الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشارقة.. مُقرِئةً وقارئة

الشارقة.. مُقرِئةً وقارئة
12 نوفمبر 2014 21:41
تصوغ الشارقة مزاجها الثقافي على نخب مشهد يوشحه الفعل الإبداعي المتنوع المشارب والتصورات، إذ تجاوزت مرحلة التأسيس لتصل إلى مراحل متقدمة من النضج والابتكار والإضافة والبحث عن بدائل وآليات حديثة تواكب العصر وتصنع المستقبل المنشود، فلقد قدر لهذه الإمارة أن ترتبط بالثقافة والإبداع من خلال رؤية وتوجيه حاكمها المثقف صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى للاتحاد حاكم الشارقة، الكاتب الذي رفع شعاره المعروف منذ ثمانينيات القرن الماضي: «كفانا من ثورة الكونكريت ولنتحول إلى بناء الإنسان». ساسي جبيل الإنسان في رؤية سلطان هو البنيان الحقيقي والكيان الذي يجب أن يكون الفاعل الأساسي في كل المعادلات، وهو كذلك الثروة الحقيقية الباقية على مر الزمان، فتكوينه يؤسس لمجتمع متماسك وقادر على النهضة والارتقاء إلى أعلى المراتب وتحقيق أفضل الإنجازات، وهو ما تجلى على أرض الواقع حقيقة ملموسة لا تخطؤها العقول والأبصار، فالشارقة اليوم باتت نقطة جذب واستقطاب ثقافي قلّ أن تجد لها نظيراً في المنطقة الخليجية وفي كثير من البلدان العربية، إذ خرجت بحلتها القشيبة ورؤيتها القائمة على جعل الثقافة أولوية ليكون لها حضورها في مختلف المحافل الدولية كمثال ونموذج يمكن الاقتداء به في هذا الإطار، حتى إنه لا تكاد تمر مناسبة ثقافية دولية كبرى إلا وكانت الإمارة حاضرة بتراثها وكتابها وعلى رأسهم حاكمها، وبمشاركاتها التي لا تنقطع والتي تقترن عادة بحضور إماراتي لافت خارج الحدود، ففي كل مناسبة تدخل الشارقة في رؤيتها المتطورة على الدوام مرحلة أخرى تقوم أساساً على فرض الذات خارج الحدود وتأكيد الحضور، وجني ثمار الجهود التي بذلت على امتداد أكثر من ثلاثة عقود في ظل الاتحاد الذي تحتفل الدولة بعد أسابيع قليلة بالذكرى الـ43 لإعلانه. حرفيةمن هذه المعادلة تكتسب الشارقة زخمها وتبني بيئتها الثقافية بخصوصيتها وفرادتها، وتصل فعالياتها أعلى درجات الحرفية في التنظيم وفي استقطاب الأسماء الكبيرة إماراتياً وعربياً ودولياً، وهو الأمر الذي لا يضاهيها فيه في المحيط الخليجي إلا معرض أبوظبي الدولي للكتاب الذي انخرط منذ سنوات في فعل ثقافي جاد يقوم على التنوع والثراء والتطوير والبحث عن بدائل ثقافية ممتدة في كل مكان. يمكن للمرء أن يعثر على تجليات هذا كله في الدورة الثالثة والثلاثين لمعرض الشارقة الدولي للكتاب الذي يقام حالياً في الشارقة، فهذا المعرض أزاح النقاب عن مهرجان حقيقي حول الكتاب ومن خلاله، والمناسبة استطاعت أن تكون عرساً لا يتوقف في مجال الثقافة والفكر والإبداع والعلم والمعرفة، فهو يكسر الفجوة بين الشرق والغرب ويبني علاقة متينة بين الكاتب والقارئ والناشر، إذ قطعت الشارقة خطوات معتبرة في مجال التعاطي مع الكتاب خصوصاً والفعل الثقافي عموماً. هذا التمكين الثقافي خرج بالإمارة نحو آفاق أرحب وأكثر اتساعاً من خلال الحوار الحضاري بين ثقافات مختلفة ولغات متعددة، تجتمع تحت سقف واحد، في برمجة متنوعة تلبي كل الأذواق والاختيارات والتوجهات التي تتشابك وتتشاكل لتصنع شخصية متميزة وتلقي الضوء على الكثير من قضايا الساعة، تشمل الصغار والكبار، القراء والكتاب، الناشرين والمحاضرين، حتى أنك حين تدلف إلى فضاء المعرض تشعر أن الكتاب بخير، وأن هذا الازدحام والتدافع إنما هو أمر تلقائي ومثير للانتباه. لا رقابةورغم ما يروجه البعض من أن الكتاب دخل مرحلة الاحتضار والموت السريري أمام عاصفة الإلكترون، فإن معرض الشارقة للكتاب يدحض هذه الأقاويل ويقيم الدليل على أن الكتاب حي لا يموت. وهو مؤشر هام من شأنه أن يساهم في تحقيق المصالحة بين الكتاب وقارئه والتي طالها الفتور في بعض الأحيان (وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها) نجمت عن التغول الرقمي وغزو وسائل الاتصال والتواصل الحديثة التي أصبحت موضة أيامنا المسرفة في سرعتها. ويتأكد من أن المعرفة تفتح أحضانها للجميع بدون استثناء في معرض لم نسمع يوماً أنه منع كتاباً أو زجر مبدعاً، حيث يجد القارئ ضالته التي يريد، وهذا ما تعود عليه الجميع في