الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مسلسل الدم

مسلسل الدم
31 أكتوبر 2013 21:44
وقعت مشاجرة في السوق بسبب خلاف على البيع والشراء، اختلط فيها «الحابل والنابل»، استخدمت فيها العصي و«الشوم» والحجارة وأوتاد الخيام، وشارك البعض في المعركة للمجاملة لطرفيها واتسعت الرقعة، وتدخل آخرون لا ناقة لهم فيها ولا جمل، غير أنهم فوجئوا بإصابتهم بلا قصد فلم يسكتوا ولم يسامحوا وقرروا التدخل، حتى لا تضيع هيبتهم في المكان الذي يرتادونه مرة كل أسبوع أكثر من ساعة والضربات تأتي من هنا وهناك، ومن كل حدب وصوب، بعدها تدخلت الشرطة والعقلاء والكبار، وتمكنوا بعد جهد جهيد من فض الاشتباكات، لكن الحصيلة من الإصابات، كانت أكثر من أن تحصى وبالفعل لم يتم إحصاؤها بشكل كامل، لأن معظمهم لم يتوجه إلى المستشفيات للعلاج وفضلوا التداوي على حسابهم الخاص أو بطريقة بدائية. الرجل العجوز النتيجة المفزعة التي لم تدع للصلح مكاناً، وتسببت في تعقيد الأمور مقتل ذلك الرجل العجوز، الذي لفظ أنفاسه بعد ضربة على الرأس، لا يعرف أحد على وجه التحديد من أين جاءت، ولا من الذي وجهها إليه ولم يتم اتهام أحد بارتكاب الجريمة بسبب شيوع الاتهام، كما لا يوجد شاهد عيان محدد على الجريمة، فراح دمه هدراً، لكن ابنه الشاب الذي كان في العشرين من عمره ويدعى «البربري» اتهم الطرف الآخر في المشاجرة بقتل والده وتعهد بالثأر له، وأعلن ذلك على الملأ ليشيع الخوف والرعب في نفوس من اتخذهم خصوماً. كانوا عبارة عن جماعة من الأقارب والأصهار يقيمون في تجمع سكاني مستقل لا يدخله الغرباء، منطقتهم اسمها «العزبة» ومعظمهم يعملون في التجارة المحدودة أو جمع القمامة، واستطاعوا أن يجمعوا ثروات طائلة وتصبح لديهم بنايات شاهقة وسيارات فاخرة وأموال يحتفظون بها في بيوتهم فهم لا يعرفون طريق البنوك، ولا التعامل بالشيكات وغيرها من الوسائل المصرفية، ورغم ذلك كله فإن الناس من حولهم يتعاملون معهم على أنهم أناس من الدرجة الثانية، ولا يقيمون لهم وزناً ولا يصاهرونهم، ولذلك كانوا يحاولون أن يزيلوا الشعور بالنقص الذي يلازمهم، ويغيروا تلك النظرة المتدنية إليهم ويفتعلوا المشاجرات والمعارك، ليثبتوا وجودهم ويظهروا قوتهم، لكن «البربري» تحداهم رغم ضعفه أمامهم فقد كان دم أبيه عنده غالياً ولن يفرط فيه. ثأر دموي حدث ذلك منذ أكثر من ثلاثين عاما، لكن كان يوما له ما بعده كان بداية لمسلسل ثأر دموي طويل وشهدت المنطقة خلال هذه السنين أحداثاً كثيرة كانت كلها أكثر بشاعة من بعضها وتزداد تصعيداً. اشترى البربري سلاحاً يحمله أينما حل أو ارتحل ويلازمه في يقظته ونومه وفي المقابل لم يأمن الآخرون وأخذوا حذرهم وعدتهم وتربص بهم كثيراً، لكنه لم يستطع أن «يصطاد» أحداً منهم- على حد تعبيره- فهم في الغالب يجعلون لهم عيوناً تسبقهم في كل مكان يريدون الذهاب إليه ويرصدون تحركاته حتى لا يقعوا في أي فخ ينصبه