الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لا فرق في الشرق.. بين قبائل الفكر والعِرق!

3 نوفمبر 2015 21:52
أفتح باباً يستحق كتاباً، ويتطلّب ألباباً تتأمل وتتدبر وتعي، ولا أظن أنني قادر على الإحاطة به وحدي لأنه معقد ومتشعب وشائك أيضاً، وأعني به الفكر القبلي وقبلية الفكر لدى العرب، أو الفكر النسبي والنسب الفكري لدى العرب الشغوفين حتى الثمالة بالأنساب العرقية التي تحولت مع الوقت، ومنذ الفتنة الكبرى، وحتى الغد إلى الأنساب الفكرية والدينية وإلى السلفية، وغيرها حتى وصلنا بالتدريج إلى القبلية الدينية، وهي أخطر الأنواع وأشدها ضراوة على الإطلاق. ولن أضيف إلى الناس جديداً إذا تحدثت عن تداعيات الفتنة الكبرى منذ النصف الأخير من خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فالناس يعرفون أكثر مني في هذا الشأن، ولكني معني بأن هذه الفتنة الكبرى والتي نسمي أشباهها في زماننا هذا ثورة، كانت بداية القبلية الفكرية والدينية في أمتنا. وبداية الصراعات القبلية تحت لافتة دينية، فقد أسقط الإسلام والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم القبلية العرقية، التي كانت في الجاهلية تشعل حروباً، لا ينطفئ لها أوار وما تكاد تنتهي حتى تبدأ. فمن حرب البسوس إلى حرب داحس والغبراء إلى الحروب المستعرة بين الأوس والخزرج. وكانت تلك الحروب الضارية تلهم الشعراء وكانت مصدر الفخر حتى سميت أيام العرب. وكان الشعراء في تلك الأيام هم إعلام القبائل. فكل شاعر هو جهاز إعلام قبيلته ومصدر إلهاب حماستها وتعبئتها للحرب. ولم يكن إسقاط القبلية العرقية لدى العرب عملاً بشرياً أبداً، فقد تكفل الله عز وجل بهذا الأمر وحده، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن أبداً قادراً على إنهاء هذا العداء الضارب في أعماق النفوس والمبني على الثارات المتراكمة لذلك قال الله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:(... لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ...)، «سورة الأنفال: الآية 63».. وقال عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا...)، «سورة آل عمران: الآية 103». مسألة تأليف قلوب العرب كانت إلهية بحتة ولا يمكن أن يقدر عليها بشر فلم يكن العرب يوماً ما كتلة واحدة، بل كانوا أشتاتاً متنافرين متناحرين محكومين بفكرة القبيلة والأنساب لا بفكرة الوطن والأرض.. الأرض كانت متغيرة والترحال كان مستمراً لا يكاد ينقطع، وهو ما ألغى تماماً مبدأ الأرض والوطن والشعب.. ولذلك كان العرب يتشبثون بفكرة القبيلة والأنساب، حتى إذا تغيرت الأرض والوطن وتباعدت المسافات يتعارفون فيما بينهم بالأنساب. وكان المرء إذا سئل في الغربة عن انتمائه يقول: قرشي أو تميمي أو أي قبيلة، ولم يكن أبداً يقول إنه ينتمي إلى مدينة أو بلد أو قرية لأن الانتماء العربي كان وما زال عرقياً ولم يكن جغرافياً. وأميل إلى تفسير أحدهم للآية الكريمة من سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...)