الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جلجامش.. نصّ الرعشات الأولى

جلجامش.. نصّ الرعشات الأولى
12 نوفمبر 2014 21:50
ملحمَةٌ لا تَخْلُو من المُتْعَةِ والتَّشْوِيق. وهي بين الملاحم الإنسانية الكبرى التي أعودُ إليها باستمرار، ليس لأنَّنِي أبْحَثُ فيها عن سِرّ ما، بل لِما فيها من بناءٍ، يَشِي بمهارة اليَدِ، أو الأيادي التي حَبَكتْ خُيوطَها. رغم وجود بياضاتٍ أو حُذُوف فيها، ناتِجَة عن الكُسُور التي أصابَتِ الألواح الطِّينِيَّة التي كانت هي مصدر تدوين الملاحم والنُّصوص الشِّعرية، على عهد الآشوريين، بشكل خاص، فالنص، كما عَمِل الباحث في تاريخ العراق القديم، الرَّاحِل الأستاذ طه باقر على «تحقيقه» وإخراجه، لم يتأثَّر كثيراً، من حيثُ قيمتُه الإبداعية، رغم التَّرْجَمَة، أو النَّقْل من اللغةِ الأصل إلى العربية. صـلاح بوســريف ما يُفَاجِئُنِي في مثل هذه النُّصوص الأولى، أو نصوص البدايات، كما أحِبّ أن أُسَمِّيها، تلك الرَّعَشَات التي أسْتَشْعِرُها في يَدِ من كان يَكْتُبُ «أبياتها»، أو في لِسان من كان يرويها، وفق ما سيجري به الأمر مع هُومِيرْ الذي كان، بحكم عَمَاه، يروي ملْحَمَتَيْه «الأوديسا» و «الإليادة». فاللغة التي قيلتْ أو كُتِبَتْ بها ملحمة جلجامش، هي لغة البدايات، وهي اللغة التي يمكن اسْتِشْعارُ قلقَ اللِّسان، أو اليَدِ الكاتبة، وهي تَبْحَث عن الكلمات، أو تعمل على نَحْتِها لتقول شيئاً ما. لا أعرف، في الأصل، ما طبيعة، أو جُرْأة هذا المُتَكلِّم، أو الكاتِب الأوَّل، في ابتكار الكلمات، والعبارات، وفي تَوْلِيف هذه الكلمات، والعبارات مع هذا التَّخْييل الأسطوري، الذي يبني حكايةً، هي، في جوهرها، نوع من تفسير الوُجود، كما كان يَتَمَثَّلُهُ هذا الفكر الأسطوري، أو الفكر ما قبل الفلسفي. فهل هذا الشَّاعِر الأوَّل، كان يَكْتُبُ في الاتِّجاه المُعاكس لِلُّغَة، كما يقول ف. ليوتار، أم كان يبحث، في سياق هذه الارتعاشات الشِّعرية الأولى، عن طُرُقٍ مُخْتَصَرَة لتفسير العالم، وفَهْمِه؟ أهَمّ ما شَغَلَنِي في هذا النص الشِّعري الملحمي، وهو نص سابق على نصوص هومِيرْ وفرجيل، وغيرها من النصوص التي أصْبَحَتْ بحكم انتشارها، تُخْفِي هذا الأصْل المُوَارَى، بما في ذلك النُّصوص الدينية السماوية، التي تتماهَى في بعض قِصَصِها مع هذاالنص، ومنها قصة الطُّوفان، هو البناء الحكائي، الذي أتاحَتْ له اللغة الشِّعرية انشراحات أوْسَع، وجعلت الأحداث تنمو، وتتناسَل بطريقة، معها بدا أنَّ الخيال الذي يحكُم الحكايةَ، هو خيال شعري، تماهَى، بشكل مُدْهِش مع إيقاعاتِ النَّص، ومع طبيعته الملحمية، التي أفْضَتْ لِما في الحكاية من تركيب، وما فيها من «حُبْكات»، تدَخَّلَتْ في نَسْجِها، وفي تَشْبيك خُيوطها، هذه