الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يوميات الحياة.. وجهها العاري

يوميات الحياة.. وجهها العاري
19 نوفمبر 2014 23:55
يمكن أن ندلف إلى عالم رواية «غراميات شارع الأعشى» الصادرة عن دار الساقي للكاتبة السعودية بدرية البشر، عبر وجهة نظر البطلة الساردة عزيزة التي تصف رؤيتها للحياة بقولها: «الأفلام مثل الحياة لها وجهان، مثل كريمة مختار، مرة محتشمة، ومرة عارية، لهذا رحت أفتش دائماً عن وجه الحياة العاري». هذه المقولة تنطبق على حكاية عزيزة في رحلتها من «شارع الأعشى»، حيث براءة الحكايات، إلى اكتشاف عوالم جديدة يغلب عليها انكسار الأحلام لنا عبد الرحمن يأتي اسم الشارع من اسم الشاعر الجاهلي ميمون بن قيس الملقب «بالأعشى» الذي سُميت الحارة باسمه. تصف عزيزة الحارة بأنها لا تطل على نهر أو شاطئ، بل على بيوت طين الجبس الأبيض المتقاربة، حيث أسطح البيوت تعج بالحكايات التي تنساب في فضاء النص، لتشكل غراميات مكتومة لأرواح حبيسة لا يمكن أن تُعبر عن ذاتها بطلاقة بسبب أسوار من العادات والتقاليد؛ التي تكبل المرأة والرجل، بحيث يصير كلاهما رقيباً على الآخر، ومساهماً في وأد أحلامه. من هنا تبدو جميع قصص الحب في شارع الأعشى، قيد النهايات الحزينة، لا تكتمل إلا في حال تحليقها خارج السرب، ورغم هذا سيقف الندم حاجزاً يُبعد السعادة، وتظل كلمة «غراميات» الواردة في عنوان الرواية محصورة ضمن إطار الأمنيات المشتهاة، أكثر منها حالات عاطفية متحققة، كما في حكاية مزنة البدوية وزواجها من رياض الفلسطيني، حيث لا يترك الندم القادم من وطأة التقاليد مزنة تعيش حياتها بسعادة، بل إنها تحس بعذاب الضمير لأنها تزوجت رغماً عن إرادة أسرتها. عالم من الأصوات يتقاطع اسم شارع الأعشى، وما في حكاية الشاعر من ضعف البصر- أو أن الأعشى تحديداً هو الذي لا يرى ليلاً- مع حكاية عزيزة التي تفقد بصرها فجأة، ولمدة أسبوعين، تصف إحساسها بأنها باتت تحس بما يشعر به «عم مقيرن» الأعمى الذي يسكن في الشارع. هذا الحدث يبدو مسوغاً لتشكل رؤية جديدة للعالم في داخل عزيزة تبدأ من الأصوات، حيث تصبح الأصوات مجال اكتشاف بالنسبة لها، وكأنها تسمع أصوات جميع من حولها لأول مرة. تقول: «حتى النميمة صوتها مختلف، أصغي إليها، فأسمع صوت الشر فيها، مثل صوت ساحر، فتنتشر في الفضاء وتطلق رائحة كريهة»؛ أو: «وضحى يشبه صوتها ليلاً ساكناً». وكأن البصيرة هنا تقود عزيزة لمعرفة كوامن النفوس أكثر من البصر الذي يرى الأشخاص والأشياء من الخارج، من دون أن يحمل تأويلات لها. يعود زمن الرواية إلى نهاية حقبة السبعينيات، ويكون ما يقوم به الرئيس السادات متصدراً نشرات الأخبار: فلسطين، ومعاهدة السلام مع إسرائيل، ثم حضور الثقافة المصرية من مختلف الاتجاهات، عبر الأفلام والمسلسلات، وعبر السفر إلى مصر للتحصيل العلمي، تقول: «في حارتنا لا يذهب أحد إلى الجامعة، سوى أخي إبراهيم الذي يدرس في مصر». في عائلة عزيزة الأم ربة بيت بسيطة، لا تميز بين صوت نجاة الصغيرة وفيروز إلا من خلال محبة بناتها للمطربات، والأب يفرح لأنه رُزق بأربع بنات على خلاف النظرة الذكورية التقليدية لإنجاب البنات، ثمة سقف من الحرية في بيت «عزيزة» حيث أختها عواطف تعتبر أن «الحب مش حرام» والبيت جميعه يستيقظ على صوت إذاعة لندن، وغناء فيروز، والأب لم يُسم بناته أسماء دينية بل سماهن «عواطف، وعزيزة، عفاف، وعلياء»، يعزز هذه الفكرة المشهد الأخير في الرواية حين يقف الأب إلى جوار عزيزة حين تقرر الانفصال عن زوجها. تروي عزيزة حكايات شارعها، وتكشف عن خبايا نفوس عائلتها