لهم حتى مضت خمس سنوات، ولم يصل إلى هدفه فاعتقدوا أن عزمه قد فتر وقناته لانت وتراجع عن تهديداته واعتبروها فقاعات في الهواء بلا قيمة وتخلوا عن بعض حذرهم، فنصب لثلاثة أشخاص منهم كميناً وقتلهم مرة واحدة وأقام احتفالاً كبيراً بذلك أراد أن يعلن للقاصي والداني أنه وراء هذه الجريمة ثأراً لأبيه واسترداداً للكرامة، وذلك على عكس ما يفعله أي مجرم من محاولة التهرب والتنصل من الجريمة وحتى عندما ألقي القبض عليه تحدث بطريقة مختلفة فقد اعترف بالتفصيل بما جرى وتم تقديمه للمحاكمة وقضت المحكمة بمعاقبته بالسجن المؤبد والأهم أنه تحول إلى بطل في منطقته وذاع صيته وأصبح حديث الناس الذين اعتبر بعضهم جريمته شجاعة وعملاً جيداً. شديدة الظلام غاب البربري في السجن مع مرور السنين التي كانت تمر عليه ثقيلة بطيئة ويتمنى اليوم الذي يخرج فيه إلى النور والحرية، لكنها طويلة مملة وراء القضبان وفي الزنزانة شديدة الظلام وفي الخارج ساد هدوء حذر، فمازال أهل «العزبة» يطلبون ثأر اثنين من رجالهم بعد أن حسبوا رأساً برأس، ولكنهم يريدون رأس البربري تحديداً وليس أحداً غيره ويتذرعون بالصبر، فإذا كانت الأيام عنده لا تمر في السجن فهي كذلك عليهم أيضاً، وهم يتعجلون خروجه للانتقام، ومع ذلك فقد مضت الفترة التي كان فيها سجيناً بهدوء وعاد الناس لأعمالهم ونسوا ما حدث كله وقد تغيرت الأجيال ومات كبار السن وجاءت أجيال جديدة، فمدة حبسه ربع قرن كامل بالتمام والكمال، لكن السواد الأعظم من الشهود على الأحداث والمعاصرين لها مازالوا على قيد الحياة ويعرفون كافة التفاصيل وينتظرون أو يتوقعون المزيد من الأحداث الدامية وبخبرتهم ومعرفتهم لظروف وتقاليد منطقتهم يعرفون أن ما حدث بداية وليس نهاية، لذلك لم يخفوا مشاعرهم أو مخاوفهم من القادم الذي يرونه أنه الأسوأ، ومن هنا الترقب لموعد انتهاء فترة عقوبة البربري لأنها تشكل البداية الجديدة المنتظرة. ومهما كانت الأيام والأعوام طويلة مديدة فإنها لها نهاية ولا تتوقف وتمضي تباعاً يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وسنة تلو سنة، وانتهت فترة العقوبة بعد خمس وعشرين سنة، وخرج البربري إلى النور والحرية، وبدلا من أن يبدي ندمه على ما حدث ويغلق صفحة العداوة المفتوحة تزوج من أرملة ثرية تملك ملايين الدولارات وسلمت له كل أموالها يتصرف فيها كيفما يريد بعد أن أعجبت ببطولته، وكان كذلك في عينيها واتجه إلى القوة وقام بإجبار الكثيرين من خصومه على بيع منازلهم وأرضهم له وبثمن بخس وعلى الرحيل، فتسبب بذلك في إشعال النيران في الصدور وزادت العداوة أكثر وكثر الكارهون له والذين يريدون التخلص منه عاجلاً، ولم يعودوا يطيقون صبراً لوجوده ولا لتصرفاته التي فاقت الحدود وبدأوا يتربصون به، لكنه كان ماكراً وحذراً وحوله عدد كبير من الحراس يرافقونه مثل ظله في كل تحركاته ولا يفارقونه إلا عند النوم. أهل العزبة وجاءت حلقة جديدة