الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النهاية مثل البداية

النهاية مثل البداية
19 أكتوبر 2012
نورا محمد (القاهرة) - منطقتنا متوسطة المستوى في المعيشة، معظم سكانها فقراء، قليلون هؤلاء الذين يعيشون في رغد العيش، لا يكادون يعدون على أصابع اليد الواحدة، لكن الجميع راضون بحالهم ويحمدون الله على ما هم عليه، نشأت في هذه الظروف التي لم نكن حينها نشكو منها ولا نئن، ونعتبر أن الحياة كذلك، ليس لدينا تلفاز ولا مذياع، فقد كان ذلك من الكماليات والترف الذي لم نلحق به ولا حتى نحلم بالوصول اليه، اجتهدت في دراستي كي أتخطى تلك الظروف، وكان لها أثرها على حياتي، فلم أكن من المتفوقين وإنما في نفس الوقت أحصل على درجات عالية. كنت كبرى أخوتي الخمسة فنحن ثلاث بنات وولدان، لذلك تحملت مع أمي تربيتهم جميعا وكنت لهم الأم الثانية، وكانوا يعاملونني كذلك، وكما أحيطهم بالرعاية والاهتمام يحيطونني بالاحترام، ما يكدر صفونا ما نراه من إجهاد يصيب أبانا عندما يعود متأخرا كل يوم ولا يستيطع أن يقف على قدميه من شدة التعب بعد عناء يوم طويل، ومع ذلك لم أره ولم أسمعه يوما يتحدث عن ذلك وإنما يحاول قدر جهده أن يخفي آلامه كلها، وأنا وأخوتي جميعا نتفانى في خدمته ونحاول ان نخفف عنه لكنه يشفق ويحنو علينا ويرفض أن يطلب شيئا. أمي لا تعرف في الدنيا إلا أن تغسل الملابس وتنظف الدار الصغيرة وتعد الطعام الذي يكون في الغالب جافا، أما المطهو فإنه إذا وصل أحيانا الى حد الترفيه يكون نوعا من الفول أو العدس، بينما اللحوم لا تدخل البيت إلا مرة في السنة، في عيد الأضحى حيث نستعد لها ماديا قبلها بكثير حتى نكون في هذه المناسبة مثل من حولنا، ونشتري أنواعا مما يطلق عليه اسم «المستورد» أي الرخيص الثمن القليل الجودة. لم أقف مكتوفة الأيدي في هذه الظروف وعرضت على أبي ان أعمل في اي مجال، لكنه في كل مرة يرفض وألح في الطلب كي أساعد في مواجهة أعباء الأسرة، وأخيرا اقتنع بان أعمل لدى تاجرة للخضروات والفواكه أقوم بتنظيف المحل وأساعدها في ترتيب وتنسيق البضاعة أو توصيل الطلب الى سيارة الزبون، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد وإنما تطلب مني ان أقوم بتنظيف منزلها القريب، وأحمل البضائع من السيارات الى المحل وهي حمولات ثقيلة لا يقوى جسدي النحيل الضعيف على حملها، ولا أستطيع أن أرفض أو أناقش، وفي نفس الوقت أتحمل كي لا تضيع الفرصة مع انها لا يجوز ان يطلق عليها فرصة لأن ما أتحصل علي من أجر لا يساوي عشر المجهود المطلوب مني لدرجة أنني أصبحت أعود منهكة أكثر من أبي وارتمي على الفراش وأغرق في النوم خلال دقائق معدودة، وقد تأثرت دراستي بسبب هذه الظروف، لكني كنت حريصة على ألا أفقدها، فمهما كان العائد قليلا فنحن في أشد الحاجة إليه، وظل ذلك لعدة أشهر الى ان شاهدني أبي وانا أتصبب عرقا في الشتاء من