الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبي على الورق

أبي على الورق
10 نوفمبر 2011 20:44
نورا محمد (القاهرة) - لا أعرف عن حياة أبي السابقة إلا القليل فكل الخطوط بيننا مقطوعة ولا يوجد أي نوع من الحوار منذ كنت طفلة وحتى بعد ان بلغت الآن السابعة والعشرين من عمري، فهو لا يتحدث معنا ولا نعرف منه إلا الأوامر الواجبة التنفيذ وكل ما أعلمه انه كان عاقا لوالديه وكان منبوذا ممن حوله ومن إخوته وأقاربه، أبوه دائما غير راض عنه ويطرده كثيرا من البيت بسبب سوء تصرفاته وسلوكه حتى حدثت القطيعة بينه وبين جميع أهله وتركهم وهم لا يعرفون أين ذهب ولم يحاول الاتصال بأي منهم إلا ما يكون من لقاء عابر بالصدفة وتزوج كثيرا وطلق كثيرا أيضا ولا أعرف عدد زيجاته، وإن كانت كلها فاشلة لعيوب فيه، فلم تطق واحدة الاستمرار معه وآثرن الفرار. الحظ العاثر أوقع أمي في طريقه وتمت خطبتها له وهي لا تعرف عن ماضيه ولا أخلاقياته أي شيء وإلا لكان لها موقف آخر وأنجباني أنا وأختي ومنذ وعيت على الدنيا لا أعرف لنا أقارب أو أخوالا أو أعماما، واعتقدت في البداية ان هذا الأمر طبيعي ولكن بعدما بدأت أعقل وأسال من بعيد علمت ان سوء سلوك أبي وراء ابتعاد الجميع وعدم التعامل معه وصدقت ذلك فأنا أكثر الناس دراية به وبأخلاقياته وتعامله ولا أبالغ إذا قلت انه لا يستحق ان أقول عنه «ابي» فهو فظ غليظ القلب. أبي رجل ميسور ورغم انه لا يتحمل اي مسؤولية تجاه الأسرة كلها فإنه كان يطمع في راتب أمي القليل ويحصل على معظمه وتقدمه له خشية بطشه وتجنبا لبذاءة ألفاظه، فهو صاحب قاموس متفرد في السباب والكلمات الخارجة رغم أنه نشأ وتربى في منطقة تعتبر راقية ومن حوله لا يتعاملون بهذا الشكل مما يؤكد انه شخصية مارقة منحرفة. الرجل يتمتع بقدرات تمثيلية فائقة فهو يعيش بشخصيتين مختلفتين تماما فمع هذا الذي يفعله في المنزل معنا نراه رقيقا ودودا مع الآخرين خاصة في حواراته مع النساء او مع أصدقائه الذين يقضي معهم وقته وهو مجامل الى أقصى حد وهامس وحالم مما جعل الجميع لا يصدقوننا اذا شكونا او تحدثنا عن صفاته وتعامله معنا. لا أتذكر يوما ان هذا الرجل الذي من المفترض ان يكون أبانا قد ربت على كتفي او مسح على رأسي او سأل عن ظروفي الدراسية وأجزم أيضا انه لا يعرف في أي صف دراسي أنا او أختي لا يهمه ان كنا في شتاء او صيف ولا يعرف إن كنا نريد ملابس أو أي احتياجات حياتية، ترك كل هذه المهام لأمي المسكينة الضعيفة المغلوبة على أمرها وهنا قد يسأل سائل: لماذا لم تتخذ أمي موقفا مثل الطلاق والإجابة انها كانت تخاف من الانفصال لان نتيجته التشرد لنا وضياعنا فتحملت فوق ما تطيق. البيت هو الجحيم فلا يعجبه شيء فيه مهما كان واذا حضر فقد جاء الشيطان بكل شروره ويأتي مثل رياح عاتية محملة بالأتربة والرعد والصواعق ويركل الأبواب لا يتفاهم الا بالشتائم والصفعات وصوته من أنكر الأصوات وهو لا يخجل منه بل يتباهى به. لا يعجبه أي طعام حتى لو طلبه بنفسه ويقيم الدنيا ولا يقعدها اذا تحرك شيء من مكانه وليته يكتفي بأن يأمر أو يطلب وانما لا يتفاهم الا بوصلة طويلة من الشتم والسب مع الضرب المبرح لأي منا اذا أوقعه حظه العاثر في طريقه، يدخن بشراسة ويلقي أعقاب السجائر على الارض حتى انه مرة كاد يتسبب في احتراق البيت ونحن فيه. من سوء الحظ والطالع ان يتزامن خروجنا للمدارس كل صباح مع استعداده للذهاب الى عمله ومن الضروري ان يتحفنا في أول اليوم ببعض ألفاظه حتى نخرج كالمعتاد