من مسلسل الدم والانتقام وعقد «أهل العزبة» العزم على التخلص من البربري الذي خرج من السجن جزاء لما ارتكبت يداه من قبل ومن بعد، ولكن مهمتهم كانت في غاية الصعوبة أمام تحصيناته والاحتياطات التي يتخذها كما كانوا يفعلون من قبل عندما يترصد خطاهم، ولكن في النهاية جاءوه بليل وتسوروا بيته كانوا ثلاثة من الشباب الذين تحدوا الأوضاع في الظلام دخلوا عليه حتى غرفة نومه أمطروه بالرصاص وفي لحظات فارق الحياة وتنبه حراسه الخصوصيون وتم تبادل النيران فقتلوا اثنين منهم وعاد القتلة سالمين بعد تنفيذ مهمتهم التي وصفوها بأنها انتحارية لخطورتها، وإن كانت تلك نهاية البربري فقد كانت في نفس الوقت حلقة وصل في المسلسل الانتقامي بعدما توهم الكثيرون أن منطقتهم سوف تنعم بالأمان والاستقرار بعد أن تم التخلص من الطاغية الذي كدر صفو الحياة كلها وكان مثل الشبح يخيف الكبار قبل الصغار والرجال قبل النساء. قام أقارب البربري بإعلان «الحرب» على خصومهم وتوعدوا بالانتقام لكبيرهم الذي قتلوه، وإن كانت يداه قد اقترفت نفس الجرم من قبل وتخضبت بالدماء، لكنهم لم يقتنعوا ورفضوا كل مساعي الصلح، لم يقبلوا كل العروض التي تم تقديمها لهم ويشعرون بأنهم فقدوا رجلاً لا يعوض ولو بمئة رجل ولا يشفي غليلهم العشرات في مقابله، وأعادوا الأيام السوداء وخيم الرعب والموت يطل برأسه من جديد ولا يعرف من الذي سيكون الضحية القادمة، ولا أحد يستبعد نفسه والخطر يحيط بهم جميعاً ولا يفرق بين مجرم وبريء ولا يحدد المطلوبين، وإنما قد يصل إلى أي شخص. أول جريمة تم تكوين فرقة للقتل والانتقام تأخذ بثأر كبيرهم البربري مهما كلفها الأمر من تضحيات ولو كانت حياتهم، ويدخل النمامون والوشاة في المنتصف ليزيدوا النيران اشتعالاً ويسكبوا عليها البنزين حتى لا تنطفئ، والقتلة هذه المرة لا يريدون شخصاً واحداً، إنما يريدون عدداً من الرجال كي يشفى غليلهم وخططوا ودبروا وفكروا وقرروا أن السوق الذي شهد أول جريمة منذ أكثر من ثلاثين سنة هو الذي سيكون مسرحاً للجريمة الجديدة، وصنعوا كميناً في الظلام قبل أن يحضر أي شخص إلى السوق واختفوا خلف الأسوار وانتشروا في الزوايا وبعد أن انتهى المصلون من أداء صلاة الفجر بدأ الباعة والتجار والمشترون يتوافدون تباعاً إلى السوق ومعظمهم من الخصوم أهل العزبة، وما أن كثر العدد حتى جاءت الإشارة بإطلاق النيران ودوت أصوات الرصاص لا تفرق بين شخص وآخر. تحولت السوق إلى مذبحة وتساقط الرجال والنساء على الأرض وسط بركة من الدماء ولم تستغرق العملية أكثر من عشر دقائق، لكنها خلفت وراءها خمسة عشر قتيلاً وعشرات الجرحى في مشهد لا يختلف عن مشاهد المعارك الحربية وألقي القبض على المتهمين، لكن السؤال المهم أنه لم يعد أحد يعرف متى وكيف تكون نهاية هذه السلسلة الدامية وهل تستمر لغة التصعيد أم تخمد النيران؟ لا أحد يعرف الجواب.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©