الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طعم الموت

طعم الموت
6 نوفمبر 2013 19:25
“طفلٌ بلا بيت رجلٌ بلا ذاكرة” عبارة أصبح أبي يردّدها كثيراً هذه الأيام، ولكني لم أستطع فهمها.. كانت تدور وتدور وتدور في ذهني الصغير كحُلم نائمٍ في ليلة شتاء، وتغمرني كما أمواج شاطئ قريتي حين كنت أركض على طول الساحل النديّ الصامت.. ظلّت تلك العبارة تطاردني بل تُغرقني، حين كنتُ أجلس وحيدة في أقصى حافلة المدرسة، لا أحد إلى جانبي، غارقة في التردد، أمسك حقيبتي المدرسية الصغيرة وكأنني أبحث عن رفيقة، منذ أسبوع انتقلنا للعيش في مدينة العين، هي مدينة بلا شاطئ ولذلك بدتْ لي عجيبة مختلفة عن تلك التي كنت أعيش فيها. حتى أصل مدرستي الجديدة كان لابد أن أركب كل صباح هذه الحافلة الصغيرة التي تبدو لي أحيانا وكأنها زورق صغير يشق الطرقات وحدائق الخضرة وأمواجا جميلة لبحر كبير مرسوم في ذهني كالميلاد.. كنت أشعر أني غريبة ووحيدة وأنا أستمع إلى التلميذات الصغيرات يتكلمن بلهجة لا أعرفها وأحيانا يغنين أناشيد صباحية أو يضحكن في سعادة.. كانت الحافلة تسير ببطء مملّ.. عندما صعدتْ في إحدى المحطات طفلةٌ في مثل سني، شعرها ذهبيّ لمّاع قد أفردته جديلتيْن على كتفيْها في تناسق جميل، عيناها لمّاعتان فيهما خضرة صامتة حزينة وتعبٌ جميل، كانت تشقّ الممرّ بين المقاعد في وجل وتعثُّر وتنظر يمينا وشمالا وكأنها تبحث عن شيء ما، في الأخير وصلت عند المقعد الذي أجلس فيه، أفسحتُ لها المجال فجلستْ إلى جانبي، لم تقل كلمة، وضعتْ حقيبتها المدرسية على ركبتيها، كان يبدو عليها التعب فعيناها منتفختان قد قرّحهما الأرق.. الحافلة تسير ببطء حين لمحتها تغفو قليلا، ولكنْ ما إن توقفت الحافلة مرة ثانية في محطة من المحطات حتى انتفضت في هلع وقد جحظت عيناها من الخوف، ثم بادرتْ إلى يدي الصغيرة تمسكها من دون وعي، تعلّق نظرها بباب الحافلة الأمامي وحين لمحتْ تلميذة تمشي بين الكراسي عاد إليها هدوؤها وأرسلت إليّ نظرة يملأها الخجل.. أسندت رأسها إلى الكرسي وعادت إلى النوم، لم تمر سوى فترة وجيزة من الوقت حتى أخذها الخوف مرة أخرى فانتفضت وأمسكت يدي.. تحاشت النظر إليّ.. كنت سعيدة بلقائها على الرغم من خوفها المزمن الغريب عند كل محطة.. وكم كانت سعادتي كبيرة حين وقفت تلك التلميذة في ساحة المدرسة إلى جانبي في طابور الصباح! لقد كانت جديدة مثلي ولكنها تبدو تائهة أكثر مني. في الصف جلسنا قريبتيْن.. كنت أشعر بها تبحث عن الأمان مثلي تماما.. لا أدري لماذا تذكرت قطط حينا السائبة التي تمشي على وهن طول الطريق باحثة عن الفيء! أحسست نظراتها تفتش عني حتى دخلنا الصف.. كان فرحي بها يتعاظم ولكن ما نغّص عليّ سعادتي في ذلك اليوم هو ما حصل لي مع تلميذ في الصف كان قد افتك قلمي مني عنوة عند نهاية الحصة قبل الفسحة، حاولت استرداده منه ولكنه دفعني وأهانني وسخر من لهجتي وظل يردد ضاحكا: “القلم مْتاعِي.. مْتاعي أنا..”