الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أيها المبدعون.. إنكم مدعون!

18 نوفمبر 2014 23:32
كما أحاول دائماً أن أصلي صلاة مودع، فإنني أبذل نفس الجهد في أن أكتب كتابة مودع.. لابد أن يقول المرء كأنه يقول آخر كلامه، وأن يكتب كأنه لن يكتب بعد ذلك..ويوم القيامة سنتحول جميعاً إلى قراء لكتبنا، وسنجد كل ما عملنا من عمل وقلنا من قول محضراً. والكتاب الذي سيقرأه كل منا لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، لا مجال للاسترخاء والاتكاء على الأرائك، ونحن نقول أو نكتب أو نحلل، ولا نجاة لمن اتخذ إلهه هواه، واتخذ نفسه وهواه قاضياً وحكماً، ولا نجاة لمن أخذته العزة بالإثم وملأه الإعجاب بما قال أو كتب، وإن الكلمة التي أقولها ولا ألقي لها بالاً قد تقذف بي في النار سبعين خريفاً، ولا يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم وحصائد أقلامهم. والذي يكتب للناس أو يقول لهم، أو يتولى فيهم أمراً ليس بخيرهم ولا بأعلمهم ولا أخبرهم، وقد يكون على خطأ، فلا يعطين أحد عقله كله ووعيه كله ورأسه كله لكاتب أو قائل، أو واعظ، أو داعية أو إعلامي أو محلل، وليتسلح كل امرئ بالشك فيما يقرأ وما يسمع. وإذا كنا في عصر المعلومات والانفجار المعرفي، فلابد أن نضيف وصف (الكاذبة)، والمعلومات الكاذبة هي الأكثر والمعرفة الواهمة هي السائدة، وثقافة هذا العصر هي ثقافة النقل لا العقل، تراجع العقل تماماً لمصلحة النقل والناس جميعاً فقدوا استقلال الفكر والرأي. الناس محتلون بأفكار الآخرين: أفكارك تحتلني وأفكاري تحتلك.. نحن نفكر عن طريق بعضنا، وننقل آراء بعضنا، وكل منا يتصور أنه يعرض أفكاره وآراءه، وهو في الحقيقة يعرض أفكاراً مغشوشة ومنقولة..وفقدنا حتى أمانة النقل..فقدنا فضيلة (العنعنة)..أي عن فلان، عن فلان أنه قال.. وأحاديثنا كلها مقطوعة وضعيفة المتن والسند، ومصادرنا كلها غير موثوق بها ومجروحة. وليس صحيحاً أبداً أن فينا مبدعين، بل إننا مدعون، لأن الإبداع أن يكون لك رأيك وفكرك الحر، ونحن أسرى أفكار بعضنا، وآراء الآخرين حتى لو ادعينا أننا مستقلون وأحرار، وهذا مربط الفرس وبيت القصيد. نحن مع الرائج والسائد والشائع حتى إذا كان كاذباً، وهو كاذب فعلاً، فلا رواج ولا ذيوع في أمتنا العربية إلا للكاسد والفاسد من الأقوال والأفعال والسلع والأفكار.. والإجماع لم يعد يصلح مصدراً من مصادر التشريع، أو حتى مصدراً من مصادر الديموقراطية لأن الناس في زمان الوقوع في الأسر الإعلامي أصبح من السهل جداً أن يجمعوا على باطل وعلى كساد وفساد وخطايا، والشائع يستقر في الأذهان والعقل الجمعي حتى إذا كان خطأ، ونحن نعتذر عن الخطأ اللغوي بقولنا: إنه خطأ شائع، ولا بأس من استخدامه. وقد شاع بين الناس خطأ فادح يرددونه على أنه حق لا نقاش فيه، إذ يقولون إن عصرنا شهد ويشهد مداً إسلامياً واسعاً واتساعاً غير مسبوق للثقافة الدينية، والرد على ذلك الهراء بسيط جداً، فبقليل من التأمل تكتشف أن المد والثقافة الإسلاميين اللذين يتحدثون عنهما مجرد مد ببغائي وثقافة لسانية، لكن السلوك الإسلامي والفعل الديني انحسرا تماماً وتراجعا بشكل مخيف..وهذا شأن الثقافة العربية كلها، هي ثقافة لسانية ببغائية..فالليبرالي ليبرالي بالقول واللسان، لكن سلوكه قهري وديكتاتوري ومتسلط، والإسلامي إسلامي باللسان ومتدين تدين الببغاء، لكن فعله إرهابي وعنيف، وسلوكه متخلف ومناف تماماً للإسلام بنصوصه ومعانيه..فلا تدين إلا في المظهر واللسان، ونقاب الوجه وغطاء الجسد وسفور العقل والقلب وتعري الوجدان. لا تدين ولا ثقافة دينية إلا بأقوال مثل: يا أخي، جزاك الله خيراً، ما شاء الله وغير ذلك من لافتات قولية ومظهرية مضيئة، بينما الأعماق مظلمة، والقلوب معتمة، والعقول علب ليل حمراء دامية، ليس هناك مد إسلامي بالمعنى القيمي والسلوكي، بل إن هناك انحساراً إسلامياً بهذا المعنى، ونحن في زمن الدين الذي يعود غريباً.. فقد بدأ الإسلام غريباً وها هو يعود كما بدأ غريباً. هي كثرة ،ولكنها كغثاء السيل، هناك مد إجرامي ومد إرهابي ومد سادي ومد ظلامي ومد للكراهية والنفاق، ومد للثرثرة وزخرف القول زوراً، والإسلام لا يوصف فإذا وصف فإنه ليس إسلاماً، والمسلم لا يوصف، فإذا وصف بأي نعت فإنه ليس مسلماً..فلا ينبغي أن يقال، إن هذا مسلم سلفي أو هذا مسلم سُني، أو هذا مسلم شيعي، أو هذا مسلم جهادي، أو هذا مسلم متطرف، وهذا مسلم معتدل، حتى كلمة السلفية نفسها خاطئة جداً..لأن الإسلام ليس سلفاً، وليس ماضياً. والسلفية الجهادية أو غير الجهادية تعريف ديني براق لمصطلح ثقافة النقل أو العقلية الببغائية، وكل الذين يعتنقون حتى أفكاراً سياسية من الماضي سلفيون لكن بالمعنى السياسي، فالقوميون «سلفيون سياسيون»، وكذلك الناصريون والبعثيون. وقد كان أقوام الأنبياء جميعاً يحاجونهم بحجة سلفية هي حجة (وجدنا آباءنا، وألفينا آباءنا، وإنا على آثارهم مقتدون ومهتدون. ونعبد ما كان يعبد آباؤنا)، أي أن الصنميين كانوا أيضاً «سلفيين»، لكن المصطلح اكتسب قداسة كقداسة النص الديني تحرم حتى الحوار والنقاش بشأنه عندما ربطه البعض بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار والتابعين الأخيار والسلف الصالح. وهؤلاء جميعاً ليسوا ماضياً، بل إن الإسلام ورسوله والصحابة والتابعين حاضر ومستقبل، ما أحرج هذه الأمة الببغائية إلى إعادة النظر والتأمل والتدبر، فقد غاب العقل، وغلب النقل ويا أيها الذين يظنون أنهم مبدعون إنكم مدعون! محمد أبو كريشة * * كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©