السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السعادة الضالّة...

السعادة الضالّة...
12 نوفمبر 2014 21:50
أصبحت قيمة السعادة تشكل يوما بعد يوم موضوعا يكتسي أهمية خاصة بالنسبة للإنسان المعاصر، الذي بدأ بالفعل يشكك في ما تقدمه له الحضارة من أشياء تدعي أنها السبيل الوحيد لتحصيل السعادة. هذه الأشياء هي مجموع المعدات التي تسهل له حياته وتخلق له نوعا من الراحة والرفاهية مثل التلفاز، المحمول، السيارة... أي ما يمكن تسميته بالسعادة المدجنة، بالإضافة إلى الأكل والملبس وكل ما له علاقة بالحياة الرغدة، وكلها أمور أصبحت الحضارة المعاصرة تتفنن في توفيرها للجميع وبثمن قد يكون في متناول أغلب الناس. الفاهم محمد هل السعادة المرتبطة بالمظاهر المادية والعدد التقنية من شأنها أن تمثل بالنسبة للإنسان سعادة حقيقية؟ هل تكمن السعادة فقط في إرضاء الجانب المادي أم أن هناك جوانب أخرى ينبغي استحضارها حتى تكتمل سعادة الإنسان؟ كيف يستقيم القول في السعادة وهي من الكمالات في عالم كثرت فيه المآسي والأحزان والكوارث، وأصبح فيه الإنسان تائها حيرانا كالطفل الضائع كما وصفه بودلير؟ حكاية قميص السعادةهناك حكاية تروى في الأوساط الشعبية تقول: إن ملكا أصابه مرض غريب جعله مهموما بئيسا لا يعرف النوم ولا الراحة، فاستشار أطباءه، فوصفوا له الأدوية والعلاجات المتنوعة، لكنها عجزت عن شفائه. بدأت صحة الملك تتدهور، وفقد شهيته ورغبته في الحياة، وأخذ ينزوي وينطوي على نفسه وكأنه يستسلم لمرضه. وفجأة جاءه أحد الحكماء المقربين من حاشيته بنصيحة تماثل في غرابتها غرابة مرضه، إذ قال له: أيها الملك الجلي لا يمكنك أن تشفى من مرضك بالأدوية التقليدية التي يصفها لك أطباؤك، إن مرضك يتعلق بنفسك ولا بد له من علاج مغاير. ابحث عن رجل سعيد في مملكتك واطلب منه أن يمنحك قميصه ثم البسه لمدة من الزمان وبعد ذلك سوف تشفى من مرضك بإذن الله تعالى. فانطلق الملك يجوب مملكته باحثا عن هذا الرجل السعيد، وكلما سأل شخصاً أجابه: أنا يا مولاي سعيد ولكن ليس إلى الدرجة التي تطلبها، إذ أن عندي مشاكل تتعلق بالأطفال أو المال أو ما إلى ذلك من أمور الحياة. ظل الملك يبحث، وكلما سأل رجلاً سمع الجواب نفسه حتى ظن أنه لن يعثر على مثل هذا الرجل السعيد، فقفل عائدا إلى قصره وقد أعياه البحث وسيطر عليه اليأس، غير أن ذلك الحكيم أشار عليه بنصيحة أخرى قائلا: أيها الملك الجليل ثمة رجل يسكن في ذلك الجبل البعيد وهو رجل سعيد ولا شك وسوف لن يبخل عليك بقميصه. فانطلق الملك مرة أخرى إلى الجبل تساعده حاشيته حتى وصل الرجل، فوجده شيخا طاعنا في السن يسكن كوخا متواضعا ويقوم بحراثة قطعة من الأرض. حكى له الملك قصته وطلب منه قميصه، فقال الرجل: أيها الملك الجليل أنا بالفعل رجل سعيد، حياتي كلها بهاء وصفاء وغبطة وسناء، ولكنني كما ترى لا أملك قميصا يليق بمقامك أمنحه لك، لأن كل ما أملكه هو هذا الكوخ وهذه الأسمال البالية فلو أردتها وقبلتها مني فهي لك. فهم الملك ما قصده الحكيم، وعرف أن السعادة لا تتعلق بالحياة الرغدة والخدم والحشم. فهذا الرجل المسن سعيد رغم