كل المناسبات في دولة الإمارات الحبيبة وهي ميزة لا يمكن أن نغفل الحديث عنها لأن الأمر في كثير من البلدان لايزال تحت طائلة رقيب لا يقرأ عادة بعقله، وإنما إنطلاقاً من أحكام مسبقة. لقد توفرت الرؤية القائمة على دراسة كل الآليات المحيطة بالمعرض كاقتصاد معرفي أولاً، وكمناسبة ثقافية تستغل على أحسن ما يرام ثانياً، إذ تتيح للقارئ الالتقاء بالكتاب والمثقفين الذين يأتون الشارقة من كل صوب وحدب. وفي هذا العناق الثقافي النادر يجد الطفل مكاناً له في العروض والفضاءات المخصوصة، وتجد بعض النساء المهتمات بالطهي فضاءاتهن في مطبخ المعرض فيما تجد الأخريات رغباتهن القرائية والفكرية والإبداعية في الأنشطة والفعاليات والكتب. وفي هذا البيت المتسع بالعلم ونور المعرفة تجد المؤسسات والهيئات الفرصة مواتية لاقتناء ما تختار من آخر الإصدارات وأمهات الكتب التي لا غنى عنها في المكتبات الخاصة والعامة، خصوصاً وأن سمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي لا ينفك يخصص في كل دورة من دورات المعرض مبالغ كبيرة لاقتناء الكتب من المعرض، وهو ما يعتبر من الأمور النادرة التي لا تحصل عادة في الكثير إن لم أقل جلّ المعارض العربية والدولية، كما يجد الناشر الفرصة مواتية للربح، فلابد من جدوى مادية لكي تشجع على النشر وتخرج بالقارئ من عباءة وسائل التواصل والكتاب المقروء وما شابه. ساحة حوار وجدلمعرض الشارقة الدولي للكتاب، الذي شهد هذا العام أكثر من (782) فعالية ثقافية على هامشه، يقيم الدليل مرة أخرى على أن اللقاءات الفكرية والأدبية والعلمية والفنية من شأنها أن تجعل من هذا المعرض مناسبة للاستفادة والحوار والجدل والنقاش في كثير من المحاور المهمة ومواضيع الساعة. وقد نجح المعرض في جلب كتاب كبار ومفكرين من الصنف الرفيع ونجوم من مختلف الاختصاصات والميادين جمعهم جميعاً حب الكتاب والالتفاف حوله والمساهمة فيه كل من جهته، ومع أن هذه البرمجة الثقافية متفاوتة من نشاط إلى آخر فالمتابع للبرنامج العام في السنوات الأخيرة يقف عند هذا التطور الظاهر للعيان والذي لم يعد خافياً على أحد. آفاقدائرة الثقافة والإعلام في الشارقة هي الحاضنة الأولى التي تقف وراء كل الأنشطة الثقافية بتوجيه من حاكمها، وعليه فمسؤوليتها اليوم تتضاعف لأن هذا المعرض دخل منعرجاً حاسماً، وهو القطع مع الاستهلاكي وما هو في المتناول ليناقش قضايا فكرية وسياسية وأدبية تشغل بال الأمة في هذه الأيام التي تتزايد فيها النوائب التي تنخر جسدها. وعليه من الضروري أن تسعى إلى تقديم تصورات كبيرة تخوض في العمق ولا تكون سطحية انطباعية، وهو ما بات من مؤكد الضرورات التي تحتاجها المرحلة القادمة لهذا المعرض الكبير، فلابد من التجديد، ولابد من التنويع والتغيير، ولابد من التوجه عالياً والتحليق أبعد من الرؤى التقليدية الضيقة والمجاملات التي لم تحقق الجدوى في كثير من المناسبات. ونتمنى أن تكون كل البلدان حاضرة بمبدعيها وكتابها من خلال التنسيق مع المؤسسات الرسمية في هذه البلدان ومع الجمعيات الثقافية فيها، وأن لا يقتصر الأمر على العلاقات الشخصية التي يجب أن تزول، فالشارقة كانت ولا زالت حضناً مفتوحاً للجميع ومكاناً تجتمع تحت ظله كل النخب العربية بدون استثناء. إن تصنيف معرض الشارقة الدولي كرابع أهم معرض في العالم يقيم الدليل على أنه دخل مرحلة أخرى، وبات وجهة وموعداً ينتظره الجميع إن في دولة الإمارات أو في المنطقة الخليجية، فالكثيرون أصبحوا يعدّلون ساعاتهم على هذه المناسبة، ولذلك فإن المسؤولية ستصبح أكبر، والحفاظ على هذا الموقع الريادي يحتاج إلى أفكار وجهود كثير من أبناء الشارقة ومن محبيها في الداخل والخارج، لأن الحفاظ على ما وصل إليه يستدعي التفكير الجدي في المستقبل، والتخطيط المتواصل لتحقيق الأفضل، وهذا ما يلاحظه كل متابع لهذه المناسبة خصوصاً خلال السنوات الأخيرة، حيث تسفر الشارقة عن فضاءاتها الثقافية لكل زوارها لتستغل المعرض للتعريف بمؤسساتها الثقافية ومعالمها المختلفة وإنجازاتها التي لا تتوقف، وهي التي أرست العديد من التقاليد وأصبحت مع الأيام نموذجاً يحتذى به ومنارة يلمع ضوئها القزحي في كل الأرجاء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©