اللغة التي كانت، ربما، في وقتها، هي لغة لم تخرج من سياقاتها الدَّلالية الأولى، التي لم يكن فيها المجاز واضحاً، في معناه البلاغي، في ذهن هذا الشَّاعر الذي كَتَبَ، أو تكلَّم، دون أن يعنيه هذا البُعد المجازي، الذي كان، في ما يبدو هو أصلٌ في اللغة، أو هو ما كانت تَبْتَنِي به هذه اللغة شعريتها، دون حاجَةٍ لتفكيرها، أو تحريفها عن مسار التَّداوُل «النثري» العام. لا مسافةَ هنا، بين لغةٍ لـِ «النثر» ولغة لـِ «الشِّعر»، بل إنَّ اللغةَ كانت، في وَحْدَتِها، هي لُحْمَة واحدة، ولِسانٌ واحِد، الشَّاعر هو من كان يُحْدِثُ فيها هذا الشَّرْخ، بين ما هو «عادي» و «مألوف»، وبين ما يخرج عن الأُلْفَة والعادة، ليصير كلاماً، هو ما سَمَّاه الآشوريون، وغيرهم ممن كانوا في بلاد الرافدين، بـ «الشِّيرْ» أي الشِّعر، وهي التَّسْمِيَة نفسها التي نجدها في اللُغات السَّامية قاطبةً، وبينها العربية والعبرية، بخلاف كلمة «قصيدة»، التي بَقِيَت لصيقَةً بالشِّعر العربي، وهي ليست مفردَ شِعْر، بَتَاتاً. فَسَعْي جلجامش للخُلود، ورفضُه التَّلاشي، مثلما تتلاشَى وتموت كل الكائنات، كان جوهر السؤال الذي شَغَل هذا الشَّاعر المُتَلَعْثِم، ليس بلغة الشِّعر الأولى، بل وبلغة الفكر الأولى. وهذا يَدفَعُنِي للتَّساؤل بصدد العلاقة بين الشِّعر والفكر، التي اعْتبَرها البعض حديثةً، في ما هي بين أهم ما بُنِيَ عليه الفكر الإنساني، الذي كان الشِّعر بالنسبة له، هو المساحة التعبيرية الرمزية، أو الأسطورية التي يمكنها أن تسمح بمواجهة الوُجود، ووضعه على محك السؤال، الذي كان مقدمة انتقال الفكر البشري، من التفكير البديهي، إلى التفكير الفلسفي الذي شَرَعَ فيه العقل في اختبار جُرْأَتِه في توليد الأسئلة، مثلما كان يفعل سقراط، في مواجهة مُحَاوِريه. فجلجامش، حين أدْرَك أنَّ خُلُودَه غير ممكن، وأنَّ الموتَ قادِمٌ لا مَحالَةَ، رغم ما قَدَّمَتْه له الآلِهَة من خدمات في هذا الصَّدَد، فهو اكتَشَفَ أنَّ خُلودَ الإنسان، ليس خُلوداً بالجسد، بل خلود بما يمكن أن يَتْرُكَهُ من أثَرٍ. ولعلَّ في تأمُّل جلجامش لذلك السُّور العظيم الذي تركَه وراءه، هو ما سيجعله يقتنع بأنَّ هناك حياة أخرى، غير هذه الحياة الفانية، التي معها يذهب الإنسان وتبقى العمارة، كما تبقى العبارة. وفي هذا بالذَّات، كان هذا الشَّاعر الأول، أو شاعر الرَّعَشات الأولى، يُعْلِنُ أهمِّيَةَ هذا الصَّرْح الشِّعري الذي سيتْرُكُه خَلْفَه، فهو كان على وَعْيٍ، بأنَّه تَرَك رُوحَه في هذا العمل، وأنَّ الخيال، الذي لا نتبه لأهمِّيَتِه، هو حياة في قلب الحياة، أو هو هذا الخلود الذي شغَل جلجامش، قبل أن يُدْرِك أنَّ الخُلُودَ هو مَحْضُ خيالٍ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©