الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ليو تولستوي: ملك الرعاة

ليو تولستوي: ملك الرعاة
12 نوفمبر 2014 21:50
اسماعيل غزالي يبدو وجه ليو تولستوي كما لو خرج لتوه من كتاب «أغاني الرعاة» للشاعر الروماني فرجيل. وجه باذخ التفاصيل، عاتي الغرابة، شاهق العلامة. كأنه يتمثل شراسة عصره وينضح بثقل اللحظة التاريخية. بعض وجوه الكتاب والروائيين بالذات، لا تمثل فقط ضخامة القرن الذي عاشوا فيه، بل تجسد بشكل رمزي ضخامة حتى أعمالهم، فرواية ذات حجم ثقيل من طراز الحرب والسلم، تكاد تكون المعادل الموضوعي لجثمان تولستوي المارد والعملاق. لا يمكن لمتأمل وجه صاحب آنا كارنينا، إلا أن يرتاب في ذهول، وينشطر حدسه أو حكمه على هوية صاحبه، أفيلسوف هو على طريقة الحكماء الزهاد؟ أم كائن خرافي لا يمكن أن يتحقق حضوره الباذخ إلا في حلم أو رؤيا؟ أم هو راع جوال من رعاة العصور المظلمة؟ يعتمل في نظرة ليو تولستوي أكثر من طيف، هناك طيف النظرة الغائرة المنذورة للانهائي، أي نظرة يرتمي سلك بريقها على مدى فراسخ ماراثونية، وهناك طيف النظرة التي تقف عند التخوم وتستكنهها، ثم طيف النظرة المبهمة، نظرة ماكرة يشكك المحدق بها في جدوى بصيرتها، كأنما ينظر إليك بخيال أعمى مثلا... أما اللحية البيضاء المسرفة في الطول والغزارة، فعلامة دامغة لوقار الوجه وجبروته، ذات سطوة وسلطة، تفرض على رائيها الانصياع لرياح الأغوار المهولة المندلقة من زخم الوجه وقوته الملتبسة وشراسته الغفيرة. هذا ما يشفع للوجه الملفع بالحكمة، انحيازه لعدالة ذات جسامة، عدالة مفترضة ذات مضاعفات كارثية وعواقب لا محمودة على صاحبها المنذور للنفي والنبذ والإقصاء. ثمة طيبوبة وفيرة تشع بها إيماءة الوجه، طيبوبة ليست خادعة ولا ساذجة، لأنها ثمرة عمق جسور وسلوك واعي وقيمة معرفية قلما ينفرد بها معمار وجه عملاق كوجه تولستوي. يتأرجح تخييل وجه تولستوي بين هيأة آخر الرعاة الجوالين أو المزارعين الأشاوس، من صفوة الأفذاذ، وبين قديس متمرد. لم يخطئ لينين في توصيف تولستوي بمرآة للثورة الروسية، فوجه هذا الأخير يضمر منجم علامات الحياة المنذورة للبساطة ونقاء التعايش الإنساني ورهن الذات لآلام الجموع، مع جسارة صلبة منقطعة النظير في الجهر بالحقيقة الصادمة، دونما إعمال لحساب الويلات التي ستعقب الصرخة. صرخة ضد تواطؤ الكنسية – المزيفة - مع السلطة البشعة على حساب الشعب والبؤساء بالذات وصرخة ضد همجية السلطة وفسادها وجرائمها (الوقوف إلى جانب ثوار مرحلة ما بين سنة 1005 وسنة 1007 كأبدع مثال على ذلك). نادرون حد العدم من انسلخوا عن ثراء سلالتهم وسخروا من قيم الإرث النبيل المزيف لطبقتهم الاجتماعية وانحدروا ببسالة إلى اعتناق أسلوب حياة طاعنة في البساطة، ونمط وجود يحتكم إلى تقشف عتيد. تولستوي علامة خالصة لهذا النزوع المثير، يتخلى بمحض القناعة عن مزرعته لفقراء