبارها ذات أثر سلبي على واقعنا الثقافي. لكن هناك قضايا أخرى، تتفرع عن عدم الفهم هذا. أصوغ جملة منها في أسئلة، من قبيل: هل إشكالية العلاقة الثقافية بين البلدان العربية اليوم، وخاصة بين المشرق والمغرب، هي نفسها في القديم؟ أين مكان الغرب اليوم في تعيين الوضعية الثقافية داخل العالم العربي؟ ألا يُعبر الخطاب السلبي، المصاحب للإبدالات الثقافية، عن اهتمام بما هو محلي، قطري، على حساب ما هو عربي ومشترك؟ بأي مرجعية نظرية يمكن أن نقرأ انتفاء وجود مركز ثقافي عربي اليوم؟ أسئلة مزعجة. وهي في جميع الأحول تتخلى عن الاستسلام للانفعال والخطابة، سواء أكانا صادرين عن تحقير الآخر أم عن تمجيد الذات. في المعرفة وحدها يمكننا بناء خطاب قابل للهدم، أما إذا كان الخطاب غير مبني معرفياً فهو لا يكون معرضاً للهدم ولا يسمح ببناء خطاب جديد، أي لا يتحول إلى نقطة في نهر المعرفة. أن تزعجنا الأسئلة معناه أن تكون أداة لتغيير وجهة النظر، التي هي أساس بناء الموضوع. ولا أنفصل عن الأسئلة، لأنها علمتني أنها السبيل للمعرفة، والبحث، والاستقصاء، والحفر في الأراضي القاحلة. وبالأسئلة يمكنني أن أهاجر إلى أراض ثقافية لا نهائية، تساعدني على رؤية الذات من أفق أرحم، يفسح في الرؤية بدون شروط. 5. ليست المقاربة التي أقترحها أقل إزعاجاً من الأسئلة التي لا تكف عن التوالد. أعيد وأكرر بأن طرح مسألة المركز الثقافي، بما هي إشكالية، من شأن أهل المحيط الثقافي. وما ينتج عن القول بانتفاء المركز الثقافي اليوم عربياً يتزامن مع الانتفاء التدريجي للمحيط، أيضاً. فربما كانت الثقافة العربية تجتاز مرحلة فريدة في تاريخها الحديث، تتمثل في بناء بلدان عربية نماذج ثقافية خاصة بها، لها من الوطني بقدر ما لها من العربي والدولي. نحن ربما كنا نعيش في غمرة هذا البناء الفريد الذي لا نوليه ما يكفي من الاعتبار. وهو يختلف عما كانت عليه الدعوة إلى الأدب القومي في مصر الثلاثينيات. من الإبدالات الثقافية، التي شهدتها جميع البلدان العربية منذ الثمانينيات، حصول أجيال شابّة على مستويات ثقافية عالية، بعد أن كان ذلك محصوراً في المركزين الثقافيين، القاهرة وبيروت، والشروع في مرحلة جديدة كلية في العلاقة المباشرة مع الثقافة الغربية والاستغناء عن الوسيط الذي كان يمثله المركز الثقافي، وبروز خطاب في التسعينيات يطالب بالحقوق اللغوية والثقافية لغير العرب، وفي مقدمتهم الأمازيغ في شمال إفريقيا والأكراد في سوريا والعراق (مع الامتداد في تركيا)، وتعميم ثقافة المواقع الاجتماعية، التي هي ثقافة استهلاكية. لكن أكبر وأخطر إبدال هو استعاضة الثقافة العربية بالثقافة الإسلامية، وهو الإبدال الذي يقدم نفسه، منذ نهاية الثمانينيات، كمعارض جذري لجميع الاختيارات السابقة التي أصبح لها تاريخها وهزائمها. ربما كانت هذه الإبدالات لم تعد تنتظر اعتراف المشرق بالمغرب ولا المركز بالمحيط. كل كلام من هذا القبيل هو إما وهم أو حنين. فليفرحْ به المتشبثون بما لم يعد لوجوده ضرورة. ثمة ورشات نرفض أن نراها في أحجامها الحقيقية، نفضل أن نمر أمامها ونضحك. نحن منشغلون بالضحك على الواقع، وفي المحافل نرفع الأذقان ونخطب. رفضنا هو رفضنا. ويفيد الرفض أننا نمتنع عن الاشتغال على الواقع العيني وإبدالاته. 