الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دريدا.. غواية التفكيك

دريدا.. غواية التفكيك
19 نوفمبر 2014 23:55
في التاسع من أكتوبر مرت الذكرى العاشرة لغياب جاك دريدا الأبدي. هذا الفيلسوف الذي نعاه رئيس فرنسا آنذاك بقوله: «لقد أعطت فرنسا بجاك دريدا العالم واحداً من أبرز الوجوه الثقافية في عصرنا» في الذكرى العاشرة أستعيد زيارة جاك دريدا الى القاهرة في شهر فبراير من عام 2000. وكنت آنذاك في القاهرة بمهمة بحث في جامعتها فأتيحت لي فرصة حضور كل الفاعليات التي أقامها دريدا. أحمد برقاوي جاء دريدا الى القاهرة آنذاك بدعوة من الدكتور جابر عصفور رئيس المجلس الأعلى للثقافة في ذلك الوقت. قدم صاحب «علم الكتابة» محاضرة حول العلوم الإنسانية ومحاضرة حول الجامعة. ولقاء في المعهد الفرنسي وأنهى زيارته بجلسة حوارية  ضمت مجموعة من أساتذة الفلسفة، وكنت من حسن حظي أحد المشاركين في هذا الحوار. جلس الفيلسوف الفرنسي في المنصة وبجانبيه جلس جابر عصفور والصديق النبيل محمود أمين العالم، أما نحن المحاورين فقد جلسنا على يمين الطاولة ويسارها. فيما ملأ الجمهور القاعة جلوساً ووقوفاً إلى الحد الذي لم تألفه القاعة من قبل. التفكيك.. استراتيجيا هدمأذكر من مجموعة الحوار الى جانب محمود أمين العالم، حسن حنفي والذي قام بدور المترجم أيضاً، والراحل عبد الوهاب المسيري وعبد الغفار مكاوي وصلاح قنصوة وأنور مغيث ومجدي حافظ ومنى طلبة وأنا، وآخرين لم تسفني الذاكرة باستحضارهم. افتتح دريدا الحديث عارضا بإيجاز رؤاه الفلسفية كنوع من السيرة الذاتية، حدثنا عن مسألة الهوية التي عاناها في الجزائر بوصفه فرنسياً يهودياً لا ينتمي الى هوية المستعمر ولا هو جزائري ينتمي الى السكان الأصليين، عن والده الذي كان يصحبه معه الى الكنيس اليهودي. انكر دريدا وجود الأنا والذات ونظر إليهما على إنهما من بقايا المركزية، مركزية اللوغوس والعقل، لقد تساءل يومها: هل رأى أحد منكم/ أنا/ يمشي على قدمين؟ شرح لنا مصطلح التفكيك فقال: «التفكيك ليس فلسفة، وليس منهجاً، وليس طريقة، وليس تأويلا، بل التفكيك استراتيجا». وكان يعني استراتيجيا هدم. لم يضف حينها الى معرفتنا أمراً جديداً إضافة إلى ما نعرفه. من أجمل ما قاله دريدا من وجهة نظري هو التالي: «سألني مرة جان هبوليت إلى أين أنت سائر يا جاك؟ فأجبته: لو كنت أعرف إلى أين أسير لما مشيت». وجان هيبوليت لمن لا يعلم أحد أهم الهيجليين الفرنسيين الوجوديين، وقد ترجمت بعض كتبه الى العربية بإشراف أنطون مقدسي. ومما قاله دريدا أيضا بصورة تمزج الأدب بالفلسفة: «سهل أن تجري وراء الممكن، أنا أجري وراء المستحيل». اختلافوراح المحاورون يطرحون أسئلتهم عليه وآراءهم، قدم محمود العالم مرافعة ماركسية كلاسيكية، وراح عبد الوهاب المسيري ينتقد ما بعد الحداثة والتفكيك كصورة من صور ما بعد الحداثة. وسأله أحدهم عن ابن عربي والتصوف الإسلامي وهكذا... أما أنا، وأنا أتذكر ما قلته آنذاك بالتفصيل، فقد أخذتني عدوانية بسيطة في الحوار معه. ألخص آرائي آنذاك بما هو آت: قال ماركس يوما لقد استخدم العقل دائما لكنه لم