الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لعبة الصورة.. والصوت

لعبة الصورة.. والصوت
6 نوفمبر 2013 19:19
في حياته، كان الفنان العالمي بيكاسو قد قال: “الفنون جميعها واحدة؛ إذ تستطيع أن تكتب صورة بالكلمات مثلماً تستطيع أن ترسم المشاعر في قصيدة”. ويبدو من مقولة فنان كبير مثل بيكاسو أنها تعدُّ فاتحةً رائقة للحديث عن التداخل بين فنون العصر، لكن تبقى العلاقة بين الشِّعر والسينما ذات غموض سعى بعض الباحثين إلى تفكيكه وإعادة بنائه مجدداً عبْرَ دراسة تلك العلاقة، وهو ما أقبل عليه الباحث العراقي الدكتور أثير محمَّد شهاب في كتابه “سينمائية النَّص الشِّعري/ الشِّعر العراقي أنموذجاً”، والصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد مؤخراً. إن الدخول إلى معترك العلاقة بين الشِّعر والسينما أو دراسة المعطيات السينمائية في الشِّعر يتطلب غالباً جملة من المفاهيم الإجرائية التي تعين الباحث على تحليل تلك العلاقة من خلال مجموعة نصوص شعرية. وهذا ما فعله المؤلِّف الدكتور أثير محمَّد شهاب في كتابه آنف العنوان وهو يقرأ “آليات السينما داخل النسيج الشِّعري”، متوسِّلاً ببعض المفاهيم ذات الشأن في هذا المجال، ومنها: “المونتاج الشِّعري”، و”سيناريو النَّص الشِّعري”، و”الراوي/ المخرج”، “وخلخلة الأجناس”، و”السينما والتشكيل الشِّعري”، و”اللقطات الشِّعرية”، و”الصوت الإخراجي”، و”الشاعر المسرحي”، و”الكاميرا الشِّعرية”، و”الحدث الشِّعري”، و”الشخصية/ الشاعر/ المخرج”، و”الذات الرائية = المخرج”، و”الإخراج الشِّعري”، و”المزاوجة الديكورية”، و”البناء الإخراجي”، و”ديكورية اللون”، و”قصيدة السيناريو”، و”سيناريو القصيدة”، وغير ذلك من المفاهيم، انطلاقاً من إيمان المؤلِّف بأنَّ اللغة الشِّعرية العليا تبقى أبداً “تلك اللغة المشتركة بين الفنون”. في “التمهيد” للكتاب، نظر المؤلِّف في علاقة السينما بالتشكيل الشِّعري، ووجد أن قوانين جديدة لا بدَّ وأن تحلَّ في هذه العلاقة، سيما أن الفن السينمائي هو أحد الفنون الجديدة، لكنَّه الفن الذي “فرض أدواته على النَّص الشِّعري. وأصبح “استخدام الأديب للتقنيات السينمائية داخل العمل الشِّعري وسيلة تعبيرية خاصَّة في جوهرها”. وفي “التمهيد” أيضاً، يقف الباحث عند بعض النُّصوص الشِّعرية لبدر شاكر السيّاب في قصيدته (سوق القرية)، حيث ثنائيات (الصورة/ الصوت) تبدو متمظهرة فيها على نحو كبير كما هو الحال في “لعبة الصورة/ الصوت التي اعتمدها بدر شاكر السيّاب في بناء شريطه الشِّعري، فضلاً عن اقتران الصورة بماهيات اللون وحساسيته لديه” ما ولَّد، في النهاية، شريطاً شعرياً خاصّاً”. لقد كانت تجربة السيّاب تلك محطة أولى في العلاقة بين السينما والشِّعر، وكذلك محاولة عبدالوهاب البياتي في قصيدته (القرصان)، حيث اللجوء إلى (واو) العطف الذي هيمن على قصيدتي الشاعرين ما عُدَّت تجربتهما “محطّة أولى في تشكيل معمارية جديدة للنَّص الشِّعري” رغم الأثر الجمالي السلبي الناتج عن أداة العطف تلك. في المبحث الأول من مباحث الكتاب، يدخل المؤلِّف إلى عوالم العلاقة بين “الراوي” و”المخرج” في النَّص الشِّعري من خلال أربعة نماذج شعرية هي (قصة) ليوسف الصائغ، و(سفر الدينونة) لنوفل الجنابي، و(ذبول ما) لعماد جبار، و(الرجل ذو الرباط الأسود) ليوسف الصائغ أيضاً. تخضع القصيدة الأولى إلى “سيطرة الراوي الذي يقف على بُعد تكوينها بتنصيب وتوجيه الكاميرا الشِّعرية التي تقوم بالتقاط المشاهد المتباينة بطريقة التصوير عن بُعد”. وفي الثانية “يمارس مفهوم التماهي بين الراوي/ المخرج/ الشاعر دلالة أكثر أهمية من خلال تجسيد أنثوية الغياب وملاحقتها؛ حيث إنَّ عين الراوي/ المخرج/ الشاعر، تمارس قابلية التصوير عن قُرب من خلال ملاحقة لشيئية الأنثى الغائبة بإعلان الرثاء”. بينما في القصيدة الثالثة تبدو “المزاوجة الديكورية غاية في الإتقان نتيجة الموقف الرثائي المعلن عنه في مطلع النَّص. أما في القصيدة الرابعة فيبدو (استخدام الشاعر للونين؛ الأسود والأبيض، داخل الشريط الشِّعري، دلالة على أبعاد المكان وديكوريته، لأنَّ استخدام اللغة للون ما يُحدِّد الكيفية التي ندرك بها العالم الذي يُحيط بنا”. في