الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مقاهي القاهرة.. تستعصي على التزوير

مقاهي القاهرة.. تستعصي على التزوير
20 نوفمبر 2014 00:00
المقهى جزء أصيل من حياة المصريين، فهو متنفسهم من عناء يومي، وقد يكون من عاداتهم الدائمة، فالمقهى لمرتادها حياة مغايرة يعيشها، يتحلل فيها من مسؤولياته، أو يحملها معه ليضعها على طاولته إلى أن ينتهي من لعبة «الطاولة»، أو من شرب ما يتراءى له من مشروبات، أو حتى يتناساها خلال نقاشاته مع أقرانه، وأصدقائه من رواد المقهى. وإذا ما تعمقنا أكثر في حديثنا عن مقاهي القاهرة التاريخية، ستقابلنا الكثير من المقاهي التي تعبأ جنباتها بتاريخ طويل، وذكريات لها رائحة الزمن. محمد عبدالسميع للمثقفين المصريين فيما يرتادون من مقاهٍ أذواق، فهي لدى بعضهم واجب يومي يؤديه كما يؤدي عمله اليومي، وكما يقبل على الكتابة يرتاد المقهى، ومنه قد يخرج بأفكار تصلح نواة لعمل إبداعي، وفيها يتواصل الكتاب ويعقدون منتدياتهم، التي فيها يتشاورون حول أوضاع البلاد وتغيراتها المتلاحقة. بروتوكلات حكماء ريش، عندما يذكر تاريخ المقاهي الثقافية في مصر يطل «ريش» كأبرزها في تاريخ الحركة الثقافية المصرية الحديثة، باعتباره منتدى وملتقى لألمع الأسماء من المثقفين والمبدعين والفنانين من عدة أجيال، بدءا من توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، ونجيب محفوظ، وأمل دنقل، ونجيب سرور، ويحيى الطاهر عبد الله، وخيري منصور، ولويس عوض، إلى جانب الفنانين المصريين: رشدي أباظة، ومحمد عبد القدوس، وفاطمة اليوسف، وعادل إمام، كما كانت مكاناً يأتي إليه المبدعون العرب: غالب هلسا، وعبد الوهاب البياتي، وخيري منصور وحسن إبراهيم. شهد «ريش» الكثير من الأمسيات الشعرية والندوات الثقافية من أشهرها، ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية، والتي كان يعقدها كل يوم جمعة من الأسبوع. ومن بين جدرانه خرج بيان المثقفين عام 1981 عقب الاعتقالات وقرارات سجن الآلاف من مثقفي مصر في عهد الرئيس الأسبق أنور السادات، والذي أدرجه محمد حسنين هيكل في كتابه «خريف الغضب» بتعقيب ورد ممهورا باسم «توفيق الحكيم». «ريش» لا يقل في الأهمية عن أي من صروح الثقافة والفن المصرية كالمسرح القومي، أو الأوبرا المصرية، أو هيئة الكتاب في تاريخ الثقافة المصرية الحديثة. شهد مولد مواهب مبدعة، وكان موضوعا لإبداعاتهم ومن أشهرها: ديوان الشاعر نجيب سرور «بروتوكلات حكماء ريش»، وعنه كتب أحمد فؤاد نجم واصفاً مثقفي العهد الماضي «يعيش المثقّف على مقهى ريش.. يعيش يعيش يعيش.. محفلط مظفلط كتير الكلام.. عديم الممارسة عدو الزّحام.. وكام اصطلاح.. يفبرك حلول المشاكل قوام.. يعيش المثقّف.. يعيش يعيش يعيش». مقهى الحرافيش ساهم وعي بعض المثقفين بهذا الدور الحيوي للمقهى، ومن أبرزهم نجيب محفوظ في توطيد علاقتهم بالمقاهي بشكل عام، وإكسابها