أنه لا يملك حتى قميصاً كاملاً يرتديه. وأن ضيقه وقنوطنه (الملك) سببه أنه لم يعد يشعر بحافز داخلي يدفعه إلى الحياة، وأنه استكان إلى حياة الكسل وقلة الحركة مما سبب له هذا الاكتئاب. إن حكاية «قميص السعادة» هذه تنطبق بشكل كبير على وضعية الإنسان المعاصر الذي غرق في هذا الترف القاتل الذي يحيطه، معتقداً أن السعادة تكمن فقط في الجانب المادي متناسيا الجوانب الأخرى الفكرية والروحية والجمالية. السعادة كامتلاء بالرغبات عادة ما نعتبر أن الإنسان كائن عاقل؛ أي كائن يتحكم فيه بالأساس العقل والمنطق، سواء في تفكيره أو في سلوكه، ولكن الإنسان مع ذلك يمتلك طبيعة مزدوجة لأنه في نفس الوقت لديه ميول تجعله يتجاوز الحدود التي يفرضها عليه هذا العقل والمنطق، وهي ميول تدفعه إلى معانقة الممكن ضد ما هو واقعي، والتحليق في الخيال مقابل ما يفرضه المحسوس، والاندفاع إلى رحابة المستقبل رغم ضيق مساحة اللحظة. السعادة إذن هي هذا الإحساس بالامتلاء الروحي والوجداني الذي يمنحنا حب ما نريد أن نفعله. هناك فرق أساسي كما هو معلوم بين الرغبة والحاجة؛ فالحاجة لها علاقة بالجانب المادي من الإنسان، أي أنها تشبع الجهاز الفيزيولوجي بالأساس، الحاجة إلى الطعام مثلا. أما الرغبة فلها علاقة بالجانب النفسي: الرغبة في سماع الموسيقى. ثم إن الحاجة قابلة للإشباع بمجرد الوصول إلى موضوعها، فالحاجة إلى الطعام مثلا تنتهي بمجرد الأكل، أما الرغبة فهي لا متناهية الإشباع: حتى وإن استمعت إلى الموسيقى فأنت تظل دائما في رغبة إلى المزيد منها، وحتى لو سافرت تظل دائما الرغبة في السفر قائمة لديك، وحتى لو طالعت الكتب تظل كذلك الرغبة في مطالعة المزيد من الكتب مستقرة فيك. كما تختلف الرغبة عن الحاجة في طريقة تفاعل الإنسان معهما، إذ الحاجة يمارسها الإنسان مرغما إما بدافع الضرورة البيولوجية: الحاجة إلى الطعام، أو بدافع الضرورة الاجتماعية: الشغل والحاجة إلى المال. أما الرغبة فيميل الإنسان إليها من تلقاء نفسه دون أن يشعر بأي ضغط خارجي عليه حتى وإن كان ما يفعله مرهقا من الناحية الجسدية. أن تتحول الرغبة إلى حاجة فهذا هو ما يميز طبيعة حضارتنا. أصبح الإنسان يشبع ذاته من الناحية المادية ويهمل الجوانب النفسية والمعنوية، كما أنه يعيش حياته برمتها يمارس ما يقوم به مكرها عليه، لذلك نجده دائما ضجرا، متبرما، يوزع شكواه ذات اليمين واليسار، يعوزه الإحساس بعمق الحياة ودفئها. إن الشعور بالفراغ الذي أصبح يميز شخصية الإنسان المعاصر مردّه، إذن، أن تحول الرغبات بالنسبة إلى الإنسان إلى مجرد حاجات، فالأسرة والعمل والمقهى أصبحت اليوم مقابر غير معلنة أو منافي اجتماعية، أحيانا اختيارية وأحيانا قسرية يدفن فيها الإنسان نفسه وينسى ذاته حتى يتحول إلى كائن مستسلم منبطح. غير أن الإنسان كما يقال هو: «باقة من الرغبات» ولا يمكن أن يترك هذه الباقة تذبل أمام الرياح الجافة للواقع المعاصر. نحن نعيش حاليا حضارة حاجات لا حضارة رغبات وهو أمر يتضمن اختزالا شديدا للكائن البشري في قواه ومداركه الحية. السعادة إذن هي امتلاء روحي عميق وشغف ورغبة دفينة بالحياة. إنها