6. سبق لي، في أكثر من مناسبة، أن أشرت إلى أن العلاقة بين المغرب والمشرق معقدة. لذلك فإن لها وضعية الإشكالية، وتتطلب توفر فرق بحث متخصصة وصبُورة. نموذج فرق البحث الذي أفكر فيه هو مدرسة فرانكفورت، التي اشتغلت على قضايا وقائع الحياة الألمانية. وأكْسيل هُونيت هو، اليوم، وجهها الفلسفي والسوسيولوجي الأبرز، الذي ركز اهتمامه، منذ ما يقرب من عشرين سنة، على نظرية الاعتراف بالآخر. لست معنياً بإبداع نظرية نقدية، لكني أفيد مما يقوم به الآخرون، في محاولة فهم هذا المكان الذي نشأت فيه، من خلال تاريخه الثقافي، الذي ارتبط في مرحلة منه بالأندلس. ومن أجل السير على طريق محاولة الفهم، أسجل ملاحظات مختصرة. تعلق المغاربيون والأندلسيون في القديم بالثقافة المشرقية، وكان تعلقهم بها مقترناً بالتبجيل والتعظيم. ومن مظاهر هذا التعلق مكانة كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، التي ظلت عالية في نفوس المغاربيين والأندلسيين ولم يتخلوا عنه؛ وكذلك الشأن بالنسبة لديوان أبي تمام والمتنبي، اللذين خصوهما بأعلى مراتب العناية، من حفظ وتدريس وشرح واختيار منتخبات. فهل أخطأ المغاربيون والأندلسيون في ارتباطهم الحميم بهذه الكتب وبسواها؟ أو هل هذا الموقف النبيل من عظماء الثقافة العربية والإسلامية دليل على ضعف الأندلسيين والمغاربيين وخلوّ ثقافتهم من كل إبداع؟ لكن بأيِّ حق ينال هؤلاء المتفانون في حب الثقافة العربية والإسلامية احتقارَ مَنْ يدّعون من المشارقة أنهم أصحاب ملكية هذه الثقافة؟ 7. ذكرت من قبل أن اعتراف المشرق بالمغرب ربما أصبح متجاوزاً، بحكم بناء أوضاع تتشكل داخل العالم العربي وعلاقات تنسج على نحو مباشر مع العالم. وأتساءل الآن عما إذا لم يكن وقت طرح الأسئلة قد فات موعده. فالثقافة العربية الحديثة كانت إلى حدود التسعينيات تستلهم النموذج الثقافي التحديثي للقرن التاسع عشر، أما مع التسعينيات فإن متغيرات متسارعة أخذت تتدخل في إعادة صياغة الأوضاع الثقافية، منها بناء بلدان عربية نماذج ثقافية بديلة عما كان سائداً من قبل. والخطاب الديني بدوره ليس محايداً في إعادة صياغة المشهد الثقافي. هي صياغة بالسلب لأن الإسلاميين، الواقعين تحت تأثير الأيديولوجيا، لا يعتمدون المعرفة ولا يعترفون بالإبداع، كما كانت التيارات الإسلامية في القديم. فهم يتحصّنون بشعارات ثقافة الجهل وثقافة الاستهلاك وراء مقولة الدفاع عن الإسلام ضد كل من الغرب المسيحي والغرب العلماني. والصياغة بالسلب تعني دعوات التكفير التي لا تتوقف ضد من يشمّون فيه رائحة حرية الفكر والإبداع. 8. هناك من لا يزال يعتقد أن توفر دور نشر وصحافة وقنوات توزيع في بلد، كافية للحديث عن وجود المركز الثقافي أو استمراره. مجرد وهم أقول. فالمركز الثقافي لا يتحقق بعنصر أو عنصرين من تلك العناصر الثلاثة التي استخلصتها مشتغلة ضمن نسق. دور النشر ومؤسسات الصحافة والتوزيع وحدها لا تنفع، كما أن تميز المكان بحركية إنتاج السؤال والجواب لا يكفي. وكذلك الأمر بالنسبة لحرية التفكير والتعبير، التي هي أصعب عنصر، ما دام توفرها منفصلة عن العنصرين الآخرين يترك المركز الثقافي خارج التحقق. نحن اليوم بدون مركز ثقافي، وما ينشأ من بناء نماذج ثقافية بديلة لم نلتفت إليها بكل ما تستوجبه من الملاحظة والمتابعة وتقديم فرضيات واعتماد نظريات. هي هناك، في واجهة أو خلف جدار. بيننا وبينها مسافات من