الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

رحلة طبيب جرّاح من نواكشط إلى اسطنبول

9 مارس 2007 01:48
نعيمة حسن: يبدأ الكاتب السوري خليل النعيمي -وهو طبيب جراح مقيم في باريس- كتابه الرحلاتي (من نواكشط إلى اسطنبول) بسؤال: ماذا يعني المكان بالنسبة للكائن؟ ويقول: إن علاقة الكائن بالأمكنة هي علاقة حسية تتجاوز التحفُّظ والتخطيط، ويناشد الرحالة الناس في مقدمة كتابه (سافروا·· سافروا، تكتشفوا المكان الذي تبحثون عنه)· بدأت رحلة النعيمي من باريس، وكان اليمن أولى محطاته، حطَّت الطائرة برحّالنا النعيمي قادمة من فضاء باريس المتراكم بعضه فوق بعض، ضباب كثير بلا نور ولا روح، حطَّت في فضاء مفتوح، نور ساطع بلا ضفاف، جبال جُرد لا يحدُّها البصر، اليمن ذاك البلد الدائري، وهو ليس مغلقاً، وإنما محفوظ بجغرافيته، وكأن الطبيعة وهبت اليمن كل شيء، وأخذت منه كل شيء· عدن·· ومنابع الجمال نزل الرحّالة في أكبر فنادق العاصمة صنعاء ''فندق سبأ''، وتعجّب من غناء ثلاث فتيات غير عربيات، وتساءل أين الفتيات العربيات؟ في يوم الجمعة صباحاً، من أيام رحلته، كان موعد الانطلاق إلى مدينة ''مأرب'' حيث ''سدّها'' التاريخي والشهير، ولكن السائق الذي كان يُقل النعيمي حذر، بعفوية تأسر اللُّب، وتدعو السامع إلى التصديق، دون الحاجة إلى برهان، من الذهاب إلى هناك· لكن الرحالة خليل غير وجهة الرحلة إلى أمكنة أخرى· وفي الطريق شاهد وجوها محروقة، ألبسة بلا ألون، بشرا يتكلَّمون صمتاً، وإذا تكلَّموا تكاد لا تفهم ما يقولون؛ فهم يخبِّئون نصف الكلام في نفوسهم· في منتصف النهار، وصل النعيمي كما يروي ذلك، إلى مدينة ''الطويلة''، وكأن هذا البلد بلا نساء، عالم مكفَّن بالسواد، شديد الحياة، ولكن تنقصه الحيوية· اتجه بصحبة السائق (علي)، وهو شاب أسمر من اليمن، إلى مدينة ''عدن'' ذات التاريخ العريق حيث الطريق ملتوي مثل أمعاء الميت يصيب الراكب بالخوف والهلع· ودار حديث بين الرحالة والسائق· حيث قال السائق: أريد أن ''أُخزِّن''؛ فالتخزين ضروري للطريق، فهزَّ الرحالة رأسه وقال: وأنا أيضاً، وهكذا فرح وصار يقود سيارته بمرونة أذهلت الرحّالة· في عدن الجنوبية جمال لا يقهر، الجبال التي كانت تنبع من القاع بلا فواصل أو انقطاع سورتنا بظلمة فضية، نهبتها من القمر لتُلقي بها على الطريق· تركنا عدن (الخانقة)، وتوجّه الرحّالة إلى مدينة (تعز) الرائعة ذات الجبال المرصوصة، مدينة مليئة بالحركة والضوء، ''جبل الصبر'' الهائل المحشو بأعشاش المساكن الراكب بعضها فوق بعض، يهيمن على فضاء ''تعز'' المملوء نوراً· مراكش·· أثينا·· عُمان لوجودك في مراكش طعم الولادة من جديد، يوم وليلة في الساحة خير من مسير سنة، ساحة تختصر مدينة كاملة· من الجراحة التنظيرية التي عُقد مؤتمرها الأخير في ''مرّاكش'' -وهو قفزة نوعية في علم الجراحة في هذا القرن- إلى ثعابين الساحة التي تعجُّ بالكوبرا السود ذات الرؤوس المسطَّحة اللطيفة· اختفى فجأة كل شيء، صارت الساحة مطعماً كبيراً، وحلبة ملاكمة برية، بل وحلبة للرقص العفوي· في الساحة نفسها، يقول النعيمي عن رجل فضيل يشرح لمن يحيطون به، وأكثرهم من المسنين، ويعلِّمهم كيف يقارب الرجل امرأته بطريقة مثالية، أعجبتني حماسة الشرح، حتى إنني لم أكذبه عندما ادعى أنه يشفي الزائدة الملتهبة بزجاجاته· في المساء الأخير، قال النعيمي: السياح يصورون بآلاتهم الأمكنة، بينما أنا أصوِّر بقلبي· صخرة الأكروبول هضبة محاطة بهضبة أخرى، من جميع الجهات، وأعمدة الأولمب حيث ''معبد زيوس'' العظيم· عند منحدر الصخرة المقدَّسة -التي كان يعتقد أنها صرَة العالم القديم- لأنها خليط من عناصر الطبيعة ''الضوء، والريح، والحجر، والشجر''، ويقول الرحالة: إنه جاء إلى ''أثينا''، حيث ينعقد فيها ''مؤتمرها الأوروبي الطبي'' الذي يشارك فيه، حيث عرَّج بنا إلى ''مسرح ديونيوس'' الذي شيد في القرن السادس قبل الميلاد وقدَّمت عليه روائع الأدب العالمي· ثم يتجه إلى ''سونيون''، وهي آخر هضبة جنوب الصخرة المقدَّسة، ويودع الرحالة ''أثينا'' شاعراً: يا صخر قد هيَّجتِ أشجاني ذكَّرتني أهلـــــــــــي وأظعاني مقابل ''ستازيوني ترمنيالي'' جلس الرحالة يستعيد ذكرياته في ''دمشق''، وفي ''ساحة باربيريني'' الرائعة، ووسط ضوضاء روما الغامرة، تشاهد ''معامل فالنتينو'' الشهير للألبسة· أما ''حدائق فيلا دي موتيشي'' فتجلس فيها ثملاً بالتاريخ، تتحرِّر مشاعرك وأوهامك· تنغسل من آثامك بماء المطر الغزير الدافئ· وفي ''بيازا دي تريفي'' ومن نبعها الشهير ''فونتانا دي تريفي'' يكتب الرحالة النعيمي آخر سطور رحلته إلى أثينا· يصف النعيمي عُمان التي سافر إليها فيقول: ظمأ الصحارى القديم يستبدُّ بي منذ أن أراها، ولا أجد أمامي سوى المحيط، ولا أرى سوى صخور بلا أعشاب، وجبال ناشقة بخشومها، لكأنها شقَّت المحيط، قبل قليل يمر الرحالة على مدن أخرى مثل: صور، وصلالة، ونزوى· تنتاب الرحّالة هنا مشاعر ألم، ورهبة وخوف، وكان ذلك جلياً في هذا الفصل من الكتاب، فيقول: في طنجة شيء ما يُزعجك، شحوب كوني هائل يعبر معي ويقيم، بين اليمامة ومانيلا عالم واحد لا يتغير، عالم يرتجف من التوتر والبؤس، عالم كيف أدركه قبل أن يدركني وينساني· يرى الرحالة قمة ''جبل طارق'' الشامخة، و''ساحة فارو'' حيث الأرض تلتصق بالبحر، وينتهي به المطاف إلى ''مقهى باريس الكبير'' ليتوقَّف النعيمي قبل الجلوس فيها، حيث يرى الوجوه الحسان المزيَّفة بالألوان، الحركات المغرضة الناعمة، ولكأن حرباً خفية تدور بين الوجوه في ذاك المكان، ويترك الرحالة مدينة ''طنجة'' كما ترك مدينة ''دمشق'' من قبل بلا عودة· مدينة ''بودابست'' ذاك الجمال الذي يسحق بشاعة الروح، وعلى حافة الدانوب نور الشمس المليء بالبهجة، مكونات الطبيعة كلها تجمعت هنا: الماء والخضرة والوجه الحسن· يلتقط الرحالة