الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جبران الرائي والشاهد والفنان

جبران الرائي والشاهد والفنان
28 أكتوبر 2015 23:02
30 لوحة ورسائل عدة ومذكرات شخصية وفيلما وثائقيا ورسومات أولية غير مكتملة، كانت هي حصيلة وقوام وفحوى المعرض التي احتضنه متحف الشارقة للفنون مؤخراً، وحمل عنوان: «البعد الإنساني في رسوم جبرانية»، المستمر حتى العاشر من شهر ديسمبر المقبل، بالتعاون مع لجنة جبران الوطنية ومتحف جبران في الجمهورية اللبنانية. تقدم محتويات المعرض مجموعة خاصة ومنتقاة من أصل 700 عمل فني وأثر أدبي ولوحات مائية وزيتية، وأخرى منفذة بالفحم والأحبار الصينية على الورق وقماش الكانفاس، بالإضافة إلى رسائله الخاصة لمتعهدة أعماله «ماري هاسكل» وللأديبة اللبنانية المقيمة في مصر «مي زيادة»، وتمثل هذه المقتنيات كامل الإرث الفني لجبران خليل جبران، وهي موزعة على متاحف عدة حول العالم، ويحتفظ متحف جبران بلبنان بمعظم أعماله الفنية، أما أعماله المتبقية فما زالت محفوظة في متاحف وغاليريهات نيويورك وجورجيا وماساتشوستس ونيوجيرسي في الولايات المتحدة الأميركية. طغت العاطفة الدينية والعرفانية على رسومات جبران وتخطيطاته الأولية لحالات ووجوه مرصودة ومتخيّلة، وذابت الكلمات في الألوان المائية والزيتية، وطغى تأثيرها على أجساد مفعمة بضوء التأملات ورهافتها، ليتصدر جبران (1883 ـ 1931) المشهد برمته، ويحيك خيوط الحكمة والشجن والبصيرة بنسيج يجمع الغياب والحضور معاً. بدا المعرض بطابعة الروحاني والنوستالجي أشبه بأقنوم افتراضي لاستعادة جبران الفنان والإنسان والشاعر والفيلسوف والقديس والشاهد والشهيد، وتجلّى الحدث كغواية طاهرة، تستدرج الصورة المنسية لمسيحيي الشرق، بحضورهم النقي والمتصالح مع الذات ومع الآخر، حضور متجرد ومتعفّف من خرافات التميّز والخلاص المزيّف والأنانية الدينية التي أشاعتها المسيحية الصهيونية في الغرب، وما جلبته أفكارها الأصولية، وعنصريتها المتوحشة من كوارث وويلات على العالم أجمع. عبّرت رسومات جبران في المعرض عن حسه الرؤيوي المخترق لثنائية الزمان والمكان، وصولًا إلى الماوراء المتّسق مع وحدة الوجود، تلك الوحدة المتآخية التي تذوب فيها التناقضات، وتتحول فيها الأضداد بظاهرها الملتبس إلى كائنات نورانية مكتملة بالعشق والانصهار الكلي في المحبة والرحمة الإلهية. ضباب المدن يحضر صاحب كتاب «النبي» و»الأجنحة المتكسّرة، و»عرائس الروح» و»رمل وزبد» متشحاً بضباب مدن ومرافئ وذاكرات وهجرات يتصاعد من أعطافها الوجد والوعد والرجاء والأسى والمغامرة الشخصية والعائلية، بدءاً من بلدته بشرّي في لبنان، ومروراً ببوسطن ونيويورك، وليس انتهاءً بلندن وباريس، حاملًا معه أطياف وتأثيرات رودان وييتس ووليام بليك وكارل يونغ ودافنشي وأيقونات القديسين والتماثيل المهيبة وأدبيات التصوف الإسلامي والزهد المسيحي، والأهم من ذلك التفرّد والتمرد على التعاليم الخانقة لكهنة السلطة الدينية، المشوشة لجوهر الدين نفسه، باعتباره أصل حرية الإنسان وخلاصه، ومن هنا احتشدت في لوحات جبران، كل تلك الوجوه الذائبة في الحلم، وكل تلك الأجساد الهائمة والمحلقة في الفراديس والرؤى والغيب المؤجل، وجوه وأجساد وملامح وتقاسيم ترتوي من ديمومة وتكرار وعود أبدي، ترتحل في سماء النشوة تارة، وتأوي إلى كمون مبجّل