المجهود والحركة، مثل النحلة لا أتوقف، فاتخذ قراره الحاسم بأن أترك هذا العمل فورا لأنه أقرب الى السخرة. عدت الى البيت مرة أخرى وأنا لست سعيدة بذلك رغم التعب الذي كنت أعانيه، فالحاجة أشد منه وبالنسبة لفتاة مثلي فإن الحصول على فرصة عمل من ضروب المستحيل فلم أنته بعد من دراستي الثانوية، وليس لدي ما يؤهلني لأي عمل خاص او عام، لذا فإن البحث يكون في غاية الصعوبة وفي أعمال غاية في القسوة، خاصة من أصحابها الذين لا تعرف قلوبهم الرحمة كأنهم يستعبدون أمثالنا، فيستغلون ظروفنا ويمارسون معنا كل أنواع القهر والإذلال، وتحملت ذلك كله في عدة أماكن مختلفة. انتقلت الى الجامعة، وكانت البداية غير مطمئنة، فأنا لا أجد اي ملابس جديدة أو قديمة كي أذهب الى دراستي وجاء الفرج عندما كان أبي في زيارة لعمتي ومنحته بعض الملابس القديمة الخاصة بابنتها التي تكبرني بعدة أعوام وأيضا فإن وزنها ثلاثة أضعاف وزني ويزيد لأنهم يعيشون في حال أفضل منا بكثير، وعمتي تلك كانت تحبني بالفعل مثل بناتها وكثيرا ما كانت تساعدنا قدر استطاعتها لكنها كانت تقيم في مدينة بعيدة وقد ألتقي بها مرة كل سنتين أو ثلاث لبعد المسافات ولضيق ذات اليد والانشغالات الحياتية من الطرفين، كما أن زوجها سليط اللسان، كلماته مثل السوط، وجارحة مثل السكين، فلا يتورع عن أن يعير عمتي بفقرنا، وقد نشبت خلافات كثيرة بسبب تصرفاته تلك. كانت الملابس التي بعثت بها عمتي مثل الغيث أنقذت الموقف كله، وتوجهت الى سيدة تعمل بالحياكة كي تقوم بضبطها بالقص والتقصير لتناسب جسدي النحيل، وتوجهت الى الجامعة بتلك الملابس القديمة والتي لا يخفى منظرها على أحد، وأكاد أشعر بأن الجميع يعرفون أنها لا تخصني وان فتاة أخرى تصدقت بها عليّ، هنا في مجتمع الجامعة ظهرت الدنيا بوجه آخر لم أكن أعرفه من قبل، المحراب الذي كنت أظنه للعلم والبحث وليس فيه إلا المكتبات والبحوث والمحاضرات والدراسة، وجدته معرضا مفتوحا للأزياء، وعالما آخر غير الحياة التي نعيشها، وبلا مبالغة فإنه حتى اللغة التي يتكلمونها تختلف عن لغتنا، فكثيرا ما يتحدثون عن أشياء لم أسمع عنها من قبل، ومسميات غريبة وتعاملات أغرب، هنا تظهر بوضوح الفوارق بين الطبقات، فيتأكد أن هناك أناسا يعيشون لكنهم في الحقيقة مثل الأموات لا يحصلون على اي شيء مما في الحياة حتى أهم الضرورات، وهناك آخرون يحصلون على كل شيء بلا مجهود. تلك الأحوال والظروف جعلتني لا أجد من يقترب مني أو أقترب منه، إلا قليلا ممن يشفقون على حالي لكنهم لا يستطيعون فعل شيء نحوي لأنني لا أنتظر ولا أقبل أي مساعدة من أحد مهما كان نوعها. لم أكن أحقد على الآخرين، لكنني أفكر وأتمنى ان أعيش ولو على هامش الحياة لا تحت التراب، لي نفس بشرية تتمنى وتطمع وتهفو نحو مستقبل أفضل، أظن أن الأحلام ليست ممنوعة أو محرمة على أمثالنا، والخيال أيضا مباح حتى لو حلق