الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حلمت بالعقاد فصرت فريد شوقي

1 نوفمبر 2013 20:44
بدأت الكتابة المنتظمة في مجلة «أحوال». وبعد عددين أو ثلاثة، لاحظت أن انتشار المجلة ضعيف، إذ لم أكن أجدها في محطات البترول، ولا على أرفف المقاهي، وحين أسأل عنها موزع الصحف الهندي، يرد بابتسامة: الحمد لله! ولأن خيال الكاتب لا يلتهب إلا بسياط القراء، مثلما يجري اللاعب على الحشيش بهتاف الجماهير، فقد قررت البدء في الخطة «أ»، والتي تقضي بالمساهمة في التعريف بمجلتي ودعم كتاباتي، فكنت آخذ عشرات النسخ من كل عدد، وأوزّعها على الأهل والأصدقاء. ولم أكن أفوّت أي زيارة إلى أي مكان لتنفيذ الخطة، فإذا ركنت سيارتي في محطة غسيل، لغمت صالة الانتظار بعدد من النسخ، وإذا دخلت عيادة، وضعت نسخاً أمام المرضى، وكنت أفعل ذلك في محال الحلاقة والمطاعم والمقاهي، مع التظاهر في كل مرة بأنني أحضرت المجلة معي لقراءتها، وأنني تركتها هناك بعد الانتهاء منها، متعمداً ترك المجلة مفتوحة على الصفحة التي بها مقالي، لعل وعسى يلتفت إليه أحدهم ويقرأه. وأذكر مرة نزلت بها في فندق «الأوشيانيك» بمدينة خورفكان، فالتفت يميناً ثم شمالاً، واستخرجت بحذر الكمية من حقيبتي ووضعت واحدة فوق خزانة الثياب، وواحدة في درج طاولة التلفزيون، وواحدة ألقيتها أسفل السرير، لعلها تصل بيد النزيل التالي، فيصبح أحد قراء المجلة. وأخذت نسخة ونزلت حيث البهو، وهناك سحبت جريدة بقصد التمويه، وقرأت منها سطرين اثنين، ثم أعدتها إلى مكانها على الرفوف المعدنية، ومعها نسخة من المجلة، كما يفعل بعض المهربين في الأفلام الغبية. وبقيت ملتزماً بالخطة إلى أن توقفت المجلة عن الصدور وانتقلت للكتابة في جريدة يومية واسعة الانتشار، وانتفت الحاجة إلى القيام بدور الموزّع. بعد سنوات قليلة، فكرت في إصدار كتاب، يضم مجموعة من مقالاتي، لكن لم أجد دار نشر في الإمارات تهتم بهذه النوعية من الكتب، فبدأت بمراسلة دور نشر عربية بلا جدوى، فقلت: «ما يحك جلدك إلا ظفرك»، سأكون المؤلف والناشر والموزع، خصوصاً بعد الخبرة التي اكتسبتها أيام توزيع المجلة. فاتفقت مع أحد المخرجين على إخراج الكتاب فنياً، ومن ثم أخذت القرص الصلب كما يقولون وسلمته إلى المطبعة. بعد أيام اتصلوا بي، فأوقفت سيارتي أمام مخازن المطبعة وبدأ العمال يرصون كراتين الكتب في السيارة، وأخذتها إلى البيت، ثم عدت من جديد وأخذت كمية أخرى، وكررت العملية أربع مرات. حسناً، في البيت الآن عشرات الكراتين وبداخلها ثلاثة آلاف نسخة من كتابي الأول، فماذا أفعل بها؟ وكيف أوزعها؟ بدأت في تنفيذ الخطة «ب»، فرحت أطوف على المكتبات الكبرى أعرض عليها بضاعتي، لكن اكتشفت أن غالبيتها لا تتعامل مع المؤلفين مباشرة، وإنما من خلال دور النشر، وبعد إلحاح وافقت أربع مكتبات على عرض نسخ محدودة من كتابي لديها، ولدى مكتبات أخرى تتعامل معها، في مقابل حصولها على نسبة من قيمة المبيعات. بعد شهر، فوجئت بأن المبيعات ضئيلة، ولم تكن الدراهم تشغل بالي، وإنما الكراتين التي تحتل جزءاً لا يستهان به من مجلس البيت، فمن أصل ثلاثة آلاف نسخة، لم «أتخلص» فعلياً إلا من عشرات النسخ. انتقلت إلى الخطة «ج»، فبحثت عن العناوين البريدية