الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رثاء الراحل أم الباقين!

رثاء الراحل أم الباقين!
6 نوفمبر 2013 19:20
إنها تراجيديا الغياب الأبدي، الغياب المطلق، الغياب السرمدي، الذي يَحُزُ بالوجدان بنصل شره، نهم، لا يرتوي بماء الحياة، لا يكتفي بقصف البسمة أو هتك المسرات، ولا يعرف التردد.. بل هو حاضر البغتة، ودائم المفاجآت. إنها تراجيديا الموت، بكل قسوته وسطوته، بكل فداحته ومرارته، بكل آلامه وعذاباته، التي تغور جروحه عميقاً في القلب، وتستوطن أوجاعه في ثنايا الروح، وقد لا تبرحها، قبل غياب الروح المكتوب منذ الأزل، لولا نعمة النسيان، التي من الله بها على الإنسان. هذه هي المطالعة الأولى، التي يخرج بها قارئ كتاب الأديب مؤيد الشيباني الجديد “أحمد راشد ثاني.. ما قاله الأصدقاء للموت”، وهو الكتاب الثامن من سلسلة أعلام من الإمارات، الصادر حديثاً عن مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية. وما يزيد من وطأة الموت وفداحته، شهادات الكُتاب، وبخاصة الشعراء منهم، التي جمعها مؤيد الشيباني، في الجزء الأول من الكتاب، ونافت على الثلاثين نصاً، حيث لا يعرف قارئها، إن كانت مكتوبة رثاءً للأديب الإماراتي الراحل، أَمْ رثاءً لأحوالهم، وبكاءً على مصائرهم، ونهاياتهم المجهولة أبداً. مرثيات ذاتية تقول الشاعرة الإماراتية الجميلة ظبية الخميس: أوصي بك الريح وشذرات العدم، صرنا بلا وداع نفترق، المصادفة تبلغنا عن نهاياتنا، حتى الحزن والرثاء والدموع كأن لا حق خاص لنا فيها، في أمة تحتضر، ويسبق موتها وعود حياتها القادمة. رمت الرحيل إذن يا أحمد راشد ثاني، في ظهيرة نهار مازال يبدأ عام جديد معه، مازال في أوله، ولكنك رحلت، فختمته ليكون آخر الأعوام. كل شيء يُعدنا للوداع، وحتى أحاديث الذكريات ووعود قادم قريب، نصنع فيه المزيد منها على أرض كلما اقتربنا منها تبتعد. نتوهم مستقبل ما، نستريح فيه من ضناء كوابيس مشينا بها. نتوهم شيخوخة آتية فإذا بها النهايات والجبال على أكتافنا لا تزال. بدوره يقول الشاعر حبيب صايغ: لا أستوعب موت أحمد راشد ثاني، لا أستوعب أن يصدر اتحاد كتاب وأدباء الإمارات نافذته الأولى وبيته الأول، بياناً ينعى فيه، ببالغ الأسى، أحمد راشد ثاني. لا أستوعب أن يتصل بي زميلي وصديقي سلمان كاصد، ليخبرني أنه عائد، من جنازة أحمد راشد ثاني. لا أستوعب أن أصحو في اليوم التالي على صورته في الصفحات الثقافية، وعلى أخبار من سيرته من المهد إلى اللحد. الآن بالتحديد، ينبئ موت الشاعر بقيامة غيره من الشعراء. شخصياً بدأت استعد، وكأنه أخذ يدي اليسرى معه، يدي التي أكتب بها. من جهته الشاعر يوسف أبو لوز، يستهل دراسة مطولة عن شعر الفقيد، بمحاكاة مذهولة، جراء الصدمة بالخبر الفاجع، فيقول بما يشبه الأمل أو تعليل النفس: صمت بارد وحسب، شبكة اتصالات بين الشعراء، الشعراء على وجه التحديد. كأن الذعر دب في قلوبهم، أصوات مرتبكة ومتحشرجة. أحمد راشد ثاني في ذمة الله، التحق بالرفيق الأعلى، البعض قال في سره: سننتظر حتى الصباح، فقد يصحو الشاعر من غيبوبة عابرة، لكن الهاتف مغلق والكلام أيضاً مغلق، تلك هي حقيقة الموت. كما يكتب أحمد العسم، فيقول: لم اكن أتصور أن فقد الأصدقاء يفتت روحي، وينقص من أضلعي، لقد فقدت الكثير من أضلاع ، وها هي روحي تتوشح بأردية الحزن وتتألم. لِمَ أسرعت الرحيل يا أحمد؟ فقد كنت آمل أن أجلس معك، لكنك ترجلت من دون أن تخبر أحداً، ولذلك تقصدنا الحزن ولم يغادرنا. رأيت المسافة في الخسارات أطول ورأيتك أكثر لأنك امتداد للوفاء والحرف وحدها تحكي الحروف، وتغني الأصوات فليلك هارب من حنجرتي ، وصباحك يسكن قلبي وحيداً أرتفع على شجرة واعدة، وبهائي مطفأ. ويرثي الكاتب الصحافي عادل علي أحمد راشد ثاني وهو يرثي نفسه، فكتب من دون مواربة: لا أرثي الأصدقاء. لا تليق بهم كلمات النعي. حينما تهطل عبارات التفجع حول جثامينهم يضحون موتى. يتكفنون بدموعنا ويذهبون وحيدين إلى أضرحتهم. يضيئون قبورهم ويعتمون أمكنتهم المعتادة. تعودنا على حضورهم، ولكن هيهات أن نتعود على غيابهم في منتصف الطريق. لا أرثي الأصدقاء، أرثي نفسي في رحيلهم.. التراث الشفاهي في الجزء الثاني من الكتاب، الذي تضمن إحدى عشرة إضاءة نقدية حول أعمال الأديب الراحل أحمد راشد الثاني، تراوحت بين المقالة الصحافية، والدراسة النقدية الموسعة. يقول الشاعر، الباحث أحمد محمد عبيد في دراسته التي حملت عنوان “نافذة واسعة على حديقة التراث الشفاهي” معتبراً أن كتاب أحمد راشد الثاني المخطوط “بين المشافهة والكتابة.. حالة الإمارات”، يعتبر جامعاً وحافظاً للمصطلحات الشعبية المفتاحية مثل مصطلح “الرمسة” بأفضل وأوضح بيان، باعتباره “الأساس الذي تقوم عليه حركة المشافهة المتنقلة من فم إلى فم، سواء أكان هذا الشخص راوياً عادياً أم شاعراً، أم شخصاً مهتماً بالشعر، فالرمسة في اللهجة الشعبية هي “جلسة التحدث والكلام”، ومن معانيها بالفصحى: الصوت المخفي، “إن الرامس أو الرماس، أو الراوي يشكل مع الشاعر حلقة متصلة، فالشاعر يتعلم ـ إن صح القول ـ فنون الشعر، ويتلقى قصائد من سبقوه من الرامسين الرواة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مصطلح “السالفة”، وهي “القصة التي تسرد على المستمعين”، وتعني “الحكاية”، وتعني أيضاً “الفعل الذميم أو الحسن، وتعني أيضاً القاضي أو الحكم أو العارف بالعادات والأعراف الذي يُحتكم إليه بالسالفة”. وأضاف عبيد أن أحمد راشد ثاني تناول في كتابه السالف الذكر، المهن الكتابية، وكيف تطورت، ملاحظا “أن مهنة “المطوع”، شكلت أساس العملية التعليمية، كونه كاتباً وخطيباً وقاضياً ومعلماً”، هذا بالإضافة إلى تدوينه للحكايات الشعبية، ودراساته عن الشعر الشعبي، وإبداعاته الثرة في هذا المجال. الحداثة المسرحية أما الدكتور هيثم الخواجة، فيبحث في دراسة مطولة بعنوان “الموروث الشعبي داخل الفعل المسرحي”، حيث يتناول مسرحية “قفص مدغشقر” للأديب الراحل أحمد راشد ثاني. يحلل الخواجة شخصيات المسرحية، والحوارات التي تدور فيما بينها باللغة المحكية، للكشف عن بنية النص ودلالاته ورموزه بعيداً “عن المشاهد الذهنية، لتظل الدراما سيدة الموقف في غالب المشاهد”، ولدى اقترابها من الحداثة المسرحية. وبضوء