بعيدا جدا عن الواقع وذهب الى عالم اللامعقول، فهو لا يضر أحدا ولا يعود بنتائج سلبية إلا إذا كان صاحبه مريضا، او دخل به في المحظور وحاول ان يصدق او يسير في الواقع على الطرق الخاطئة التي قد ترسمها تلك الخيالات، وأنا لست كذلك، وانما حتى في أحلامي لا أبالغ ولا أذهب بعيدا عن الواقع ربما لأنني أخشى إن ابتعدت ان أتوه وأضل طريق العودة وانا لم أترب على ذلك، أعرف كيف أحافظ على القيم والأخلاقيات التي نشأت عليها وجاهدت وعانيت من أجلها كثيرا. بمرها قبل حلوها مرت سنوات الجامعة أسبوعا أسبوعا ويوما يوما وربما ساعة ساعة، مع المعاناة المادية التي كانت تؤرقنا، خاصة أن ثلاثة من أخوتي كانوا في التعليم، وقد خرج بعضهم للعمل مثلما حاولت انا من قبل، للمشاركة في مواجهة الاحتياجات، ها انا قد حصلت على شهادة لكنها ليست من الشهادات المطلوبة في سوق العمل في هذا الزمن الذي يعتمدون فيه على الكمبيوتر الذي أسمع عنه فقط وأراه في أيدي الاخرين ولا أعرف ماذا يمكن أن يفعلوا به ولا كيف يستخدمونه وربما لا أعرف الفرق بينه وبين الموبايل مثلا، لكن يمكن بشهادتي ان أعمل موظفة في اي عمل إداري او معلمة للغة الأجنبية. بدأت رحلة البحث عن فرصة عمل لكن الواقع كان أكثر مرارة بما يفوق الخيال، كل الأبواب موصدة أمام أمثالي الذين ليس لهم وساطة ولا جاه، وكدت استسلم لليأس وينقطع الأمل والرجاء حتى ظهرت من بعيد نقطة ضوء في نهاية النفق المظلم، فوجئت بابن عمتي يأتي ليطلب يدي للزواج، وقد أفصح صراحة عن إعجابه بي وانه يكن لي مشاعر الحب، ولم يكن عليه أي تحفظ إلا أخلاق أبيه وسلاطة لسانه، وقد أفصحت عن ذلك لأبي، وتم الاتفاق أخيرا على أنني سأعيش في بيت مستقل. تمت الخطبة رسميا وفي نفس الليلة وجدت والد خطيبي يلقي بشروطه القاسية على أبي كأنه يريد أن يعجزه ليفسخ الخطبة وهو يطلب أو بالأحرى يأمر أن نشارك في كافة مصروفات الزواج مناصفة، وقد قبل أبي حتى لا يكسر خاطري لأنه علم أنني راغبة في ابن عمتي وأبادله المشاعر، بدأت رحلة البحث عن عمل من جديد، وكانت النتيجة هي نفسها مكررة كما في السابق، لم أهتد الى أي وظيفة تناسبني، والوقت يمر سريعا ونحن بحاجة الى الكثير من المال من أجل الجهاز. عدت الى ما قبل نقطة الصفر لأبحث عن عمل من تلك الأعمال التي كنت أعمل بها وانا طالبة، ووجدت عملا في مطعم كبير مشهور، دخلي منه أفضل من أي وظيفة، ومنه عرفت انا وأسرتي طريق النقود، لكن هذا العمل كان سريا بعيدا عن خطيبي وأسرته، حتى لا تصيبنا سهام زوج عمتي، لكن وقع المحذور وعلموا بذلك، والمفاجأة أن خطيبي اعتبر ذلك نوعا من الخداع الذي يصل الى درجة الخيانة، لأنني عملت من وراء ظهره ومن دون علمه، وبلا تفكير أو تردد أعلن فسخ الخطبة وأرسل يسترد الشبكة الرمزية التي اشتراها لي، وكانت أكبر صدمة في حياتي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©