مزيدا من الشرعية والفاعلية لأداء دورها الثقافي والسياسي. ومن هنا جاء حرص محفوظ على توسيع رقعة البشر من حوله، وزيادة مساحة النقاش والتحاور الثقافي والفكري، فأسس ندوته الأسبوعية التي بدأت مع أصدقائه من الحرافيش على مقاهي القاهرة المختلفة، ثم اتسعت الدائرة، وانضم إليها أصدقاء جدد، وأنشأ لهم ندوة ثقافية مفتوحة لكل من شاء من المثقفين والأدباء، امتدت جلساتها الأسبوعية في مقهى «الأوبرا» خلال فترة الخمسينيات، وجزء من الستينيات، وانتقلت بعدها إلى «ريش» لتصنع تاريخاً أدبياً لهذا المقهى بعد ذلك، ومنه إلى مقاه أخرى شعبية وفاخرة. و«محفوظ» من أعظم الأدباء الذين استطاعوا تخليد المقهى وجماعاته وعلاقاته التي تمثل صورة مصغرة من حركة المجتمع المصري ككل، وله أعمال استمدت عناوينها من أسماء بعض المقاهي الشهيرة، مثل رواية «قشتمر» الذي مازال قائما رغم مرور عقود طويلة، استطاع فيها أن يكون جزءاً من التاريخ. وفي حديثنا عن المقاهي الثقافية لا يمكن أن نغفل مقهى «الفيشاوي» الشهير في قلب القاهرة الفاطمية، بالقرب من مسجد الحسين، وهو من أقدم وأعرق مقاهي القاهرة. أسس في القرن الثامن عشر، وكان له دوره المهم والمؤثر في الحركة الثقافية المصرية، ارتاده نجيب محفوظ، ومنه خرجت بعض أعماله، وكذا الكاتب الكبير محمود عباس العقاد، إحسان عبدالقدوس، وعدد كبير من الأدباء والفنانين والمبدعين، يرتاده الكثير من المبدعين العرب. مكان للحوار يرى الدكتور عماد أبو غازي وزير الثقافة المصري السابق أن المقهى بطبيعة وظيفته «مكان للتلاقي والنشاط المجتمعي بأنواعه المختلفة، ومصر عرفت ما نسميه بالمقاهي الثقافية والسياسية التي تجتمع فيها شخصيات معنية بالفن والأدب والثقافة والسياسة في بداية القرن 19 الميلادي. ومن المؤكد أن التغيرات الاجتماعية والتقنية تؤثر في دور المقهى ثقافيا وسياسيا لكنها لا تلغيه، فما زالت المقاهي، سواء التقليدية أو ما نطلق عليه الكافيهات تلعب دورا أساسيا كأماكن للتجمع والنقاش. ربما تراجعت فكرة الندوة في المقهى، لكن المقهى كساحة للنقاش والحوار والاجتماع ما زال كما كان، وفي السنوات الأخيرة نرى تجارب لاستخدام المقاهي كأماكن لعروض مسرحية أو سينمائية أو معارض تشكيلية وهي تجارب لو استمرت سوف تضيف كثيرا لدور المقهى الثقافي». وبسؤال الروائي يوسف القعيد عن الحركة الثقافية والمقاهي، قال: «كانت المقاهي هي الوسيلة لنشر المعرفة وتقريب نجوم ورموز الإنتاج الثقافي والفني من الجمهور واللقاء المباشر معهم. وقد حافظ المقهى الأدبي على ترابط الأجيال، وكان منبراً لكل الأفكار، حيث رصد المقهى عددا من الأحداث والتحولات السياسية التي مر بها الوطن العربي»، لافتاً إلى أن كل مقهى «كان بمثابة حياة كاملة زاخرة بالأفكار والأحداث والشخصيات من نجوم الفكر والفن والثقافة، ولا سيما في مرحلة الستينيات، وهي فترة كانت انعكاساً لأهم مرحلة من مراحل