النعيمي أنفاسه من ضآلة البصر أمام هذا الجمال، يتخالط الناس في هذا المكان بلا حذر أو خوف· يتجمهرون حول ''موسيقى الجاز''· في المساء جلس الرحالة في ''ساحة فيروش مارتي'' بالقرب من ''شارع فاتْجي'' أوجا الشهير· مقابل ''جسر سيجيني لانتهيد'' الذي يقود القلعة إلى الشطر الآخر من مدينة ''بودبست''· عند الرحيل عن هذه المدينة أدرك الرحالة أن الإغراء هو وحده الجميل؛ إغراء الذات باندماجها بالعالم، هذا العالم الذي لا يكف عن التنائي عنها· القاهرة·· والليلة الأخيرة يترك الرحالة لنفسه العنان، فيستوقفه ليل القاهرة المملوء بالبشر، والآلات، وأزيز السيارات البائسة، التي لا تتوقف عن المرور وكأنما يجرها خيط لا مرئي، وبعض الجائلين هنا وهناك بلا هدف، ماء النيل الذي يبدو راسخاً في الأرض، والقصور العتيدة والتي أصبحت لوكاندات بلا ماء، متآكلة ومقشورة· ويمر الرحالة من حي (الحسين) إلى (الأزهر)، ويغريه تلمس الأهرامات وتحسس بطونها حيث حدائق الموت· يستطرد الرحالة قائلاً لنفسه: هنا يسجل التاريخ أساطيره، والتي لا تسكن حتى تهب من جديد· يحط النعيمي رحاله في حاضنة العصور، والتي تسحر الألباب بأبهتها، مدينة حائرة بين الزمن والماء، في مدينة اسطنبول تنبع مآذن لا تحصى، حينما تمشي فيها وكأنك تسبح في التاريخ، ويتوقف الرحالة في منتصف جسر (أتاتورك) بين القارتين تماماً، وتتجلى أمامك مآذن (أيا صوفيا) يميناً، وأكوام البنايات العتيقة في (تكسيم)، في هذا المكان يبدو كل شيء متهرئاً وأزلياً· في المساء الأخير للرحالة في هذه المدينة، جلس في (مادو) الذي يتربع فوق كتف (فنديكزاده)، وهي أعلى هضبة في القسم الأوروبي من اسطنبول· في آخر الرحلة يصل النعيمي إلى (دَشْرَة) نواكشوط عصراً، كان للأفق لون فضي لامع، وكأن صحراء نواكشوط ألبسته هذه الحُلة· بين (عرفات) و(سيزيم) يمتد طريق صحراوي حتى المحيط، يصف الرحالة هذا البلد قائلاً: صحارى وشموس، وسبخ وكثبان، وكائنات تتحرك باستمرار وبلا صوت، رجال زرق وسود، أكواخ مرمية على الشاطئ، مملوءة بالبشر· ينتقل الرحالة في (البيدو نفيل) وهي مدن من الصفيح، أو هي مدن مزيفة، وهي مدن صحراوية تحيط بنواكشوط· كان يرافق الرحالة الدليل (عبد الرحمن) حيث كان يقود عربته بهدوء مشيراً إلى الأماكن بصمت، ويعبر الرحالة (وادي الناقة) حيث تنتشر الأشجار القزمة المنبطحة مستسلمة للكثبان مثل وردة تستسلم لحشرة تمصها· كلمة مطر تكاد تكون كلمة غير ملموسة، في هذا البلد لا يملأ العين إلا الصحراء· ويختتم الرحالة كتابه بباب صغير سماه (أخيراً سلاماً دمشق) حيث يبث مدينة دمشق أشواقه، ويعترف فيه أن البعد لم يخلِّصه من سيطرة المكان الوحيد الذي أحبه وهو بلاده (دمشق)، فقال هنا: صرت أدرك أن أهمية المكان لا تكمن في تمايزه عن غيره، فالمكان كالكائن لا يمكن استبداله· سلاماً دمشق، سلاماً·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©