هذا المبحث، يخلص المؤلِّف إلى أن “لمفهوم الراوي/ المخرج جمالية خاصَّة في توجيه النَّص من حيث الشخصيات والأحداث والديكور”. وأكَّد أيضاً بأنَّ “حرف الجر (في) من أكثر الحروف تواشجاً مع صفة الإخراج” في النُّصوص المدروسة. في المبحث الثاني ينتقل الكاتب إلى دراسة اللقطة الشِّعرية بعد دراسته للمشهد الشِّعري في المبحث السابق، وهنا يرى أن اللقطة الشِّعرية هي: “مجموعة مناظر تتضافر داخل حدود مكان وزمان واحد، وضمن حدود أفعال شخصيات وأحداث صغيرة باجتماعها تتألَّف القصَّة الشِّعرية” كما هو حال قصيدة فاضل العزاوي (الجلاد والضحية) التي وجد الباحث فيها مرتعه في تحليل اللقطة الشِّعرية، التي “تشبه، وإلى حد كبير، المشهد السينمائي الذي يُعدُّ من العناصر الأكثر أهمية، حيث إن البحث في قوانين الاقتراب ما بين اللقطة والمشهد السينمائي يتجسَّد من خلال تمظهر عنصر المكان والزمان، والتصوير من الداخل/ الخارج، وحركة المشهد الحواري، واحتواء الأشياء عن بُعد وعن قُرب، فضلاً على توظيف مفهوم الاسترجاع”. يبدو المبحث الثالث في هذا الكتاب مكرَّساً لدراسة مونتاج النَّص الشِّعري، لا سيما أن “النَّص الشِّعري المعاصر يسعى إلى تثبيت دلالة المونتاج لما يتمتَّع به من فرز وتفتيت لبنية النَّص بحجة الوصول إلى دلالة السيناريو السينمائي”، بل وإلى “نبذ الحشو السَّردي المعتمد” في بعض النُّصوص الشِّعرية الحديثة. ولذلك، يتخذ المونتاج الشِّعري “صوراً مختلفة من نص إلى آخر”. خصوصاً أن “الوسيلة البصرية الطباعية تعدُّ من أهم الوسائل المونتاجية التي مارسها النَّص الشِّعري المعاصر؛ لأن اللغة لا تبلغ لب الأشياء إلاّ في عالم الشكل؛ عالم البصر والفراغ، ففي حيز الامتداد يندمج الواقع الفراغي في المفهوم الذي يعرفه، وتحصل شبه مطابقة بين الشيء والكلمة”. تستعين عملية المونتاج في كتابة القصيدة بجُملة من الخطيّات النَّصية كالفواصل والنقاط والترقيم والفرغات البيضاء، وتمارس دلالتها في تشكيل الصور المتتابعة كما لو كانت لقطات سينمائية مثلما هو حال النقاط (.....) في قصيدة ريم قيس كبة (موقف)، حيث تحاول الشاعرة “خلق مفهوم المونتاج النقطي من دون أن تكون هنالك قيمة لمفهوم البنية النقطية داخل فعل التحميل الدرامي للمشهد”. كذلك الأمر في قصيدة كاظم الحجّاج (الممثل) التي يتخذ فيها “فعل المونتاج أهمية كبيرة”. وأيضاً في قصيدته (سيناريو موت جندي في أرض أخرى)، حيثُ يسحب، هذا النَّص، “آلية القطع والمزج”، بينما يمارس نص الشاعر علي الإمارة (نهايات) فعل خلق مشاهد متباينة من حيث الشرح، ومتشابهة من حيث القصد”. أما المبحث الرابع، فيخصِّصه المؤلِّف لدراسة سيناريو القصيدة وقصيدة السيناريو، وهنا يعتقد أن “تداخل الفن الشِّعري مع الفن السيناريوي يستدعي الموازنة بين ماهية النَّص الشِّعري والقصَّة التي ينطوي عليها بتشريحها إلى مشاهد وتقويضها داخل الشريط الشِّعري”. وفي هذا المجال، يعتقد المؤلِّف أن الشاعر كاظم الحجاج، وفي ديوانه (غزالة الصبا)، وضع “قصائد تعدُّ الأولى من نوعها على مستوى الدلالة السينمائية”؛ خصوصاً في قصيدة (سيناريو موت جندي). إنَّ تسمية القصيدة بالسيناريو، يقول المؤلِّف، لهو “علامة قصدية في الإشارة إلى كل نص يحمل في داخله المشهدية المتباينة باستغلال تقنية اللقطة يمثل أسلوبية نص السيناريو أو سيناريوية النَّص”. أما في تجربة قصيدة (مساء داخلي) للشاعر نفسه، تبقى عابقة “بمشهدية ذلك المساء الداخلي وطقوسه”، والشاعر فيها يعتمد على “فضاء المساء الداخلي وديكوره لأن الديكور الشِّعري وسيلة مهمةً لمعرفة التطوُّر الفعلي للشخصية وأحداثها. لذا، كان تركيز الكاميرا ينصبُّ على ديكور المكان من دون الاهتمام بأفعال الشخصية”. أخيراً، يبدو لي أن كتاب (سينمائية النَّص الشِّعري/ الشِّعر العراقي أنموذجاً) للباحث العراقي الدكتور أثير محمَّد شهاب، إضافة نوعية للمكتبة النقدية، العراقية والعربية؛ تلك الإضافة التي تتوسَّل المنهج السِّيميائي طريقاً في قراءة التجارب الشِّعرية بوصفها موجودات إبداعية تحتفي بالمرئي عبر ما في اللغة من فعاليات جمالية تمنح الأشياء والأهواء وجودها المشهود.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©