التحول الاجتماعي في البلاد». تغيّر الحال، يقول الروائي والقصاص وحيد الطويلة إن المقهى «كان جزءاً من العملية الإبداعية عندما لم يكن هناك انترنت ولا صفحات تواصل اجتماعية. تغيرت اللعبة كلها، لم يعد محمد عبد الوهاب يغني: أيها الراقدون تحت التراب فينتظر الجميع ميعاد إذاعتها. الآن أوكا واورتيجا يصلانك فوراً من على أي موتوسيكل يجري بسرعته القصوى في الشارع. البهجة والمؤامرات كانت توضع أمامك على نفس الطاولة التي تشرب عليها قهوتك. حتى القهوة كانت تطبخ بصبر ومزاج على سخونة الرمل الحنونة، الآن يتم صنعها في دقيقة، لكننا أمة الرغي والكلام، مسافتنا الآن في الحنين للمقهى كعامل ثقافي هي الفارق بين قهوة الأمس ومشروبات اليوم، الفيسبوك صنع الثورة، أصبح أداة معرفية بشكل ما تستطيع أن تقرأ عبرها وجبات خفيفة وتعرف الأخبار في ثانية، يأتي المقهى إليك على طاولتك في أي مكان، بالأمس كنت تنتظر عددا من جريدة أو مجلة وتدوخ عليها لتقرأ طه حسين أو مراد وهبة، الآن تستطيع أن تصطاده في ثانية وإن تغيرت الذائقة. لكن لا بأس، لم يفقد المقهى كل جلاله الثقافي وإن لم يحافظ على مواعيده، جلسات يتيمة على زهرة البستان لكنها خجولة لا تستمر كثيرا. لا تحلموا بعالم سعيد، تغيرت طرائق الثقافة، وحلت الجيوش الصغيرة محل الجيوش الكبيرة، حل حزب الله مكان الدولة وحلت داعش محل الدول، لكن لا بأس هناك من يصر على أن يصنع معرفة، خذ كتابك إذا واذهب للمقهى وستجد من يحاورك ويضيف إليك. لم أكتب حرفا خارج مقهى، نحن ننسى أن قوتنا الناعمة هي في الثقافة أولاً وأخيرا، وأن المعرفة هي المقهى الكبير. الآن الثقافة العربية مأزومة وهذا حديث يطول، لكن لا بأس فلنصنع مقهانا على صفحات الفيسبوك بغثه وثمينه.الحق على العولمة يعتبر الشاعر والناقد الدكتور رشاد البري أن المقاهي في عالمنا العربي «تحظى بخصوصية متفردة نشأت من خصوصية مجتمعاتنا المحافظة التي جعلت من المقاهي أكثر من مجرد مكان للترفيه ولقاء الأصدقاء، حيث كانت المقاهي ولا تزال صالونات بديلة لاستقبال الضيوف وعقد الصفقات والأهم إقامة الندوات الثقافية والفكرية».ويضيف: «ربما تراجع هذا الدور بعد الثورات التكنولوجية المتعددة وهجمة العولمة بكل أنيابها وأظافرها فباتت المقاهي تمارس دوراً سياسياً، وهو تراجع ناشئ عن تراجع دور المثقف العضوي لحساب الناشط السياسي الذي أخذ دوره لكنه مع الأسف لم يؤد رسالته أو مهمته فأفسد الدورين».وفي تصوره أن المقاهي «أصبحت برلمانات شعبية سياسية باقتدار، وقد نجحت في ذلك بسبب سمات المقهى نفسه حيث تساوت كل شرائح المجتمع فوق ذات الكرسي وحول الموائد نفسها حيث تدور النقاشات والحوارات بحريّة لا تتوافر في مؤسساتنا ولا حتى الفضائيات. كانت المقاهي شاهدا شعبيا على تحولات أدبية وفنية غاية في الأهمية ومن رحمها خرجت العديد من المدارس والاتجاهات والنزعات الأدبية والفنية، وهي الآن شاهدة على تحولات سياسية مهمة ومصيرية في العالم العربي» .