الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القطيعة والوديعة في العلاقة مع الطبيعة

القطيعة والوديعة في العلاقة مع الطبيعة
28 يناير 2015 21:14
ساد هذا المصطلح في العصر الحديث. يقال إن أول من دعا إلى القطيعة مع الفكر السابق، بكل ما يشتمل عليه، هو فرنسيس بيكون. وقصد بالقطيعة أن أساليب وطرائق التفكير القديمة لم تعد صالحة، وفي كتابه «الأرغانون الجديد» مخالفة صريحة للطريقة اليونانية من النمط الأرسطي. وفسرت دعوة بيكون بأنها قطيعة كاملة للحجر على ما فات من طرائق لم تكن ملائمة، ولذلك توقف العلم، بشتى فروعه، عن التطور. وظهرت كتب عدة تدعو إلى القطيعة. وكلها كتب مفيدة جداً ونظرتها منطقية ومقبولة من أمثال كتاب «الثورات العلمية»، الذي أحدث ضجة عندما ظهر العام 1962. والداعون إلى القطيعة مع الماضي من كتابنا ومفكرينا العرب المحدثين يعتمدون، في الدرجة الأولى على هذين الكتابين. بعض كتابنا في عصر النهضة اعتمدوا نظرة بيكون في البحث العلمي، ومن أهمهم نقولا الحداد وإسماعيل مظهر وسلامة موسى... وامتدت النظرة إلى الأدب، فحتى طه حسين في دراسته لأبي العلاء «تجديد ذكرى أبي العلاء» يرى أن الظاهرة الاجتماعية مثل الظاهرة الفيزيائية ودراستها ينبغي أن تكون مثلها في الحرص على المكونات الملموسة، وليس بإدخال أي عنصر نتوهمه. وهذا الاتجاه يعكس الموقف الذي اتخذه فرنسيس بيكون ولافوازيه. ومشهور عن بيكون تلك الأوهام التي حصرها في أربعة أنواع: القبيلة والسوق والكهف والمسرح. وفيلسوفنا المشهور زكي نجيب محمود يسير في هذا الاتجاه وبخاصة في كتابه «المنطق الوضعي»، إلا أنه فيما بعد وجد لنفسه مخرجاً بنظرية توافقية برر فيها نظريته السابقة وأضاف إليها العنصر الروحي، وفسّر ذلك في كتابه «الشرق الفنان». ويرى حسين مروة أن القطيعة الفكرية في الإمبراطورية العربية بدأت في العصر الأموي، بتصدي المعتزلة، وكانت وقتها في بدايتها، للفكر الأموي الذي اعتمد الجبرية. ومقابل ذلك مال المعتزلة إلى الحرية في الاختيار الإنساني. وكل كاتب ومفكر عربي يسعى لحشد العديد من المفكرين إلى جانب موقفه، سواء في تأييد القطيعة أو في نفيها. ويكاد كتبانا ومفكرونا ينقسمون في هذا الميدان إلى قسمين بين مؤيد ومعارض. ويبدو أن القطيعة ستظل أطروحة قائمة. والخلاصة أن القطيعة في الفكر العلمي، كما يذهب معظم الباحثين بدأت في فكر النهضة الأوروبية، للخلاص من الفكر الديني الذي فرض الهيمنة الغيبية حتى على السلوك اليومي. فالقطيعة ليست تصحيح خطأ بل تغيير مسار. وهي ناتجة عن «الضلال» وليس «الخطأ». ميادين القطيعة استخدمت القطيعة في الأدبيات العربية في كل الميادين تقريباً، ولكنها لم تكن ترتكز دائماً على تغيير المسار، ففي معظم الأحيان كانت محاولة تصحيح، خاصة في حركات التجديد الديني، للخلاص من الجمود التقليدي. ولتحديد معنى القطيعة ومعنى التجديد وما يستتبع ذلك، لا بد من النظر في التفعيل لا في التنظير. ونختار من أصحاب القطيعة بعض الأسماء التي ترددت في الكتب النظرية العربية لنرى متى تجوز القطيعة ومتى لا تجوز. حاول فرنسيس بيكون وضع برادغما كامل للخلاص من البرادغما السابق، فسعى إلى استعراض كيف تكون القطيعة في كل المجالات: تاريخ الطبيعة وتاريخ الإنسان (اللاهوتي منه والبشري) والأدب والفن وتحديد الأوهام التي يجب التخلص منها حتى تكون القطيعة مجدية. وهو الوحيد الذي حاول جعل القطيعة كاملة مع النظرة الفكرية السابقة. من جاء بعده من القطعيين لم يكونوا نسخة منه. يشار أحياناً إلى أن بيكون مؤلف بعض مسرحيات شكسبير، لما فيها من ثقافة وطيدة من أمثال هاملت ومكبث. وسواء صحت التهمة أم لم تصح، فإن المسرحيات عملياً لم تقطع صلتها مع البرادغما الأدبي السابق. أخلت بالوحدات الثلاث. وكان هذا إضافة لا قطيعة؛ لأنه أضاف إلى الجمال جمالاً. وفي غير ذلك لا نرى بيكون سوى مادي تجريبي في مجال العلوم التطبيقية. وكلامه عن التجربة وتكرارها وتغيير مواد اختبارها، وكذلك مكان الاختبار وزمانه... يشير إلى أنه لم يتطرق إلى القطيعة في الآداب والفنون، بل حصر ذلك في المادة الملموسة التي يمكن إخضاعها للاختبار. أما توماس كوهن وكتابه الشهير «بنية الثورات العلمية» فإنه، بكل دقة علمية، يحصر نفسه في العلوم الطبيعية. وهو لم يدرس في حياته سوى علم الفيزياء. دفعه اطلاعه على البرادغمات السابقة، أو الأنماط النموذجية، إلى وضع نظرية عن أساس الثورات في العلم، وكيف يتغيّر البرادغما وسبب تغيّره، وكيف يحصل الانقطاع مع البرادغما السابق. وقد يستغرق البرادغما قروناً في بعض الحالات، وما لم يحدث جديد في المواد التي يشملها البرادغما، فإنه يبقى كما هو. الرجل لم يتعرض للأدب ولا للفن ولا جاء على سيرة الأدب الشعبي ولا على الأدب التمثيلي. فالنمط النموذجي الذي يتحدث عنه يشمل التصور الكوني علمياً وليس أدبياً. أما من يجعل باشلار من جملة القطعيين، فلا بد أنه نسي أن الرجل ينتمي إلى مدرسة يونغ، مدرسة الأنماط البدئية والأنماط الرئيسية. وقد درس المفردات الأساسية للمدرسة اليونغية كالماء والنار والتراب والهواء، وأظهر صحة نظرة يونغ في أن هذا اللاوعي الجماعي هو الثابت في حياة البشر، فالأحلام النمطية لا تزال كما هي، والتصورات الجمعية استمرت على مدى القرون. وكتبه العلمية لا تناقض موقفه الفلسفي، فلكل ميدان طريقته. وفي «الفكر العلمي الجديد» نراه يناقش بأستاذية كيف أن الصراع بين المدرستين: الاسمية والواقعية في العصور الوسطى لا يزال مستمراً حتى اليوم، ويبين مدى الجهود التي تبذل للوصول إلى معادلة الانتقال من المادة إلى التصور، وليس من التصوّر إلى المادة. وما جر على العلم أغلاطه أن المفكرين يسقطون تفكيرهم على الطبيعة، ويختارون منها ما يؤيد مذهبهم، على عكس ما يطالب به باشلار... فأين القطيعة حتى يدرجه بعض المفكرين العرب في صفوف القطعيين؟ القطيعة وسيلةجعلت الأفواج الجديدة من الكتاب العرب من القطيعة في العلوم التطبيقية وسيلة للهجوم على كل ما لا يتفق مع نظرتهم الجديدة، ليس في العلوم، فلم نقرأ لأحد منهم كلمة واحدة في ذلك، بل في الأدب والفن والدين والفكر والاجتماع والثقافة والتعليم والتربية... أي في كل العلوم التي نسميها إنسانية. ففي هذه العلوم لا تعلن القطيعة كما تعلن في العلوم الطبيعية المادية، بل تعلن على شكل هجوم واستخفاف وهجاء وتقليد ساخر، فيشيرون إلى الكلمات التي تجاوزها العصر، وينتقلون من الحكم عليها إلى الحكم على التراث الأدبي بكامله. وهكذا قامت أصوات ضد كل شيء قديم تقريباً. ففي الأدب، قامت الثورة على الوزن والقافية والصور، حتى لم يبق للقديم شيء، وكأن المنتقد يتكئ على لغة غير اللغة التي أنتجت له كل ذلك النتاج. والشيء يجر الشيء، ففي هذا الموقف القطعي استدعاء لموقف يستخف بكل شيء، حتى قاربوا الدين، بدلاً من أن يشنوا حملتهم على إساءة استخدام الدين من قبل الحكام أو من قبل غيرهم، مما أدى إلى ظهور التطرف الديني المقابل. وهذا طبيعي عند محاولة القضاء على النوستالجيا الأدبية. وبالطبع تعتمد القطيعة هنا على حجة مشهورة وهي أن زماننا غير زمانهم وحياتنا غير حياتهم... إلى آخر المعزوفة. إنهم يسقطون اللاوعي الجمعي الذي اعتمده باشلار في أبحاثه الأدبية. بل حتى في بعض الظواهر العلمية يعتمد اللاوعي الجمعي، فالنار، في رأيه، لم تكتشف