يستخدم دائما بشكل عقلاني ، وبالتالي يمكن أن نرى ما تذهب إليه من هذه الزاوية، بل إنك تتعامل مع الفلسفة على إنها لعب، أتفهَّم وقوفك ضد الهوية ، وأنت تعيش في مجتمع لم يعد يعنيه أمر الهوية غير أننا نحن أبناء هذه المنطقة مازلنا مشغولين بسؤال الهوية ولم نجب عنه بعد. أنت فيلسوف ما بعد الممكن تجري وراء المستحيل ونحن نبحث عن الممكنات فما زلنا في حقل الممكن. أنت تنتمي إلى أمة عالمية تسمح بأن يكون فيلسوفها عالميا. انت تهاجم مركزية العقل ونحن نسعى وراء حد أدنى من سيادة العقل. ومما قاله دريدا في الرد علي شخصيا بعد أن كان يحاور الأفكار بعامة: «انظروا لقد تحدث مسيو برقاوي عشرين دقيقة تقريبا ولم ينظر إلى وجهي، ثم كرر كلمة نحن مرات عدة ، فهل انت ممثل الفلاسفة العرب، هل رأى أحدكم (نحن) ثم راح يتحدث عن مسألة الهوية. والحق إني بعد أربعة عشر عاما من هذا الحوار أسأل نفسي: ماذا لو أني الآن في حوار مع دريدا؟ لو أني في حوار مع دريدا الآن لما حاورته بالطريقة نفسها، لحاورته في الدفاع عن الأنا والذات  كما عرضت في كتابي «الأنا» وكتابي «أنطولوجيا الذات». لقلت له: إن فصل الحرية عن حضور الذات الفاعلة والأنا الواعي لذاته أمر مستحيل. وإلى مركزية الذات تعود إنجازات الحضارة الحديثة برمتها، ولهذا ففي كل البلدان التي مازالت الذات منصهرة في (النحن) وغير قادرة على على ممارسة حضورها الحر والمبدع فإن قمع الأنا في أوجه، و (النحن) يغتال العقل الفردي. لقلت له الآن إن أهم ما في التفكيك هو حرية الذات في الهدم والكشف والقراءة والتأويل، أجل ، لا يمكن وضع قواعد للتفكيك لأن التفكيك حرية التجوال في الكتابة. لقلت لدريدا: إنك تميل الى التعقيد في القول، والمثال الصارخ كتابك «علم الكتابة» وقراءتك لكتاب جان جاك روسو أصل اللغات، فهذا الكتاب البسيط والعميق والسهل القراءة تحول في علم الكتابة الى نص تحتاج الى جهد لتفك طلاسمه. ولدافعت عن التفكيك بوصفه تأويلا وقراءة وكشفا إنه هدم وبناء معا. ولقلت له أخيرا: إن أهم مصطلح في الفلسفة الراهنة هو مفهوم الاختلاف ولا يعود لأحد بعينه الفضل في نحت هذا المفهوم. أسئلة معلقةوبعد: لقد ترك لنا دريدا أسئلة ممضة أجاب عنها هو ، لكن الفيلسوف لا يقنع بالإجابات النهائية. لقد سأل دريدا في «علم الكتابة» ص 173 / القاهرة المركز القومي للترجمة 2008. ترجمة أنور مغيث، منى طلبة: «ما هي الكتابة؟ أين تبدأ الكتابة؟ أين و متى كان الأثر والكتابة بوجه عام، أين الجذر المشترك للكلام والكتابة وقد انكمشت الكتابة بالمعنى الضيق؟ أين ومتى ننتقل من كتابة إلى أخرى، من الكتابة بوجه عام الى الكتابة بالمعنى الضيق، من الأثرإلى الخط، ثم من نظام كتابي إلى آخر؟ وفي مجال شفرة كتابية معينة، متى ننتقل من خطاب كتابي الى إلى آخر؟ «. لم يكن علم الكتابة الذي استعرنا منه هذا النص إلا أجوبة على أسئلة كهذه. لكن سؤالنا هو: هل هذه أسئلة ذات شأن وأهمية؟ وإذا كانت كذلك، وربما كانت كذلك، فهل استنفدت إجابات دريدا كل الإجابات؟ أم إنها أسئلة مازالت تغري بأجوبة جديدة؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©