سينما المقاهي المخرج أحمد محمد عبده تحدث عن فيلمه التسجيلي «المقاهي ملامح مصرية أمام مرآة الزمن»، قائلاً: «اخترت هذا الفيلم لأن المقهى المصري وخاصةً المقهى الثقافي هو كتاب التاريخ الوحيد في مصر الذي لم يحرف بعد. فالمقهى يؤرخ عن طريق رواده والعاملين به ومقتنياته، ما يجعل منه كتاباً متعدد وجهات النظر ولكن أحداثه واحدة. فدور «ريش» في طباعة المنشورات ومساعدة ثوار ثورة 1919م لا يختلف عليه أحد، لكن إذا أردت أن تعرف ما وراء هذا الدور ستجده بأكثر من رؤية، توجد رؤية صاحب المقهى الذي فعل ذلك من أجل عشقه للشعب المصري ولأرض مصر، وهناك رؤية أخرى تقول لعلاقة صاحب المقهى بالألمان وكرهه للإنجليز وهكذا. ولكن في النهاية سنجد أن المقهى كان هو بطل الحدوتة بعيداً عن أهداف صاحب المقهى الذي من وجهة نظري بطل ثانوي في الحدوته. أما الشاعرة والسيناريست عبير التميمي صاحبة الفيلم التسجيلي «صناديق الرئاسة»، فتقول: «أصبحنا نعيش في عصر تلاشت فيه العديد من المعالم المصرية ومن أهمها المقاهي التي كانت بمثابة ملتقى أدبي ومنبع للتثقيف والتنوير، حيث آوت العديد من الأدباء والمثقفين. أما الآن فقد تحولت إلى مكان يؤوي عاطلين ومغيبين ليس لهم علاقة بالثقافة ولا حتى بما يدور حولهم من أحداث وتغيرات. وهذا التحول الغريب يعود إلى المجتمع الذي انعدمت ثقافته وضاع فكره وسط روتين الحياة ورتمها السريع..» والتكنولوجيا التي أخذتنا من عالم القراءة والاطلاع، وحول فيلمها أشارت إلى أن أحداثه تدور على المقهى التي كانت مكاناً تمارس منه الدعاية الانتخابية لبطل الفيلم غير المؤهل، والراغب في الترشح لرئاسة الدولة. بروتوكولات حكماء ريش «ريش» لا يقل أهمية عن أي من صروح الثقافة والفن المصرية، كالمسرح القومي أو الأوبرا المصرية، أو هيئة الكتاب في تاريخ الثقافة المصرية الحديثة. شهد مولد مواهب مبدعة، وكان موضوعاً لإبداعاتهم، ومن أشهرها: ديوان الشاعر نجيب سرور «بروتوكلات حكماء ريش». وعنه كتب أحمد فؤاد نجم واصفاً مثقفي العهد الماضي «يعيش المثقّف على مقهى ريش.. يعيش يعيش يعيش.. محفلط مظفلط كتير الكلام.. عديم الممارسة عدو الزّحام.. وكام اصطلاح.. يفبرك حلول المشاكل قوام.. يعيش المثقّف.. يعيش يعيش يعيش». قشتمر.. الرواية والمقهى رواية لنجيب محفوظ تحكي قصة رجال خمسة جمعتهم وشائج الصداقة منذ عهد الطفولة.. تجمع الشلة نماذج مختلفة من الشخصيات، تحكي سبعين عاماً من تاريخ مصر ممزوجاً بحرفية بارعة مع حكايات الأصدقاء الخمسة. أما قهوة قشتمر، فهي أقدم مقهى في حي الظاهر العريق، كان الجند يجلسون عليها في أيام القائد الظاهر بيبرس، ويذكر أنها ملك في الأصل للموسيقار عبد الوهاب، جلس عليها عظماء الأدب والفن والعلم، وكان يتردد عليها نجيب محفوظ بصفة مستمرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©