وصمت مقدّس وحزن نوراني تارة أخرى، ولا يبدو في هذا التضاد نقيصة أو اختلالًا أو هتكاً لمعمار جبران الفني ولمشروعه البصري، بل هو في البعد البانورامي لمجمل أعماله أشبه بكمالات موزعة على قطع متناثرة، يجمعها توق مشترك، وتتشظّى أجزاؤها في هيولى الوجود البشري، بكل ما يحمله هذا الوجود من دراما وارتياب وصراع بين الفاني والباقي، وبين الزائل والماثل، وبين العابر والغابر. يتكشّف مزيج: «الأنطولوجيا الجبرانية» في المعرض، من خلال قوة الكلمات وكثافة مدلولاتها وعمق تأثيرها، والتي شكلت هوية وهوى ومضمون أعمال جبران النثرية التي سطّرها بالتحديد في كتابي «النبي» و»رمل وزبد»، والموزعة هنا مثل شواهد خطّية فوق اللوحات وعلى جوانب الغرف والأقسام المختلفة لمحتويات المعرض، بحيث تنساب المعاني وتتسلل وتسيل في الفضاء الذهني والديناميكي المتداخل بين الصورة والعبارة، وبين الظاهر والخفي وبين الدال والمدلول، تتصدر مقولة جبران : «النسيان شكل من أشكال الحرية» باللغتين العربية والإنجليزية إحدى قاعات العرض، وبحروف تبدو ذائبة في نسقها الكاليغرافي باتفاق مقصود ربما مع بورتريهات الوجوه الهائمة في تجلياتها، والمتماهية مع تأملاتها، والتي رسمها جبران انطلاقاً من فيوض المعنى قبل حدود المبني، وانجذاباً لنداء البصيرة قبل اقتراحات اللون وحركة اليد و طقس الرسم. يقول جبران في إحدى عباراته الملهمة: «تنظر الأبدية إلى ذاتها في المرآة، ولكنك أنت الأبدية، وأنت المرآة»، وواضح هنا تأثره بمقولات المتصوفة المسلمين القدماء مثل «البسطامي» الذي قال مرة: «كنتَ لي المرآة، فأصبحتُ أنا المرآة»، وثيمة المرايا ومتاهاتها كانت من الثيمات الطاغية على نتاجه الفني، خصوصا في لوحات مثل: «وجه امرأة محجبة» انتهى منها في العام 1916، ولوحة «صورة شخصية» رسمها جبران بالفحم عام 1908، ولوحة «موناليزا الحزينة» نفذها في عام 1910، حيث بدت الوجوه الذاهلة والمنكسرة وكأنها تحدّق في مرايا الذات، تلك الذات المورقة تحت ضوء لا يفنى، وهواء لا ينفذ، وعاطفة لا تبيد. وفي هذا السياق يقول جبران: «ما النفع من تقليد الطبيعة، في حين أنها في الأصل مفتوحة ومتاحة لكل من يرى ويسمع، فالأعمال الفنية هي لفهم الطبيعة وإظهار معانيها لأولئك غير القادرين على فهمها، ومهمة الفن هي إظهار غير المألوف من ما هو مألوف جداً». الجسد والروح افتتن جبران في لوحاته بفكرة ترويض العلاقة المتناقضة بين المادي والميتافيزيقي وبين الجسد والروح وبين الرغبة والامتناع، ومن هنا جاءت لوحاته الرمزية لتوائم بين البنية والمثال، وفي مقارنة مع الأعمال النحتية لرودان فإن ثمة نزوعاً خفياً في أعمال جبران، لتوقير الجسد باعتباره برزخاً للحواس، ومعبراً للأشواق ونافذة للرؤى، إنها «العذرية العارية» أيضاً التي تتغنى بها نساء جبران، في حفلة انتشاءات مقدسة، يتحول فيها تابو الجسد إلى مشاع بصري آسر، يتصالح فيه الإغواء مع الحشمة، وتتبرّج الحجب كلها أمام ألفة العاشقين، وأمام نورهم الملتحف بنور والمستلقي على نور. ثم إن الأجساد هنا تغرف من أمومة الأرض وحضن الطبيعة ما يعينها في النهاية على إكمال دورة التجلي والإجلال والاقتران بأصل العناصر وجوهرها النقي، وهنا أيضاً يتعانق الغيم مع التراب، ويصبح الجسد ظلًا وماءً للكائنات التائهة والعطشى، المتضرعة لنبع الخلود، والباحثة