الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صلابة العراقيين وتداعيات العنف

صلابة العراقيين وتداعيات العنف
4 يناير 2012
أثناء عامي 2007-2006 اللذين كانا من أكثر سنوات الحرب العراقية سواداً كان 3000 عراقي يلقون مصرعهم شهرياً. في ذلك الوقت كانت جثث العراقيين من ضحايا الانفجارات والهجمات الانتحارية وفرق الموت الطائفية تتناثر في الشوارع، وكان الخطف يطال العراقيين والأجانب على حد سواء، الذين لقي الكثيرون منهم مصيراً مأساوياً. كان السؤال الذي يوجه لي باستمرار من عائلتي وأصدقائي بل ومن العراقيين أنفسهم في ذلك الحين هو: ما سبب اصراري على الاستمرار في تغطية أحداث العراق؟ كانت إجابتي على هذا السؤال واحدة لا تتغير وهي: أنه على الرغم من جسامة الخسائر البشرية، إلا أن عدد من ينجون من القتل من العراقيين يومياً يبلغ 5 ملايين في مدينة بغداد وحدها، وأنا أريد البقاء كي أروي حكاياتهم. وتلك الحكايات المستقاة من تلك الفترة الدامية التي بدأ فيها النسيج المجتمعي العراقي يهترئ تحت وطأة العنف الأعمى، يمكن أن تكون ملهِمة، بقدر ما يمكن أن تكون رهيبة -كما كانت كذلك بالفعل في معظم الحالات- وهي تثبت في مجملها صلابة العراقيين الكبيرة وقدرتهم على مواجهة الصعاب. وعلى الرغم من أن عدد القتلى قد انخفض منذ ذلك الحين بصورة كبيرة، بحيث بات لا يزيد عن 150 قتيلاً شهرياً، فإن المخاطر لا تزال موجودة كما أن احتمالات عودة الحرب الأهلية قائمة كما ظهر بوضوح بعد انسحاب القوات الأميركية في السابع عشر من ديسمبر الماضي عندما أصدر رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي أمر قبض على طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية السُني، مما هدد الائتلاف الحكومي الهش، ودفع بالأمور لحافة الأزمة، وأثار مجدداً مخاوف تجدد الصراع الطائفي الذي ضرب العراق وبلغ ذروته خلال العامين 2006 و2007. من بين تلك الحكايات التي أود روايتها حكاية عائلة"مذبوب"، التي جاهدت ربتها الأم الأرملة "كريمة" من أجل إبقاء أبنائها الثمانية على قيد الحياة، على الرغم من الفقر المدقع الذي عاشت فيه العائلة، وهي ترى عالم صدام، وهو يتداعى من حولها. إن معاناة تلك الأسرة وأملها في الغد مع ذلك سطرتها الابنة "آمال" في يوميات الحرب التي كانت تكتبها تحت ضوء الشموع، والتي تحكي فيها عن الخوف الذي طبع حياة تلك الأسرة بعد الغزو، وكيف أنه قد احتفلت ذات مرة بعيد ميلادها الرابع عشر في وقت كانت فيه القنابل تنفجر في الخارج. وهي تحكي في تلك المذكرات عن كيف كان شقيقها الأصغر"محمود" يغامر بحياته يومياً من أجل كسب دريهمات قليلة من خلال بيع المرطبات في شوارع بغداد الخطرة، وكيف ارتبطت شقيقتها الأصغر منها فاطمة بقصة حب مع جار لها انتهت بزواج تعس سرعان ما انتهى بالطلاق، وكيف قُبض على شقيقها"علي"وعُذب في السجن لعامين ونصف العام، ثم أطلق سراحه من دون تهمة، وكيف تمكنت هي واختها "هبة" من الالتحاق بالجامعة في نهاية المطاف ـ خاتمة سعيدة لقصة معاناة. على الرغم من أنني كنت التقي بأفراد العائلة بسهولة نسبية، فإنه بمضي الوقت وتفاقم العنف أصبح الوصول إلى منزلهم الواقع في إحدى الأحياء الفقيرة، يحتاج إلى مخاطرة وإلى تخطيط ، وتخفِ مما جعلني أخشى عواقب الزيارة. هناك حكاية أخرى من حكايات العنف والمعاناة في العراق في تلك السنوات: فعندما ضرب انفجار مزدوج فندق الحمراء المجاور لمكتب"كريستيان ساينس مونيتور" في بغداد نجوت بأعجوبة، واضطررت أن أشق طريقي خارج المكتب وسط الحطام والغبار والدخان حاملاً كاميرتي على ظهري. هذا الانفجار حطم حياة العراقيين الذين كانوا يعيشون في نطاق 25 ياردة من مركزه ومن بينهم أسرة الخفاجي التي فقد عائلها "ياس" حياته هو وابنته البالغة من العمر 11 عاماً، وابن أخيه الذي كان موجوداً في دارهم بالصدفة. وهذا العنف الدموي هو الذي أسس في الحقيقة للقطيعة