في الغابة من احتكاك الأغصان والصواعق واصطدام حجر بحجر أثناء الصيد وإنما اكتشفت في النفس... إلخ، فتطبيق القطيعة في النظرية العلمية على المشترك الجمعي هو أشبه بفحص النزوع الإنساني المتمثل بالفن في المخابر التجريبية. الوديعة في العلوم الإنسانية، هناك ودائع تنخلع من زمانها وتتخطى كل الأزمان، لارتباطها بموقف إنساني. إنها ليست قطعة معدن تعمل فيها الظروف فتتأكسد أو تتفاعل... إنها مرتبطة بالمشاعر والخيال وكل ما أنتج الإنسان من أوهام عن نفسه وموقفه من نفسه ومن الطبيعة والكون والمجتمع. فالأدب والفن ودائع بالعرض لا بالفرض. فالبهجة التي تشيعها قطعة فنية أو شعرية أو أدبية لا ينطبق عليها ما ينطبق على معادلة قياس السرعة أو تأكسد المعادن. قد تسقط كل المعادلات والقوانين العلمية القديمة وتتغير بالكامل، أما الودائع البشرية، فإن البشر هم الذين احتفظوا بها وجعلوها ودائع فنية رائعة تسر وتسعد، وتعطي فرحاً إنسانياً كبيراً لا يمكن إخضاعه لأي تحليل علمي. وهذا هو السبب في أن الأثر الفني والأدبي ينخلع عن عصره، ويمشي مختالاً في العصور التالية، لالتصاقه بعمق نفسي، ربما لا يعرف القارئ نفسه سر هذا الالتصاق. وبدلاً من أن يكون الزمان والمكان من موجبات التغيير في المواقف العلمية نراهما على العكس تماماً، فكلما قدُم الأثر ازداد احتراماً. فحتى الأشياء القديمة (الأنتيكا) يرتفع ثمنها ارتفاع حرارة المحموم كلما تقادم زمنها. وحتى في العصر الحديث نجد هذه الظاهرة، فقفاز لأمير في بوهيميا بيع بثمن باهظ جداً، من دون أن يبدو عليه أي أثر للفن. إن النوستالجيا تتخطى الزمان والمكان. وإلا كيف نفسر بقاء آثار أدبية وفنية تعود إلى آلاف السنين، فاللاؤوكون تمثال لا يزال يشغل الناس حتى اليوم، وكتب عنه الباحثون والنقاد كتباً كثيرة، ولا يزال يخضع للتحليل والدراسة لمعرفة سر هذا الفن العظيم. والجوكندا ما تزال تدرس للبحث عن سرّ ابتسامتها، والإلياذة تقرأ أكثر مما يقرأ أعظم كتاب في العصر الحديث، بل دهشنا عندما اطلعنا على عدد الترجمات التي ظهرت فيها الإلياذة في الولايات المتحدة الأميركية، ففي عام 1990 كان هناك أكثر من مئة وخمسين ترجمة بالإنكليزية فقط للإلياذة، وكل ترجمة تطبع عشرات المرات. والمعروف أنه لا يوجد في الإلياذة أي أداة حديثة، فكانوا يستخدمون السيوف والرماح والدروع وعربات الحرب فقط. لا شيء يربطهم بعصرنا وأواننا، ومع ذلك يتهافت الناس على الإلياذة بشوق أشد من شوق النحل لزهر الربيع. كان الأمويون يعرفون جيداً موقف ذي الرمة أو الفرزدق وكل الشعراء الآخرين منهم ومن أعمالهم، ومن خلافتهم، ومن سياستهم... ومع ذلك كانوا يسعون صادقين لجذب المزيد منهم وهم الخصوم الألداء لهم. وقد لوحظ أن القطعيين في الأدب والفن تسرعوا في أحكامهم من دون تعمق في الظاهرة التي تنخلع عن زمنها وتسير عبر الأجيال، ولو أمعنوا في الدوافع التي جعلت أبا تمام يجمع «الحماسة» لعرفوا أن الظاهرة الفنية لا ينطبق عليها الخطأ والصواب كالظاهرة العلمية. أشدّ من شوق النحل الإلياذة تقرأ أكثر مما يقرأ أعظم كتاب في العصر الحديث، بل دهشنا عندما اطلعنا على عدد الترجمات التي ظهرت فيها الإلياذة في الولايات المتحدة الأميركية، ففي العام 1990 كان هناك أكثر من مئة وخمسين ترجمة بالإنجليزية فقط للإلياذة، وكل ترجمة تطبع عشرات المرات. والمعروف أن ليس في الإلياذة أي أداة حديثة، فكانوا يستخدمون السيوف والرماح والدروع وعربات الحرب فقط. لا شيء يربطهم بعصرنا وأواننا، ومع ذلك يتهافت الناس على الإلياذة بشوق أشد من شوق النحل لزهر الربيع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©