الأمل الذي نتشبث به حين نواجه الإحباط بثقة في المستقبل، ذلك أن الرغبة تجعلنا أحرارا نسمو فوق ذواتنا ونتجاوز الحدود الضيقة التي وضعتنا فيها الطبيعة. السعادة في التسامييرى فرويد أن هدف الحياة هو بلوغ السعادة وأن هذه الأخيرة تتحقق من خلال مبدأ اللذة، غير أن الواقع بكل قساوته يبدو كما لو أنه موجه ضد هذا المبدأ، لا بل الكون برمته يظهر وكأنه ركب حتى لا يكون الإنسان سعيدا. يقول: «تساورنا الرغبة في القول أنه لم يدخل في خطة «الخلق» البتة أن يكون الإنسان سعيدا» (1)، ولكن رغم هذه النظرة التشاؤمية ألم يكن التحليل النفسي في مجمله نظرية موجهة من أجل السعي لتأسيس سعادة الفرد عن طريق الاهتمام بمسألة السمو والتعالي التي كان يسميها بالتسامي. السعادة إذن هي تعالي الذات على المادة، ولكن التعالي الذي لا يؤدي إلى المفارقة لأن الإنسان كيفما كان الحال لا يمكنه أن يستقل كلية عن المادة، لأنه لا يمكن أن يضمن لنفسه عيشا كريما بدون المادة. إن التعالي المقصود هنا هو التحكم في المادة حتى لا تنقلب ضدنا فنصبح عبيدا لها مدمنين عليها. إن السعادة ستكون ضمن هذا السياق فن التوازنات، فن أن تكون سعيدا هذا الفن الذي رأى ألان أنه ينبغي تدريسه للأطفال. (2) ترتبط السعادة إذن بضرورة السمو الفكري للإنسان، ونحن لا نقصد أن يكون المرء مطلعا بعمق على مجموع الإشكالات المعرفية والعلمية لعصره، ولكننا نقصد أنه من الضروري أن يمتلك نوعا من الرجاحة العقلية التي تجعله متماسكا من الناحية الفكرية وكما قال نيتشة: «ان صيغة سعادتي هي نعم، لا، خط مستقيم هدف» (3). الأمر يتعلق، اذن، بنوع من الوضوح في الموقف فالرفض يعني الرفض والموافقة تدل كذلك على الموافقة أي أن يكون الإنسان حاسما في قبوله ورفضه، وواضحا في المنهجية التي يضعها لحياته والهدف الذي يسعى إليه. إن الفكر هنا لا يعود مجرد نظريات وتصورات نحشو بها دماغنا، بل سلوكات وتصرفات تنعكس علينا وعلى طبيعة علاقتنا بالآخرين، بمعنى أن المعرفة تتحول هنا إلى فن للحياة. فالسعادة تقتضي أن يمتلك الإنسان ما يمكنه من تقبل إحباطات الحياة. بطريقة أخرى ليست السعادة أن يفكر الإنسان بمنطق في الحياة، ولكن أن يفكر في منطق الحياة، وأن تكون له القدرة على تفهم هذا المنطق والتفاعل معه. أليس لهذا السبب نجد الكثير من المثقفين والمفكرين غير سعداء في حياتهم.. بل إن العديد منهم انتهى نهاية مأساوية، ذلك أنهم كانوا يعيشون في فضاء خاص هو فضاء الأفكار التي صنعتها الكتب والمذاهب، وكان حري بهم أن يدركوا أن السعادة تقتضي الانخراط في تيار الحياة. ليست السعادة أيضاً، ذلك المطلق الذي ينتظرنا بعد نهاية مشوار طويل نقطعه من التعب والمعاناة، بل إنها مجمل النشاط الذي نقوم به في بحثنا عنها هنا والآن في هذه اللحظة، وهنا تكمن قوة الأبيقورية التي تنظر إلى السعادة كاكتمال في الحاضر وليس السقوط في حالة سلبية انتظارية. يكون الإنسان سعيدا وهو يكافح من أجل مستقبل أبنائه، ويكون سعيدا وهو يناضل من أجل مستقبل سياسي أفضل لبلده، ويكون سعيدا أيضا وهو يقاوم من أجل اثبات ذاته في المجتمع وانتزاع الاعتراف به... هكذا فالسعادة تكمن في البحث عن السعادة، وفي تقبل معاناة السير نحوها. بعض الناس يؤسسون عوائق التخلف الذاتي لأنفسهم ولا ينتظرون من يسبب لهم ذلك. هم دائما متجهمون ساخطون ناقمون على الأوضاع، لا يرون أبدا الجانب المشرق من الأشياء وكأنهم بذلك يريدون الظهور للآخرين بمظهر المثقف العارف ببواطن الأمور التي لا يستطيع العامة رؤيتها. مثل هؤلاء في نظر ألان هم أعداء أنفسهم يقول: «لا يوجد رجل لا يستطيع أن يجد في هذا العالم عدوا أخطر منه غير ذاته هو» (4). بدل ذلك فليكن الإنسان دائما منشرحا بشوشا وليمتنع عن الحديث عن مآسيه ونشر غسيله أمام الآخرين. إن المرء بذلك يعتقد أنه يبحث عن تعاطف الآخرين معه، لكن هؤلاء في الحقيقة لا يزيدون إلا نفورا منه حتى وإن أبدوا ذلك التعاطف أمامه ضمن ما يصطلح عليه حاليا بالنفاق الإجتماعي. ضمن هذا المنحى فإن السعداء هم من يبدون السعادة ويرسمون البسمة على وجوههم حتى وإن كانت الملمات تحيط بهم. (5) إن السعادة كما الشقاء تصنعهما أشياء صغيرة وتفاصيل قد تكون أحيانا تافهة في حياتنا اليومية. إن جلسة شاي حميمية مع أصدقاء الأمس بإمكانها أن تنسيك هموم الحياة، وكلمة مجاملة من زوجتك قد تمسح عنك تعب يومك، وابتسامة شكر من زبون خدمته بإخلاص من شأنها أن تزيل عنك شقاء الروتين اليومي لوظيفتك. والعكس صحيح أيضا بعض الفروقات الصغيرة قد تعكر صفاء يومك بدءا من محرك سيارتك المتهالك والذي لا يعمل إلا بمشقة، إلى الصديق الذي لا يحترم مواعيده معك، ومرورا بالأبناء الذين لم يحصلوا على نتائج حسنة في امتحاناتهم... ويبدو أن الإنسان كائن هش أمام ما يفرحه أو يحزنه، ولكن كيفما كان الحال فإن السعادة لا تسقط علينا من فوق كنعمة سماوية. وقد قال راسل في هذا السياق: إن السعادة ليست إلا في حالات نادرة جدا: «شيئا يسقط في الفم مثل الثمرة الناضجة» (6). رهانات مصيريةبالنظر إلى انحطاط النوع البشري، وتدهور قواه ومداركه الحية، وتراجع الحس النقدي لديه، فإن العمل على تحفيز النشاط الإدراكي لديه، ورفع درجة الانتباه والقدرة على بلورة الرفض الواعي تبدو رهانات مصيرية إذا ما أردنا أن ننقذ الإنسان من هذه الحياة الشكلية أو هذه اللاحياة كما يصفها إريك فروم (7)؛ فالإنسان المعاصر أصبح في قبضة الآلة والنظام البيروقراطي. إنه خاضع لما يمليه عليه الكمبيوتر من قرارات، والنتيجة هي أن الإنسان نفسه تحول إلى مجرد قطعة غيار في هذه الآلة الكبيرة التي ندعوها بالمجتمع. والنتيجة التي ننتهي إليها هي أن الإنسان مات نفسيا حتى وإن كان يحيا هذه الحياة المادية المليئة بالإشباعات الحسية، هذه هي وضعية الإنسان المعاصر فهو يعيش في عالم بلا ممكنات، حيث البديل الوحيد المطروح أمامه هو المزيد من الاستهلاك والاستلاب. رغم ذلك، يعتبر بحث الإنسان عن السعادة بحثا عن الممكن، أي وعيا نقديا موجها للواقع، رغم أن هذا الأخير اليوم تكتنفه اليوم الكثير من الإستحالات. في المقابل نحن لا نعرف ما هو الممكن إلا بمجابهتنا للمستحيل. إذا ما ظل الإنسان المعاصر يطابق بين تحقق السعادة والواقع القائم، أي معتقداً أن السعادة هي انغماس في ما توفره حضارة الإستهلاك، فإن السعادة من ثمَّ ستخرج لديه من نطاق الممكن والإمكان لتصبح مراكمة للذات الحسية واستزادتها. عندما يطرح اليوم سؤال ما هي السعادة؟ يأتي الجواب: هي ما ينبغي الحصول عليه، جاه، سلطة، مال، أو بضائع يتم استهلاكها. بينما كان الجواب قديماً هو: هي ما ينبغي فعله. أي أن السعادة كانت مرتبطة بالعمل، وليس المقصود هنا العمل بمعنى الوظيفة التي يمكن أن يمارسها الإنسان داخل المجتمع، وإن كان العمل بهذا المفهوم من أسباب السعادة، خاصة إذا كان مصانا بظروف إنسانية. ولكن العمل الذي نرمي إليه ها هنا هو ذلك الذي ركزت عليه الفلسفة اليونانية ومن بعدها الإسلامية، وهو المرتبط بالمجهود الداخلي، أي فضيلة بناء الذات. فسواء عند أفلاطون أو الفارابي أو ابن سينا يظهر أن الإنسان السعيد لا بد أن يكون فاضلا، والفضيلة هنا هي حكمة عملية موجهة من أجل نحت الذات وتأثيثها داخليا بكل معاني القيم والجمال والخير. الهوامش1- فرويد: قلق في الحضارة، ترجمة جورج طارابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر الطبعة الأولى 1977 ص 23 2 - Alain propos sure le bonheur éditions Gallimard 1928 p 270 3 - فريدريك نيتشة أفول الأصنام ترجمة حسان بورقية، محمد الناجي. أفريقيا الشرق الطبعة الأولى 1996 ص 16 4 - ألان، نفس المرجع السايق ص 56 5 - ألان، نفس المرجع السابق ص 207 208 6 - برتراند راسل: غزو السعادة تعريب سمير شيخاني، دار الأمير 1995 ص 175 7 - إريك فروم ثورة الأمل، ترجمة مجاهد عبد المنع مجاهد، مكتبة دار الكلمة، الطبعة الأولى 2010 ص 18 باب النجار.. مخلّع! من المفارقات الغريبة التي يمكن أن نذكرها في هذا السياق أن ديل كارينجي صاحب الكتاب الشهير: «دع القلق وابدأ الحياة» وهو كتاب موضوعه الأساسي هو السعادة والصحة النفسية المؤدية إليها قد أنهى حياته منتحراً. لا بل يمكن أن نتحدث هنا عن اللائحة الطويلة للمنتحرين التي تضم كتاباً وفنانين ومشاهير لم تغنيهم ثروتهم أو شهرتهم أو الأضواء المسلطة عليهم من السقوط في الاكتئاب والانهيار النفسي، منهم، على سبيل الذكر فقط: فرجينيا وولف، خليل حاوي، مارلين مونرو، هيمينغواي ومؤخراً المغنية الإنجليزية الشهيرة إمي واينهاوس. الإنسان.. صيدلية متحركة يحاول الفكر الفلسفي المعاصر أن يعيد بناء عقلانية جديدة، تتجاوز صلف العقلانية الأنوارية التي لم تفرز سوى دمار الطبيعة. لذلك تبدو الحياة المعاصرة هائجة أكثر من اللازم، فالمرء يمضي من الوقت في سماع ضجيج الآخرين أكثر مما يمضي في سماع أنين ذاته. ومن كثرة الهموم والتوترات التي يحملها الإنسان على كاهله لا يجد راحة حتى في نومه، ولسان حاله يقول مع فرناندو بيساوا: «آوي إلى فراشي بدون حلم، بدون رفقة، بدون طمأنينة». لقد أصبح هذا الإنسان صيدلية متحركة فهو لا ينام ولا يستيقظ ولا يأكل إلا بواسطة العقاقير. إن لا إنسانية المدنية المعاصرة إلى فقدان الإحساس بالطبيعة، فليس من الغريب أن يصف الشاعر الإسباني لوركا ناطحات السحاب في نيويورك مشبها إياها بأعمدة من وحل. لفجر نيويورك /أربعة أعمدة من الوحل /وإعصار من