بلدته ويلوذ بمسكن ريفي ليظفر بالسكينة والنقاء. نبيل اختار بمحض إرادته انتحال شخصية قروي وصنع من ضاحية «ياسنايا بوليانا» عاصمة رمزية للمنبوذين. بعصامية ألمعية تنضح شررا، ذاع صيت الرجل الذي يتماهى وجهه مع واقع يومه، قبل أن يتطابق مع متخيل سرده. هكذا يتحول وجه بالغ الخصوصية إلى وجه يرى فيه العموم خلاصا. فتكفي صورة كهذه، أو ذكر اسمه فقط، لينوب عن فلسفة هي ذراع أو متراس المهمشين والمسحوقين. كيف يظفر وجه في ابتكار جاذبية تتخطى حدود محليته، ويغدو كونيا بشكل سحري؟ ثمة بلاغة فيزيقية ينطوي عليها السر بالتأكيد، لكن الأمر لا يقف عند الخلقة المريبة، إذ أن كيمياء الوجه تتحول وتتغير لتأخذ أشكالا جديدة بالتوازي أو التناغم مع التجارب الصاخبة التي يخوض معتركها صاحبه. فتجربة تولستوي مثلا كجندي في القوقاز، تكشف عن طبقة جديدة في معمار وجهه الغريب، وكذلك احترابه الصلد فيما بعد مع أرثوذوكسية الكنيسة وتكفيرها له، ونفيه فوق ذلك، يعري طبقة أخرى في جغرافية وجهه العاصف... تحولات رمزية يكتسبها الوجه متعاقبة وناجمة عن طبيعة معاركه الوجودية والجمالية في آن. أن يتحول وجه خاص عند العموم إلى خلاص، فتل علامة تضاهي أن يتبوأ قيمة رمزية تضاهي بيرق حرب أو سلاحا أو عنوانا مجيدا... ثمة وجوه داغلة يتعامل معها الجموع كما لو كانت غلاف كتاب مقدس، وثمة وجوه أخرى مضاعفة عند هؤلاء الجموع دائما، تضطلع بقيمة غلاف الكتاب ومتنه أو محتواه معا. وجه ليو تولستوي من الصنف الثاني، الذي يشهر عنوانه وغلافه ومتنه الثري في آن... حتى يصعب فصل هذا الوجه عن روايته «السلم والحرب» مثلا، رواية لمن لم يقرأها، يحدسها ويطلع عليها بشكل مغاير في دليل وجهه المشفّر... وهنا الخطورة كامنة بثقل فخاخها إذ تتحول وجوه الكُتاب إلى مجلد جامع، يكفي تأمله واكتشافه في كل مرة، ليكون بديلاً عن مؤلفات صاحبه... عجبا كيف يكتفي قراء - لم يطلعوا على «الحرب والسلم» و»آنا كارنينا» – بإلقاء نظرة على وجهك يا تولستوي، فيغنمون على سبيل التخييل ما صنعته في العملين معا، أو في مجمل أعمالك بالمرّة... شيء آخر يشفع لقوة وجهك العتيدة، هو سعيك منذ البدء نحو الظفر بعزلة بلّورية وملاذ صمت خالص. هذا الذي كلفك الموت ذات مساء جليدي في محطة مهملة وأنت في طبقة الثمانين حولاً، كأنك كنت تركض وراء طفولة نائية، حاولت أن تدب إليها بقدمي كهل أو تهوي إلى سفحها، ولم تبلغها لأن ساعة نبوءتك شاءت أن تتوقف في منتصف الطريق، بقرية «آستابوفا». هكذا يموت أساتذة العزلة أو ملوك التيه، وتخلد وجوههم الغريبة، تلك الغربة أو الغرابة بالأحرى التي يجد فيها الجموع ألفتهم وملاذهم. أضعك في أول دليل الوجوه الروسية المريبة يا تولستوي، ولا أجد في وجوه الفطاحلة من مجايليك أو ما بعدك، ما يزاحم إغواء وغموض وغرابة منطقتك الداغلة هذه...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©