ودموعنا على خدودنا والكآبة على وجوهنا العابسة باستمرار فلا تعرف الابتسامة طريقها إلينا بسببه وليتنا لا نراه ويكتفي بهذا وانما عند العودة نلقى أضعاف ذلك فأصابتنا الأمراض النفسية والعصبية والكآبة وعرفنا الطريق الى الأطباء النفسيين ومشافي الصحة النفسية التي لم يجد أي علاج منها معنا لان الأسباب مستمرة ومتزايدة وفقدنا الأمل في غد أفضل واعذروني اذا قلت اننا لا نكف عن الدعاء عليه بالموت حتى نتخلص منه ونستريح فلا خلاص لنا إلا بذلك ونحن ننام على البكاء ونستيقظ عليه في رعب دائم. لم يعد لدى امي أي قدرة على الاحتمال وانهارت تماما وسقطت صريعة المرض الشديد وأصابتها حالة عصبية وتشنجات وصرع وهياج، وعندما تأتيها النوبة لا تعرف ماذا تفعل وقد تحطم كل شيء أمامها وكان لابد من بقائها في المستشفى باستمرار لتلقي العلاج ومتابعة حالتها والتعامل معها عند الضرورة وقد ظلت عدة أشهر ونحن نتردد عليها يوميا ونعاني الأمرين في التنقل بينما هو لم يفكر يوما في الاستفسار عن حالتها او زيارتها او معرفة ظروفها ويتنزه بسيارته ويعيش حياته ويسهر مع شلته كل ليلة الى ان توفيت أمي وانتظرنا حضوره لتسديد مصروفات العلاج وانهاء الاجراءات للدفن ولكن لم يحضر ورفض تحمل نفقات العلاج واضطررنا مجبرين للجوء الى أخوالنا الذين استجابوا وتم دفن أمي التي استراحت من شرور أبي الذي لم تتغير حياته ولا معاملته لنا وهذا جعل كراهيتنا له تبلغ منتهاها وقد كدنا او فكرنا بالفعل في التخلص منه بقتله لولا خوفنا من السجن الذي كان أحب الينا مما نحن فيه وايضا أحسن حالا. من الطبيعي في أحوال وظروف فتاتين مثلنا الا يفكر اي شاب في خطبتنا ونحن نقترب من الثلاثين من عمرنا ولو تقدم لي شاب حرفي يحصل على رزقه يوما بيوم وانا حاصلة على مؤهل عال لوافقت عليه هربا من جحيم أبي، ولكن هذا لم يحدث وليس من المعقول او المقبول ان أعرض نفسي على أحد وقد انتقلت توابع مأساتنا الى عملنا وتتهامس زميلاتنا عن انني وأختي معقدتان ويتهمننا بالجنون وقد يكون لديهن بعض الحق لاننا منعزلتان ولا نختلط بأحد ونكتفي بعملنا وفي نفس الوقت لا نحاول ان نشكو او نستغيث. عتابي مازال مستمرا على أقاربي وخاصة أعمامي وعماتي وأخوالي الذين تركونا بعد كل ذلك من دون اي تدخل وهم يخشون لسان أبي السليط ومازالوا يخافون مواجهته أو حتى مجرد الحديث معه وقد زادته الشيخوخة عصبية وسوء خلق، ولم تؤثر الأمراض التي اصابته في إعادته عن غيه وهو يعاني أمراض السكر والضغط والقلب ومازالت سلوكياته على ما هي عليه وعندما ينقل الى المستشفى لا أجد رغبة في زيارته أو الاطمئنان عليه إلا من أجل الشماتة أو البحث عن بارقة أمل في ان يقترب من النهاية ونتخلص منه لكن مازال هناك المزيد من المعاناة المتواصلة لنا وقد لا أشفق عليه وهو يتألم حيث أتذكر أعماله التي مازالت كما هي وتصرفاته، وهذا هو السبب الرئيسي في عدم تعاطفي معه، فرجل في مثل ظروفه يجب ان يتعظ وهو السبب في تحجر مشاعري وعدم إحساسي به وهو من جعلني أصاب بجفاف الدموع وتحجر القلب. هل يوجد في الدنيا إنسان أو أب مثل هذا الذي من المفترض ان يكون أبي؟ هل يوجد أبناء عانوا مثل ما عانينا أنا واختي وأمي رحمها الله؟ هل يوجد على وجه الأرض من تعرض لمثل ذلك؟ الاجابة: لا أعتقد بل من المستحيل!! وأخيرا لا أجد ما أختم به إلا أن أقول إن الوحيد الذي شعر بمأساتنا منذ مئات السنين هو الشاعر أبوالعلاء المعري الذي قال: «هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©