الحمائم الزنجية /التي تتبلل في المياه العفنة /فجر نيويورك يئن /فوق المدارج الهائلة /باحثا عن الأشواك /عن الجدر الدرني للوعة الموسومة. ما من وصفة خاصة للسعادة لكن الطبيعة منجم لها ضع يدك في التراب قبل أن يوضع التراب عليك يمكن اختزال الحضارة المعاصرة في هذه المعادلة البسيطة: زحف الإسمنت على الخضرة، فالإنسان ما هو إلا سرطان الكرة الأرضية كما يقول فيلم ماتريكس. ولكن ماذا نعتقد: هل المدينة هي التي ستنقد القرية أم أن القرية هي التي ستنقد المدينة؟ هنا أيضاً يكمن الحجر السعيد للبهجة: أن تضع يدك في التراب قبل أن يوضع التراب عليك. إن الإنسان إذا أراد أن يكون سعيداً لبضعة أشهر عليه أن يتزوج، وإذا أراد أن يكون سعيداً لبضع سنين عليه أن ينجب أطفالًا، أما إذا أراد أن يكون سعيداً طوال عمره فعليه أن يعتني بالبستنة والغرس والطبيعة. إنها لمفارقة عجيبة تلك التي كشف عنها جان جاك روسو: كلما تقدمت الحضارة البشرية كلما تراجعت سعادة الإنسان، فروسو عكس فلاسفة القرن الثامن عشر الذين كانوا يؤمنون بفضائل التقدم الحضاري انتصب لوحده بينهم كي يشكك في طبيعة هذه الحضارة، ونادى بضرورة العودة إلى الطبيعة، ولكن علينا أن ننتبه هنا لأن العودة إلى الطبيعة عند روسو ليس المقصود بها ترك الحضارة والعودة إلى الحياة البرية بل المقصود بها العودة إلى الطبيعة الإنسانية الأساسية التي افتقدناها في زحمة التقدم والمتمثلة في الحرية والطيبوبة والسعادة. واضح إذن أن الإنسان إذا فقد العلاقة بالطبيعة سيفقد أيضاً العلاقة بذاته، واليوم كما لدينا تلوث طبيعي هناك أيضاً تلوث بشري، أي تلوث يصيب النفوس البشرية المنهارة والتي ما عادت تعرف طريقها نحو صفاء السريرة. بمعنى آخر إنه إذا لم يمتلك الإنسان وعياً بأنه ينتمي إلى مجتمع الحياة الأوسع، حيث يكون الإنسان ليس هو سيد مملكة الكائنات وسيد الطبيعة كما كان يقول ديكارت، بل هو كائن ضمن مملكة الكائنات تربطه بها علاقات تجاور بل ومساواة كما يقول البيئويون اليوم. ما لم يقع عمل جدي من أجل الرفع من درجة هذا «الوعي الأخضر» فإن النفوس البشرية ستزداد كآبة وحزناً. لهذا الأمر علاقة بمسألة أخرى وهي أن يكون الإنسان سعيداً لا يعني أن يعيش تجربة باطنية معزولة عن الواقع وعن الآخرين. إن البحث عن السعادة يقتضي نثر بذورها حواليك حتى يستفيد منها الآخرون، لذلك تفترض السعادة التزاماً أخلاقياً بسعادة الآخرين بكل ما يقتضيه ذلك من مسؤولية وتضحية والتزام. إذ لا يمكن أن أكون سعيداً على حساب أسرتي أو على حساب وطني، السعادة الأولى قد تقود إلى عدم المسؤولية الاجتماعية، أما الثانية فليس لها اسم آخر غير الخيانة. يمكن أن نقول في الختام إن السعادة ممكنة في عالم أصبحت فيه الممكنات نادرة شريطة أن يلعب الإنسان بمرونة على حبلين متقاربين هما: العقل والفضيلة بطريقة مبدعة، إذ كيفما كان الحال يبدو أنه ليست هناك وصفات للسعادة يمكن أن تنطبق على الجميع، وإنما هي إبداع فردي وتجربة خاصة ينشئها الإنسان بما يتلاءم مع خصوصياته الاجتماعية وشروطه الحضارية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©