، وظل يُخرج لسانه ممعنا في إهانتي.. غاصت عيناي في الدموع وقتلني شعور الغربة.. خرجت من القاعة وأنا أنتفض من البكاء لأن المعلمة كانت قد غادرتْ.. انزويت في الساحة حاضنة دموعي وقد لبستني الوحدة.. انتبهت إلى تلك الطفلة تقترب مني في تردد، ثم تجلس إلى جانبي وتمد إليّ بيد مرتعشة قطعة من الطعام كانت في كيس صغير بيدها وهي تقول لي: خذي، كُلي.. كتير طيّب... سألتها وأنا أمسح دمعي: ما هذا؟ أجابت وهي ترسم ابتسامة على فمها الصغير: ورأ العنب.. فرددت مستغربة: ورق العنب! ازدادت ابتسامتها المتعبة إشعاعا قالت وهي تدير رأسها: لا، لا إنه “ورأ العنب” بالهمزة لا تنطقيه بالقاف... قولي: ورأ العنب. ظللت لحظة أفكر، قلت في نفسي: كيف يمكنني أن أنسى لهجتي بهذه السرعة؟ فقلت لها بإصرار: ورق العنب! لم تهتم بما قلت ولكني على الرغم من ذلك تناولت القطعة منها وقضمت منها جزءا صغيرا، كانت لذيذة حقا، عند ذلك قالت لي: أمي تقول دائما ورأ العنب هو دواء البكاء.. إنه يكفكف الدموع ويمنع الإنسان من البكاء! ابتسمتُ لها، فواصلتْ بحماس حزين: أنا ديما من سورية وقد جئت حديثا إلى البلد والمدرسة... أجبتها بالحماس نفسه: وأنا عائشة من تونس... تأملت وجهي قليلا ثم قالت بسعادة: أرأيت كيف توقفتِ عن البكاء؟! ثم أخذت تفتش في حقيبتها وكأنها تبحث عن شيء، رفعت رأسها إليّ وقالت في أسى: لقد نفذ ورأ العنب، مشكلة، نحن بحاجة إليه، إنه رائع حين يكون محشوا بالأرز، انتظري عندي درهمان.. تركتني ثم اندفعت تركض ناحية كافتيريا المدرسة بخطوات متعثرة في البداية سرعان ما خفت وتلاحقت وبعد فترة جاءت وفي يدها الكثير منه وقالت جذلة وقد غمرتها السعادة: لدينا الكثير منه اليوم.. تعاليْ نأكله حتى لا نبكي هذا اليوم بكامله.. صمتت لحظة ثم سألتني باهتمام: ماذا تتمنين يا عائشة؟ أجبتها واثقة: أتمنى العودة إلى بلدي تونس! نكست رأسها تتأمل الخواء ولكنها رفعته قائلة في سعادة: أنا أتمنى أن أكون ملاكا شفافا.. لا يراني أحد، خاصة حين أصعد الحافلة.. سكتت لحظة ثم واصلت في حزن وكأنها نسيت شيئا: أتمنى أيضا أن أنسى..! استغربت أمنيتها ولكنني لم أشأ أن أسألها عن السبب.. فما همني من ذلك كله أنه منذ تلك الحادثة أصبحنا صديقتين، نجلس إلى جانب بعضنا بعضاً في الحافلة وكذلك في الصف لنبدد شعورنا الصغير بالغربة.. ولكنها ظلت تنتفض كلما توقفت الحافلة.. وحين رأت نظرات الانزعاج تتملّكني، سألتني وهي تخفّض صوتها وتقترب مني هامسة وكنا في الحافلة: أنتم في تونس.. هل الحافلات تتوقف في المحطات فقط.. يعني كما هي الحال هنا؟ فأجبتها باستغراب: لم أفهم! عند ذلك واصلت بصوت خفيض خائف: لقد تغيرت الحال عندنا بسورية، فالحافلات لا تتوقف في المحطات فقط، ولكن تتوقف أيضا عندما يسد الطريق رجال مسلحون بلا وجوه.. فيصعدون ويختارون بعض الراكبين.. يُنزلونهم إلى الأسفل ويطلقون عليهم النار أو يأخذونهم إلى أماكن بعيدة ومخيفة.. أنا لم أرَ ذلك لكنني كنتُ أسمع أمي تروي حكايات غريبة.. آخر مرة قالت لي بحزم وعيناها تلتمعان بشيء لم أفهمه وصوت لم آلفه منها: إذا توقفت الحافلة في مكان غير المحطة اجلسي على أرضية الحافلة.. اختبئي تحت الكرسي.. لا تنسيْ حتى لا يصيبك ما أصاب أختك... استغربتُ حكاية أختها التي لم تعد إلى البيت إذ لم أفهم قصتها ولكن الأمر الذي تأكدت منه يومها هو أنني كنت سعيدة بها وأننا أصبحنا أصدقاء نمسك يدي بعضنا بعضاً