وجيرانها، أختها عواطف تحب سعد وتحلم بالزواج والإنجاب، سعد يحب عواطف وينتظر خروجها صباحاً للمدرسة كي يتخيل وجهها تحت الخمار الأسود ولا يمكنه رؤية ضحكتها، لكن سعد يتحول إلى متشدد دينياً ورويداً رويداً، ينزلق إلى طريق الإرهاب، هكذا تفشل قصة الحب بين عواطف وسعد، لأن الشاب الرقيق الذي كان يضع الأغنيات في سيارة (البيك أب) ليوصل الرسائل لمحبوبته، سيطلب منها بعد وقت أن تتوقف عن سماع الأغاني لأنها رجس من عمل الشيطان. هكذا ترصد الكاتبة عبر شخصية سعد بداية نشوء موجة الإرهاب، ثم كيف تتصاعد هذه الموجة، وما أن نصل لنهاية الرواية حتى نلاحظ تغيرات تكاد أن تكون طالت جميع الأفراد. أثرالتحوّليحضر أثر التحول من البداوة إلى المدنية أيضاً مع ظهور وضحى وأولادها في شارع الأعشى. وضحى التي ستتحول إلى سيدة سوق الحريم بعد عشر سنين، أما أولادها الذين سيتربون في المدينة، فسوف يظهر التحول في سلوكياتهم أيضاً، لأن أبناء الصحارى متقشفون، فيما أبناء المدن متساهلون ويبحثون عن مكان لهم في المدينة. تبدو شخصية وضحى البدوية من أكثر الشخصيات المرسومة بدقة، من الجانب الشكلي والنفسي، وتمثل القيم البدوية الأصيلة على مستوى العادات والتقاليد. هناك أيضاً شخصية أم جزاع التي تعمل في السوق ولا شيء يطربها مثل الشعر المغنى، وتسهم في ترتيب زيجات، لأنها تفهم معادن النساء والرجال جيداً، وتقوم بتسليف النقود للمحتاجين بفوائد مؤجلة، ما جعل البعض يقول إن هذا هو الربا الحرام، تظهر مع أم جزاع عطوة التي تلازمها كأنها ابنتها، ولا أحد يعرف من أين أتت عطوة. ومن خلال هذه الشخصيات النسائية الثلاث (وضحى- أم جزاع- وعطوة) يحضر التعاطف الإنساني في الرواية، مثل إضاءات شفيفة تثري النص، وتمنحه بُعداً إنسانياً ينتصر للضعفاء وللقيم النبيلة. يكشف النص من خلال شارع الأعشى عن النقلات الحضارية في المجتمع السعودي، عبر التلفزيون الملون، وجهاز التكييف، والفيديو، والمصعد، والتليفون، ومع تبدلات الحياة الحديثة تطرأ تغيرات على حارة الأعشى أيضاً، يهرب الحب من الأسطح، بل يكاد أن يتلاشى، لنقرأ: «في الشتاء أصبحت الحياة في الحارة، أكثر هدوءاً، والسطوح من دون فتيات، ومن دون حب» أو تقول: «لم يعد هناك سطح، فصار هنا هاتف أمسى بديلاً عن السطح». هذه التحولات الاجتماعية غيرت من وسائل الحب، لكنها لم تغير من النتائج المترتبة على تغير في الوسائل. تقع عزيزة في غرام الطبيب المصري أحمد الذي أشرف على علاج عينيها وتخفق قصتها معه بسبب أسوار التقاليد، إذ رغم انتقال أسرة عزيزة للحياة في قصر، وتركهم لشارع الأعشى، إلا أن لا شيء يتبدل في المفهوم الاجتماعي للعادات والتقاليد التي تمنع عن الرجل الزواج من امرأة من غير بلده، لذا يتخلى إبراهيم أخو عزيزة عن حبيبته المصرية التي تعّرف عليها خلال دراسته في القاهرة، كما تُهدد المرأة بالذبح إن أقدمت على اختيار رجل غريب. هكذا تفشل علاقة الحب أيضاً بين أحمد وعزيزة، وتختار عزيزة الفرار إلى أبي فهد الذي يقارب أباها في العمر، تتزوجه، كي تحصل على جواز سفر، ثم تدرك فداحة فعلتها لحظة أن تبقى معه وحيدة، فتقرر العودة إلى أسرتها. تركت الكاتبة عبر هذا الاختيار الذي تقوم به عزيزة في اللحظات الأخيرة بصيص أمل مفتوح في عدم استسلام البطلة كليةً للعادات المفروضة. لكن رغم هذا تظل الأحلام المنكسرة على مدار النص أكثر حضوراً وتأثيراً على سيرورة حياة الأبطال، فالنسق الاجتماعي الطاغي الذي يحتكم الجميع لأعرافه، أكثر قوة من الاختيارات الفردية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©