، «سورة الحجرات: الآية 13»، فقد قال هذا المفسر الفقيه القديم: جعلناكم شعوباً أي العجم. وقبائل أي العرب. لأن التركيبة العربية قائمة على القبيلة والتركيبة الأعجمية قائمة على الشعب، لذلك انطلق العرب في كل سلوكياتهم وأفكارهم من النسق القبلي القائم على التنافر والتناحر لا على التحاور والتجاور والقائم على التعصب لا على الاعتدال.. وساد هذا النسق القبلي تماماً في المساحة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي نتيجة سيطرة العرب على هذه المساحة.. حتى عندما قامت الدول في هذه المساحة كانت وما زالت القبلية والأنساب أقوى من الأرض والوطن والشعب. ومنذ الفتنة الكبرى حدث التحول الخطير الذي ما زلنا نعيشه إلى اليوم وهو انتقال القبلية من العرق إلى الفكر، وإلى الدين وزالت تماماً القبلية العرقية، لكن ليس لمصلحة الوطن أو الدولة الوطنية أو حتى الأمة، بل لمصلحة قبليات فكرية ودينية راحت تنتشر في جسد الأمة العربية والإسلامية حتى تهاوت الأمة تماماً في أواخر العصر العباسي. وأصبح من المألوف أن نرى القبيلة العرقية الواحدة وقد تفتتت إلى قبليات فكرية متناحرة. فنجد في القبيلة الواحدة، الشيعي والسني والخارجي والسلفي والإخواني ثم الداعشي. ومنذ الفتنة الكبرى تحول النسب من القبيلة العرقية إلى القبيلة الدينية أو المذهبية. وتحولت الحروب من قبلية عرقية إلى قبلية دينية وفكرية حتى أنك تجد حرباً بين أفراد قبيلة عرقية واحدة كل فريق منها ينتمي إلى مذهب ديني أو فرقة دينية من الفرق الهالكة أو القبائل الفكرية الهالكة، وسميت المذاهب حتى السُنية الواحدة والشيعية الواحدة بأسماء زعماء القبائل الفكرية أو الدينية، فصرنا ننسب الناس في أمتنا إلى القبيلة الفكرية وزعيمها لا إلى القبيلة العرقية.. فهذا شافعي وهذا حنفي، وهذا مالكي وهذا حنبلي، وهذا ظاهري ثم هذا جعفري وهذا إسماعيلي وهذا زيدي. والآن هذا إخواني وهذا داعشي وهذا سلفي. بالإضافة إلى العلوي، وغير ذلك من أسماء القبائل الفكرية. وفي مصر أيام المماليك كانت الحروب مستعرة ودامية بين أتباع المذاهب السُنية الأربعة، ووصل الأمر إلى معارك شرسة سقط فيها قتلى وجرحى في ساحة الجامع الأزهر. وحدث هذا في جوامع عربية كثيرة. والقبائل الدينية والفكرية في الأمة العربية تشبه في تركيبتها ونسقها القبائل العرقية، فالإخوان لا يتزوجون إلا من بعضهم وكذلك الدواعش والسلفيون، كما أنهم إذا حكموا واستولوا على السلطة لا يقلدون المناصب إلا لبعضهم وهو ما يسمى في أدبياتهم التمكين. وهي ليست أخوة في الإسلام وإنما هي أخوة في القبيلة، كما أن هذه القبائل الدينية تشبه العرقية في نفي القبائل الأخرى واحتقارها وإقصائها وترفض الحوار والجوار، لذلك تبدو مسألة تأليف قلوب القبائل الدينية مستحيلة وأكثر استحالة من تأليف قلوب القبائل العرقية، ولا يمكن أن تتحقق بالحوار، أو ما يسمى تجديد الخطاب الديني، بل إن الحل كما كان في الجاهلية أيام القبائل العرقية هو إخضاع الآخر بالقوة. والقبيلة الفكرية الأقوى هي التي تفرض أجندتها ورأيها. وهذه الصراعات القبلية أدت وستؤدي أكثر إلى تآكل الدولة الوطنية في أمتنا العربية لصالح القبليات الدينية ما لم تعتمد الدولة الوطنية مبدأ القبيلة الأقوى وتضرب هذه القبائل الفكرية والدينية بلا رحمة.. لكن المشكلة لدى الشعوب العربية أنها تتعاطف مع هذه القبائل الفكرية والدينية بوصفها الإسلام لا بوصفها قبائل فسيفسائية شاردة. والمشكلة أيضاًَ أن الشعوب تنظر إلى الدولة الوطنية بوصفها قوة كافرة في مواجهة الإسلام، لا بوصفها دولة في مواجهة قبائل شاردة ومارقة، وهذه النظرة بدأت منذ الفتنة الكبرى واندلاع الصراع العرقي بين بني هاشم وبني أمية تحت لافتة دينية.. وتستمر الآفات مع تعدد وتغير اللافتات ولا نرى أي فرق في الشرق بين قبائل الدين والفكر وقبائل العِرق! محمد أبوكريشة* *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©