في طريق العودة والذهاب إلى المدرسة.. كما تعودتُ على يدها تتشبث بي وبجديلتيها تنامان على كتفيها كالملائكة.. وذات يوم أتت ديما تملأها السعادة على غير عادتها بل إنها في ذلك الصباح لم تنم في الحافلة فما إن جلست حتى قالت لي بفرح: أبي سافر اليوم إلى الشام، ليأتي بأختي.. أمي قالت إنها مختبئة عند أحد أقاربنا.. واصلت بصوت خفيض: قبل أن نهرب في تلك الشاحنة.. ظللنا أياماً ننتظر عودة أختي التي تدرس في الإعدادية عبثاً.. أنا لم أفهم ماذا حصل لها بالضبط ولكن سمعت أبي يقول بصوت متهدج متقطع في إحدى الليالي أنهم أنزلوها عند أحد الحواجز.. إلى الآن لا أدري ماذا كانوا يريدون منها..! سكتت وشردت بنظراتها إلى بلور النافذة.. باحثة عن النسيان.. وأخذت تمسح بيديها الصغيرة بلّور النافذة.. لكن ديما تغيبت عن المدرسة فعدتُ إلى ما كنت عليه، أتجرّع الوحدة في صمت.. يدي تجول فوق ركبتي يتيمة بلا رفيق، أتابع مركب الحافلة يمخر عباب الصور والذكريات. لقد اشتقت إلى ورق العنب وأصبحت كل صباح أشرئبّ بعنقي باحثة عن ديما كلما توقفت الحافلة عند المحطة التي تصعد منها، فكرت كثيرا تلك الأيام.. قلت في نفسي ربما هي سعيدة بقدوم أختها أو هي عادت إلى بلدها.. ربما الحافلات في بلدها عادت كما كانت سابقا لا تتوقف إلا في المحطات.. مرّ يوم.. اثنان.. مضى أكثر من أسبوع.. وفي أحد الصباحات رأيتها تصعد الحافلة، سررت كثيرا بقدومها ولكنني فوجئت بمظهرها الغريب فقد بدا شعرها أشعث وقد احمرت عيناها وهزل جسمها، بدت لي منكسرة كقطة بلّلها المطر.. جلست إلى جانبي وقد ازداد شرودها إذ لم تجب حتى على تحيتي.. كانت في عالم آخر إذ لم تنتفض حتى عند توقف الحافلة وكأن الخواء قد لبسها وحل فيها.. في الصف كانت جسماً بلاوعي.. وعندما سألتها عن أختها سالت دموعها صامتة حزينة، في الفسحة عندما جلسنا إلى الجدار، ناولتها شيئاً من شطيرتي.. أشاحت بوجها عني بل أخذت تبكي بحرقة حين سألتها عن أبيها.. عند ذلك تملكني التردد لبرهة، ولكن شيئاً مّا في داخلي استيقظ كبركان نائم فاندفعتُ إلى الكافتيريا وأخذت أزاحم الطالبات وأدسّ جسمي النحيل بإصرار، حتى وصلت، اشتريت حبات ورق العنب وعدت إليها أركض.. قدمت لها واحدة: هيا ديما.. خذي ورأ العنب.. طيب كتير.. سيوقف دمعك.. ولكنها رفضت أن تلتفت إليّ وظلت دافنة رأسها بين كفيها.. وأمام إلحاحي وهي تسمعني أنطقها كما تحب هي (ورأ العنب)، رفعت وجهها وعيناها تطلان عليّ من وراء أصابعها الصغيرة وقالت بصوت متقطع: لقد قدمت واحدة لأمي، حين كانت تبكي البارحة، فقالت لي: آسفة يا ابنتي، آسفة، فدمعي على أختك لن تُوقفه أحلى أكلات الشام! من ذلك اليوم لم تعد ديما إلى المدرسة.. غاب صوتها في زحام الأيام المنهكة، لكن يدي بقيت تتلمس ظلها في الحافلة.. وأرفع رأسي عند كل محطة.. عساها تأتي.. أو تطير.. تطير كالملائكة! من ذلك اليوم غابت ديما في زحام الذكريات، ولم يبق من ورأ العنب سوى طعم الدموع والألم! أظن أنني بدأتُ أفهم عبارة أبي: طفل بلا بيت إنسان بلا ذاكرة.. ديما كانت على حق: ما أجمل أن يكون الإنسان شفَّافًا كالملائكة! * كاتب تونسي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©