ذلك يرى الخواجة أن “أحمد راشد ثاني في مسرحية قفص مدغشقر جَهَدَ لأن يخرج، عن النص التقليدي في الصياغة الدرامية، ليس بغاية الخروج عن التقليد، وإنما بهدف تقديم نص حداثي يواكب العصر”. أشلاء سيرة ذاتية إلى ذلك يتناول الشاعر محمد علي شمس الدين ثمانية دواوين شعرية للأديب الفقيد، بدراسة نقدية، اقتبس عنوانها “تأتين.. فتبدأ السماء تضحك”، من مطالع قصائد ديوان “الغيوم في البيت”، الذي اعتبره شمس الدين من أجمل ما كتب أحمد راشد ثاني في موضوعة الحب. ويقول شمس الدين، إن أبرز ما يلوح في أفق قصائد ديوان، “يأتي الليل ويأخذني”، معاناة الشاعر الوجودية، من جهة أنه جاء مدفوعاً دفعاً إلى هذا العالم من رحم أمه... والقصائد أشلاء سيرة ذاتية أو ومضات تأمل وتحديق في شروطه الوجودية. كذلك يعتب الشاعر محمد علي شمس الدين أن ديوان “وهنا اللذة” جميل، “حيث البحر، والسفينة التي تضرب البحر، وحيث يتحول حذاء الشاعر إلى سفينة يعبر بها “مضيق هرمز”.. لكن ما يلفت الانتباه في قصائد الديوان، هذا القران بين الحب والبحر، فهناك قطع صغيرة كثيرة في الحب، لا تبعد عنها الصعلكة، ولا يبعد عنها الحس بالعذاب”. من جهته يقول الدكتور الشاعر عبد العزيز المقالح في دراسة حملت عنوان “كأنك رأيته في قصائده”، كتبت بحياة الشاعر أحمد راشد ثاني، إنه “صوت مختلف، كتب قصيدة التفعيلة بطريقته، كما يكتب قصيدة النثر بطريقته أيضاً، يمتلك حاسة شعرية عالية، تجعله يفر من النمطية” (...) أدهشني أحمد راشد في بداياته، ولا يزال يدهشني بما يكتبه من جديده، الذي يتوالى، مؤكداً حضوره وتميزه، وقليل في الوطن العربي هم الشعراء الذين يشبهون هذا الشاعر. أصداء الرحيل الفصل الثالث من الكتاب بعنوان “أصداء الرحيل في المؤسسات الثقافية والإعلامية”، يجمع الشيباني الشهادات التي ألقيت من خلال ملتقيات تكريمية للأديب الراحل في الخليج والعالم العربي عموماً. ونشرت من خلال وسائل الإعلام المختلفة، ومنها ندوة “الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء”، و”ندوة الخليج”، و”ندوة اللجنة المنظمة لأيام الشارقة المسرحية”، “وندوة جمعية المسرحيين”، و”ندوة قصر الثقافة بالشارقة”، و”ندوة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات”، هذا بالإضافة إلى الحوارات الصحافية التي أجريت مع الأديب الراحل. يروي أحمد راشد ثاني، في إحدى حواراته، كيف كانت بداياته مع الكتاب والكلمة، فيقول: كان المدرسون عندما يهمون بالعودة إلى أوطانهم لقضاء الإجازة أو انتهاء عقودهم، يرمون في زبالة العودة، الصحف والمجلات والكتب، التي لا يستطيعون حملها معهم، كانوا يرمونها هكذا ببساطة، أما أنا فكنت أسبح في تلك الزبالة، جامعاً كل ما توافر لي من تلك الأوراق، وعائداً بها ركضاً إلى البيت أكدسها، وهناك تحت الشريشة، “شجرة”، تعرفت إلى افضل إدمان أصبت به على الإطلاق، وتمرنت على أفضل موهبة، أفضل قدرة، أفضل ما تعلمته في الحياة، ألا وهي قراءة الكتب، والتفكير مع القراءة، الحياة مع القراءة، والموت أيضاً”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©