بين العراقيين وبين محتليهم الأميركيين. ففي الوقت الذي كان فيه العراقيون يعيشون تحت نيران الخطر والموت، كان الأميركيين ينعمون - إلى حد كبير-بالأمن والسلامة ورفاهية العيش داخل المنطقة الخضراء المحصنة. صحيح أن الجنرالات، والمسؤولين الكبار، والمتعهدين كانوا يعيشون تحت خطر القصف المتكرر بقذائف "المورتر" والصواريخ إلا أنهم كانوا يجدون الفرصة لتناول القهوة في أحد محال سلسلة "جرين بينز" أو تناول البيتزا في "بيتزا هت" وتناول الستيك الفاخر في"أميركانا". لا يعني ذلك أنني لم أر المقاتلين الأميركيين وهم يموتون في صحراوات العراق القاسية، وشوارعها الملأى بالمخلفات والدمار، ولكن عددهم بالتأكيد لا يقارن بعشرات الآلاف من العراقيين الأبرياء والمقاتلين من الشيعة والسنة على حد سواء، الذين لقوا حتفهم في أحداث العنف المريعة التي ضربت العراق في تلك السنوات. في الفلوجة عام 2004 رافقت قوة من جنود المارينز لمدة شهر كامل وهم يطبقون ما يمكن اعتباره معادلاً عصرياً من التكتيك الذي طبقته القوات الأميركية في حرب فيتنام، وهو ذلك التكتيك المعروف بـ"تدمير قرية من أجل إنقاذها"، ولكن القرية كانت هذه المرة مدينة كبيرة يسكنها زهاء 300 ألف نسمة. كان القتال شرساً لدرجة أن واحداً من بين كل خمسة جنود من جنود الفصيلة التي رافقتها في مدرعات خفيفة قد قتل أو أصيب أثناء تلك العملية بل أنني شخصاً لا زلت أحمل في ذراعي شظية أصبت بها أثناء تبادل لإطلاق النيران. السؤال هنا هل النجاح الذي تحقق في العراق يساوى الأرواح العراقية والأميركية التي بذلت من أجله؟ وهل سيثبت التاريخ أن إطاحة صدام تفوق التكلفة البشرية والهائلة التي تطلبها ذلك؟ لقد ذقت بنفسي بعضاً من عنف ذلك النظام القاسي الذي احتمله العراقيون وعانوا من وطأته لعقود وذلك عندما تسللت إلى العراق عام 1991 عبر الحدود مع تركيا أثناء الانتفاضة الكردية ثم فررت مرة ثانية إلى تركيا مع ملايين الأكراد بعد أن بدأ النظام حملة انتقامية شرسة مستخدماً الطائرات العمودية والدبابات. وفي أواخر التسعينيات قمت بعشرات الرحلات إلى العراق حتى تم وضع اسمي على القائمة السوداء. لقد تمكن الأميركيون من تحقيق هدف الإطاحة بذلك النظام الفاشي، ولكن العنف الدموي الذي تفجر من جراء ذلك لم يترك عراقياً واحداً من دون جرح. وقد طال ذلك أسرة مكتب الـ"مونيتور" في بغداد وفي الحقيقة أن ما أصاب تلك الأسرة الصغيرة يبين بجلاء اتساع نطاق الخسائر والآلام التي لم توفر أحداً من العراقيين. فقد مكتب الـ"مونيتور" مترجماً ظل يعمل فيه لعدة سنوات بعد أن تم إيقاف سيارة الأجرة التي كان يستقلها للمكتب بواسطة رجال الميليشيات العراقية السنية في إحدى المناطق الخطرة جنوب بغداد وقبض عليه وعذب وقتل هو وأحد مرافقيه من الشيعة. كما تم اختطاف مترجم آخر كان يتعاون مع إحدى الزميلات قبل أن يتم قتله هو الآخر أثناء اختطاف تلك الزميلة بواسطة مسلحين عام 2006، كما اختفى أحد حراس المكتب الأمنيين ولم يعثر له على أثر، وتم عمل ترتيبات لسفر أحد سائقيها هو وعائلته للولايات المتحدة بعد أن قتل أحد أقاربه وتلقى هو تهديدات بالقتل، ولكن الرجل الذي حل محله في العمل قُتل هو الآخر على أيدي ثلاثة مسلحين في نفس الحي الذي يوجد به مكتب الصحيفة، كما أصيب أخيه الذي كان يرافقه برصاصة في قدمه. إن ذكريات هؤلاء الأصدقاء العراقيين، وكذلك الشجاعة الملهمة للأميركيين الذين ظلوا في العراق وعانوا من ويلات الحرب فيه لما يزيد عن تسعة أعوام، تجعل الدموع تطفر من عيني اليوم. وعلى الرغم من أن الخسائر التي تعرضت لها أسرة الـ"مونيتور" في العراق تمزق نياط القلب، فإنها ليست سوى نقطة من بحر التضحيات التي قدمتها عشرات الآلاف من العائلات العراقية في مختلف أرجاء ذلك البلد وقدمها معهم 4500 أميركي فقدوا حياتهم على أرضه. سكوت بيترسون - بغداد ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©