لبعض المسؤولين، وبعض أساتذة الجامعات المعروفين، وبعض الإعلاميين، وبعض الجهات الرسمية، ورحت أبعث لهم النسخ بالبريد كإهداء، فوجود نسخة من كتابي في مكتب وزير ما أو في صالة الانتظار في مؤسسة حكومية، سيعني للجميع بأن الكتاب قيّم وسيتهافت الناس عليه. وفي موازاة ذلك، بدأت في تنفيذ الخطة «د»، فكنت أبحث عن كتابي في المكتبات، فإن وجدته معروضاً على رف خلفي، أخذت نسخة ورحت أقرأ فيها وأنا أسير في اتجاه الرفوف الأمامية، وفي ساعة الصفر، وبحركة خاطفة، أضع النسخة هناك مغطياً على الكتب الأكثر مبيعاً. وهكذا، أفعل مع بقية النسخ، ذهاباً وإياباً، في عملية احتيال على بورصة الكتب، وتزوير فاضح للواقع. أما إذا لم أعثر على كتابي، فإنني اسأل البائع وفق الخطة «هـ»: هل أجد عندكم كتاب لمؤلف يدعى أحمد.. اممم.. أحمد المهيري.. كلا.. أحمد الأمير.. أحمد أميري؟ فإذا تبين أن الكتاب موجود فعلاً ووضعه البائع بين يدي، فإنني أقول: حصلت على هذا الكتاب منذ لحظة صدوره، من المطبعة مباشرة، لكنني أقصد كتاب جديد صدر للمؤلف نفسه. أما إذا تأكدت أن المكتبة اللعينة لا تعرض كتابي، فإنني أقعد أمدح كتاب ذلك المؤلف المعروف، وأطلب من البائع أن يتحدث إلى إدارة المكتبة لجلب كتبه من تحت الأرض. وبطبيعة الحال، استطعت تخفيف الثقل عبر توزيع كتابي على كل من يتصادف مروره أمامي أو إلى جانبي، فكل واحد من العائلة يحصل على عشرين نسخة، وكل صديق يحصل على عشرة نسخ، وكل زميل يحصل على نسخة واحدة. وأذكر أنني دخلت مكتب أحد الزملاء ولاحظت وجود نسخة من كتابي على طاولته، وكان هذا الزميل قد عاتبني حين عرف أنني أهديت زملاء آخرين ولم أفعل ذلك معه لأنني أعرف أنه عدو القراءة. أخذت أحدق النظر في النسخة التي بقيت على طاولته منذ أكثر من شهر، بالوضعية نفسها، مائلة قليلاً وتتناثر فوقها نتف من البسكويت وموضوعة فوق ملف أصفر، وخرجت من عنده وبقيت أنتظر. وحين خرج من مكتبه دخلت فوراً وأخذت الكتاب وانتزعت صفحة الإهداء منه، وأعدته معي إلى البيت لينضم إلى إخوانه في الكراتين. وبعد سنة من ذلك، وبدلاً من أن آخذ العبرة من الكراتين الكثيرة، أصدرت كتاباً جديداً بالطريقة نفسها بالضبط، لكن مع تخفيض الكمية إلى 2000 نسخة.. وزادت الكراتين. وبعد سنة من ذلك، وبدلاً من أن آخذ العبرة من الكراتين الكثيرة، أصدرت كتاباً جديداً بالطريقة نفسها بالضبط، لكن مع تخفيض الكمية إلى 1800 نسخة.. وزادت الكراتين ولامست بفضل الله سقف المجلس للمرة الأولى. وأمام الحقيقة الماثلة أمام عيني، والآلام التي لحقت بظهري نتيجة حمل الكراتين ونقلها من مكان إلى آخر، والإحباط المستمر من ضعف الإقبال على كتبي، وانشغالي عن الكتابة بالنشر والتوزيع والتمثيل، لدرجة أن حلمي بأن أكون كاتباً لامعاً كعباس العقاد، انتهى بمنافسة فريد شوقي في التمثيل، وبسبب كل ذلك، قررت الانتقال إلى الخطة «ي» مباشرة. وواضح أن الخطة «ي» ليس بعدها أي خطة، وتقضي بأن أصدر الكتب مهما كانت النتيجة، مع التخلي عن كل ألاعيب الترويج، لأن هدفي لم يعد الحصول على قراء، ولا التخلص من الكراتين، وإنما في أن أوثق ما كتبته في كتب تعيش بعد وفاتي غير مأسوف عليّ. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©