عدم الاكتراث. ما يغوينا هو الاستعراض، الإغراء، السحر. يسعدنا أن ندير ظهرنا للوقائع. نحن لا نريد أن نجهد أنفسنا، ولا أن يزعجنا أحد. مقاعدنا وثيرة. ولنا موعدنا، موعد الضحك على أنفسنا. مراجعات فرانكفورت نشأت مدرسة فرانكفورت كحركة فلسفية بمدينة فرانكفورت سنة 1923. وجمعت فلاسفة مثل ماكس هوركهايمر، والتر بنجامي، وهيربرت ماركوز، ويورغن هابرماس وهو الممثّل الأكثر شهرة للجيل الثاني للمدرسة. هاجرت الحركة إلى جنيف سنة 1933 مع وصول هتلر للحكم في ألمانيا ثمّ إلى الولايات المتّحدة أثناء الحرب، قبل أن تعود مجددًا إلى ألمانيا في بداية الخمسينيات، حيث تولد مسعى سياسي أكاديمي إلى إعادة الحياة في الفكر السابق للنازية، وفي هذا السياق تم الاتصال بهوركهايمر للعودة إلى فرانكفورت (...) لكن الخط الأكاديمي هذا سرعان ما تحول إلى دراسة رواسب النازية في الفكر والمجتمع الألماني وكيفية التصدي لها، وأصبح رهان المعهد هو رصد هذه النازية الثاوية في فكر الأكاديميين والطلبة الألمان ومحاربتها وهو الخط الذي شارك فيه هابرماس كباحث، ولكن سرعان ما تخلى عنه وتصادم مع هوركهايمر بسبب تخلي هذا الأخير عن مشروع الثورة. ويمكن القول بأن مدرسة فرانكفورت قد مرت بمجموعة من المراحل، فقد انشغلت في الثلاثينيات والأربعينيات بالاشتراكية الوطنية، ومعاداة السامية، واهتمت في الخمسينيات بصناعة الثقافة، واعتنت في الستينيات بالحركات الثورية التحررية، لا سيما ثورة الطلبة والأقليات العرقية، لتهتم في سنوات السبعين وبعدها بنظرية المعرفة، وإعادة النظر في الكثير من الآراء الماركسية، وبناء أسسها من جديد، وصياغة نظرية ماركسية جديدة، والاعتناء بالقضايا السياسية والمجتمعية في ضوء النظرية النقدية. البربري والبربرية تعرضت «المركزية الأوروبية» خلال القرن المنصرم، إلى موجات من التبجيل والتأثيم. هناك من ربطها بالهيمنة الاستعمارية ذات المبرر الأيديولوجي، وبالتالي فإن تجلياتها الثقافية تأتي في هذا السياق. وهناك من اكتفى من الحضور الطاغي للثقافة الأوروبية بمشاهدة تجليات الحداثة وإفرازاتها. في هذا السياق تبرز مقاربة كلود ليفي ستراوس والتي يستخدم فيها ما يسميه مركزية إثنية Ethnocentrisme، وما تحمله من أحكام مسبقة على الثقافات الأخرى. لذلك يدعو ستراوس إلى التسامح مع الثقافات الأخرى، وهو ما يسميه بالنسبية الثقافية، فليس هناك ثقافة لها الحق في النظر إلى ذاتها باعتبارها أرقى من الثقافات الأخرى، ولذلك يقول كلود لفي ستراوس: «إن البربري هو ما يعتقد في وجود البربرية»، فمن وجهة النظر الأنثروبولوجية ليس هناك سلّم مفاضلة بين الثقافات وإنما هناك تنوّع نسبي بين الثقافات. وغالبًا ما تكون الأحكام الثقافية الحضارية التي يسفر عنها التقويم للآخر سلبية إلى حد الحط عمدًا من شأن الثقافات المغايرة. مثل القول إن أوروبا هي مركز العالم وبهذا المعنى فإن المركزية الأوروبية تصبح شكلاً من أشكال هذه المركزية الإثنية. ولعل من أبرز الأمثلة على الفكر الذي تتحكم فيه النزعة المركزية الأوروبية زعم هيغل أن أفريقيا لا تشكل جزءًا من تاريخ العالم، وزعم ماركس بعده بسنوات أن الهند ليس لها تاريخ وأن من مآثر الاستعمار البريطاني أنه سيُدْخل شبه القارة الهندية في التاريخ الأوروبي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©