عن فتنة الغامض، والراكضة خلف سحر الما وراء. تندلع في اللوحات الزيتية التي أنتجها جبران في مرحلته الفنية الأولى تلك الشرارات الطاهرة والعذابات المرفرفة في سديم الأجساد، وتوقها الضاري للخلاص من عبء المادة الزائلة ومن عنف الثيولوجيا وتزمّتها، ولذلك نرى هذا «الانشقاق اللوني» عند جبران بإزاء الظلمة الخانقة والمحيطة بشخوصه وكائناته الحالمة، انشقاق سوف يفضي إلى تركيز البياض المضيء على هذه الكائنات شبه الملائكية، وإهمال الحواشي والأطُر والهوامش، باعتبارها مصدر شر وخيانة وانتهاك لخصوصية هذه النفوس المحلقة والنائية بهواجسها صوب مدائن كونية لا يحدها البصر، ولا يسعها النظر، ولا يخدش ملكوتها الصامت تلك الترددات الوعظية المزعجة لحرّاس الكهنوت الأرضي. وفي لوحة بعنوان: «الغائصة في ذاتها» نرى السطوع الضبابي، وهو ينهمر على ملامح امرأة ناهضة من خرائب الضوء، تطرد الحلكة على مرأى من الليل، وثوبها الأسود يغري الوهج كي يطبع وجهها بطمأنينة القديسات، وبالدعة الهابطة كنفحة ملاك، يتقلص الحضور الزائف للواقع، وتنغلق العين على فراديس منسية، وبتلويحة جذلى من يديها، تستدرج المرأة فراشات النور كي تحطّ على بساتينها الثملة، إنها الأنوثة المبهمة، والتي استطاع جبران أن يستنطق أسرارها ليس بالشكل وحده ولا باللون وحده، ولكن بالذهاب بعيداً وعميقاً في مسالك الذات العارفة، وبواطن الوعي المستنير بحكمته. تستحضر اللوحات الجبرانية ما صاغه ابن بلدة بشري اللبنانية من تنبؤات حاضرة ومتمثلة بكامل بشاعتها اليوم، عندما قال في رسالته التي عنونها بـ(رسالة إلى المسلمين من شاعر مسيحي): «أنا لا أحب العلّة، ولكنني أحب الجسد المعتلّ، أنا أكره الشلل ولكنني أحب الأعضاء المصابة به.. أنا أجلُّ القرآن، ولكنني ازدري من يتخذ القرآن وسيلة لإحباط مساعي المسلمين، كما أنني أمتهن الذين يتخذون الإنجيل وسيلة للتحكم برقاب المسيحيين». عن الهجرة والصداقة يعد جبران خليل جبران من أهم الأدباء والفنانين في لبنان. ولد العام 1883 في بلدة بشرّي، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع عائلته عندما كان عمره 12 سنة، ثم استقر في بوسطن حيث ظهر اهتمامه بعالم المسارح ودور الأوبرا ومعارض الفن، والتي ساهمت بمجملها في صقل موهبته الاستثنائية. ترك جبران بعد وفاته العام 1931 مجموعة واسعة من اللوحات والأعمال الأدبية التي تعد كنزاً قيماً للأدب والفن يعكس أفكاره وتصوراته حول الحب والسياسة والارتقاء الروحي. تعرف جبران على ماري هاسكل عن طريق المصور فردريك هولاند داي في بوسطن خلال أول معرض له في العام 1904 وعلى مدى عشرين عاماً أصبحت هاسكل هي متعهدة أعماله وملهمته في ذات الوقت، وجمعت بينهما علاقة حملت في طياتها بعض التعقيدات، ليتفوق إخلاص ماري وتفانيها في مساندة جبران، مما أدى إلى تكوين علاقة صداقة عميقة تقوم على رباط أساسه فلسفتهما المشتركة حول الوجود والفن والشعر والأديان، وأدركت ماري باكراً موهبة جبران وآمنت به ودعمته وشجعته على الكتابة باللغة الإنجليزية، وكانت بمثابة موجهته الأدبية والمحررة الخاصة به، إضافة إلى دعمها له مادياً ليتمكن من السفر إلى باريس وإكمال دراسته هناك، وافتتاحها أستديو له في مدينة نيويورك لتنفيذ لوحاته ومشاريعه الفنية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©