الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ذهب ما أعطيتموه.. وبقي ما أعطاكم

ذهب ما أعطيتموه.. وبقي ما أعطاكم
18 أكتوبر 2012
لا تولد القصائد من فراغ، ولا تتشكل من رصف الكلمات بعضها إلى جانب بعض، ولا يصنعها الخيال وحده، أو يفتعلها صاحب الصنعة الأدبية. تولد القصائد من التجربة والمعاناة.. تولد من الخبرة التي اكتسبها الشاعر، ومن النهج الفكري الذي اختطه.. تولد من المشاعر الصادقة.. من العاطفة الجياشة.. من الحب، لا من البغضاء.. من الخير، لا من الشر.. وحكاية قصيدة اليوم، ناظمها وقائلها ذلك الشاعر الذي ولد وعاش قبل الإسلام، وتجمعت لديه حكمة العصور وفلسفة الحياة بحلوها ومرها.. بحربها وسلامها.. بإقبالها وإدبارها.. فصاغ من هذه الفلسفة عقوداً ظلّ بريقها يضيء حتى يومنا هذا. إنه الشاعر زهير بن أبي سلمى..، وأبو سلمى هو ربيعة بن رباح بن قرة بن الحارث بن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هرمة بن الأصم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طانجة بن الياس بن مضر بن نزار. ولد زهير بن أبي سلمى في مزينة، وتقع في نواحي المدينة المنورة، أما المكان الذي أقام ونشأ وعاش فيه، فيسمى الحاجر في ديار نجد، وقد استمر أبناؤه بعد الإسلام في ذلك البلد. كان زهير من أهم شعراء العصر الجاهلي، بل اعتبر واحداً من الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء، وهم امرؤ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والنابغة الذبياني. نشأ زهير في أسرة عربية لها مكانتها في المجتمع، سواء من جهة أبيه وهو من غطفان، أو من جهة أمه وهي من مرة.. وكانت شقيقة لرجل من بني مرة ويدعى الغدير.. والغدير هو أبو بشامة الشاعر المعروف، فولدت زهيراً وأخاه أوس.. ولذلك كان زهير يمدح بني غطفان وبني مرة أخواله. لم يكن زهير بن أبي سُلمى محتاجاً للتكسب من شعره، لأنه كان في الجاهلية سيداً كثير المال حليماً معروفاً بالورع والتقى. تزوج زهير امرأة تسمى أم أوفى.. وذكرها كثيراً في شعره وقد ولدت هذه الزوجة عدداً من الأولاد لزهير ولكنهم جميعاً ماتوا. وتزوج زهير امرأة أخرى هي كبشة بنت عمار الغطفانية فولدت له كعباً وبجيرَ. شعرت أم أوفى بالغيرة الشديدة حين عاش أولاد كبشة ومات أولادها، وتسبب ذلك الشعور بالغيرة بالكثير من الأذى للشاعر زهير.. وفي ذات غضبة شديدة طلق زهير أم أوفى، ولكنه ندم كثيراً على ذلك التسرع، حيث كان يضمر لها الكثير من المحبة، ولم يكن يميل إلى الظلم أو الإساءة لمن عاشت معه عمراً ليس بقصير وولدت له أبناءه الذين فقدهم وفقد معهم توازنه. حتى إذا رأى أولاد زوجته الجديدة يدرجون حوله عادله الاتزان ورجعت له الحكمة واستعاد زوجته. لم يعش زهير تجارب حب صاخبة كغيره من الشعراء، بل حكمت عليه ظروفه الاجتماعية كسيد لقوم أن يتصف بالعقل والحكمة واتخاذ القرارات الصائبة. ولم يكن زهير بحاجة إلى عطاء أي كان ليمدحه.. ولكنه كان يفعل ذلك من قبيل الفخر والاعتزاز.. وتروي المصادر أن زهيراً مدح الحارث بن عوف وهرم بن سنان في معلقته الشهيرة، وخص بالمدح بعد ذلك هرم بن سنان فحلف هرم أن يكافئ زهيراً بالعطاء بعد كل قصيدة مدح له، بل حلف أن يعطيه لو سأل.. وأكثر من ذلك حلف أن يعطيه كلما ألقى زهير عليه السلام. فما كان من زهير إلّا أن استحيا لكثرة عطاءات هرم بن سنان له.. فكان إذا رآه في جماعة قال: ـ عموماً صباحاً غير هموم.. وخيركم استثنيت. القصيدة التي سنتناول حكايتها اليوم هي معلقته الميمية الخالدة: أمِنْ أمّ أوفى دِمْنَةٌ لَمْ تكَلَّمِ بِحَوْمَانةِ الدَّراجِ فالمِتَثَلِّمِ تشير المراجع المختلفة أن ورد بن حابس العبسي قتل هرم بن ضمَضم المري، وحلف حصين بن ضمضم الذي قتل ألا يغتسل حتى يقتل القاتل ورد بن حابس أو على الأقل يقتل رجلاً من عبس. ولم يطلع حصين أحداً على قسمه.. وظل مترصداً يتحيَّن الفرص.. فأقبل رجل من بني عبس فنزل لدى حصين بن ضمضم. ? من أين أنت أيها الرجل؟ ـ أنا من عبس. ? متأكد أنك عبسي. ـ نعم أنا عبسي وابن عبسي.. فماذا في ذلك؟ ? ماذا في ذلك؟ ألا تعرف أن بيننا وبين عبس ثأراً؟ ـ لا أعرف.. ثم ما دخلي بهذا الموضوع.. أنا لم أقتل أحداً. ? ولكن واحداً من أسيادكم وهو ورد بن حابس قتل أبي ضمضم المري. ـ وماذا ستفعل؟ ? سأقتلك.. ـ أوَرْدٌ يَقتُلُ.. وأنا أدفع حياتي ثمناً لما حصل. ? هذا هو العرف. ـ بل هذه هي الحماقة.. انتهى الحوار بين حصين والرجل نهاية مأسوية، حيث قتل حصين الرجل ليتمكن من الاغتسال. بلغت هذه الأخبار كلاً من الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فاشتد عليهم الأمر.. وعلم الحارث أن بني عبس استعدوا وأعدوا خيلهم وفرسانهم لقتل سيد بني مرة وهو الحارث.. وكادت داحس والغبراء والبسوس تتكرر.. ولكن الحارث قام أمام هذا الخطر الداهم بإرسال مائة من الإبل وإرسال ابنه معهم ومع رسول من طرفه وقال: ـ اذهب إلى بني عبس، وقل لهم: أيهما أحب إليكم.. الإبل أم أنفسكم؟ فليأخذوها.. وإذا لم يقبلوا ذلك، فهذا ابن لديهم ليقتلوه مكان قتيلهم. كانت شجاعة من الحارث ولكنها شجاعة حكيمة.. فهو يدري جيداً أن أخلاق العرب لا تسمح بقتل من سلم نفسه طواعية ودفع الدية.. وصل الموفد بالإبل والولد إلى بني عبس، وكان ذلك الموفد هو الربيع بن زياد فقال للقوم: ـ يا قوم إن أخاكم الحارث أرسل إليكم يقول: أيهما أحب إليكم الإبل.. أم ابني تقتلونه مكان قتيلكم. قالوا: نأخذ الإبل ونصالح قومنا.. وهكذا تم الصلح ووئدت الفتنة وانتهت الأزمة. وقام زهير بعد ذلك، وقد أرضاه ما حدث بمدح بطلب السلام الحارث بن عوف وهرم بن سنان. ويبين قيمة ذلك المدح الذي ناله هرم بن سنان من زهير ما روي عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لواحد من أولاد هرم بن سنان. ـ أنشدني بعض ما مدح به زهير أباك.. فأنشده.. قال عمر: كان يُحسن فيكم القول. قال ابن هرم: ونحن كنا نحسن العطاء.. قال عمر: لقد ذهب ما أعطيتموه.. وبقي ما أعطاكم. الأبيات المختارة من المعلقة: أمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةً لَمْ تَكَلَّمِ بِحَوْمَانَةِ الدَّراجِ فَالمُتَثَلَّمِ (1) ودارٌ لَها بِالرقَمَتينِ كأنّهاَ مراجيعُ وشْمٍ فِي نواشِرِ مِعْصَمِ (2) بِهَا العِينُ وَالآرْمُ يَمْشينَ خِلفة وَأَطْلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ (3) وَقَفْتُ بِهَا مِنْ بَعْدِ عِشْرِينَ حِجَّةً فَلأيَاً عَرَفْتُ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّم (4) فلمَّا عرفتُ الدارَ قلتُ لِرَبْعِها أَلاَ أَنْعِمْ صَبَاحاً أيها الربعُ واسلمِ (5) تَبَصَّرْ خليلي هل ترى مِن ظعائنٍ تَحَمَّلْنَ بالعلياء من فوق جُرثمِ (6) وَفِيْهنَّ ملهى للَّطِيْفِ وَمَنْظَرٌ أَنِيْقٌ لِعَيْنِ النَّاظِرِ المُتَوَسِّمِ (7) فَلَمَّا وَرَدْنَ المَاءَ زُرْقاً جِمَامُهُ وَضَعْنَ عِصِيَّ الحَاضِرِ المُتَخَيِّمِ (8) سَعَى ساعياً غيظ بن مرة بَعدَما تَبَزّلَ ما بَينَ العَشيرةِ بالدَّمِ (9) فأقسمْتُ بالبيتِ الذِّي طَافَ حَوْلَهُ رجالٌ بنوهُ مِنْ قُريشٍ وَجُرْهُمِ (10) يميناً لَنِعْمَ السيِّدَانِ وَجَدْتُما على كلِّ حَالٍ من سَحيلٍ ومُبرمِ (11) تداركْتُمَا عَبْساً وذبيانَ بَعْدَما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشمِ (12) وقد قلتما إن ندركِ السلمَ واسعاً بمالٍ ومعروفٍ ممن الأمرِ نَسْلَمِ فَأَصْبَحْتُما مِنها على خيرِ مَوْطِنٍ من يَسْتَبحْ كنزاً مِنَ المجدِ يَعْظِمِ فمَنْ مُبلَغُ الأحلافَ عَنّي رسَالةً وَذُبيانَ: هل أقْسَمْتُمَ وكُلُّ مقسمِ فلا تكتمَنَّ الله ما في نفوسِكُمْ ليخفَى، ومَهْما يُكْتَمِ الله يَعْلَمِ (13) وَمَا الحربُ إلاَّ مَا عَلِمْتُم وَذقْتُمُ وَمَا هُوَ عَنْهَا بالحديث المُرَجَّمِ (14) مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَميمَةً وَتَضْرَ إِذَا ضَرَّيْتمُوهَا فَتَضْرَمِ (15) فَتَعْرُككُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفالِها وَتَلْقَحْ كشَافاً ثُمَّ تُنتَجْ فَتُتْئِمِ (16) فتنتج لِكم غِلْمانَ أَشأَمَ كلُّهُمْ كَأَحْمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ (17) لعمري، لَنِعْمَ الحيِّ جَرَّ عليهِمُ بِمَا لاَ يُواتيهمْ حُصينُ بْنُ ضَمْضَمِ سَئِمْتُ تكَالِيفُ الحياةِ ومن يَعِشْ ثَمانين حولاً، لا أبا لَكَ، يَسْأَمِ رأيتُ المنايا خَبْطَ عشواءً مَن تُصِبْ تُمِتْهُ ومن تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فيَهْرَمِ (18) وأعْلَمُ ما في اليوم والأمسِ قَبْلَهُ ولَكِنّني عَنْ عِلَمِ مَا في غَد عَميَ ومن لا يُصَانِعْ في أمورِ كَثيرةٍ يُضَرَّسْ بأنيابٍ وَيوطأْ بمنسمِ (19) شرح المفردات: 1 - لم تكُلَّم: لم تبين، أم أوفى: زوجة الشاعر. الدمنة: آثار الناس. حومانة الدراج. فالمتثلم: أسماء وأماكن. 2 - الرقمتان: مواقع قرب المدينة والبصرة. مراجع وشم: آثار نقش على الجلد. النواشر: عصب الذراع. 3 - العين: البقر الواحدة عيناء والذكر أعين. الآرام: الظباء خلفه: فوج وراء فوج. الطلا: والد البقرة. مجثم: مربض. 4 - لأياً: بعد جهد وبطء. 5 - الربع: موضع الدار التي ينزل فيها في الربيع. 6 - الظعائن: النساء على الإبل واحدتها ضعينة العلياء: بلد جرثم: ماء من مياه بني أسد. 7 - المتوسم: الناظر الذي يتفرس في نظره كأن يطلب أو يرجو شيئاً. 8 - زرقاً جمامه: إذا صفا الماء يميل إلى الزرقة. والجمام: ما اجتمع من الماء. وضع العصي: أقام. 9 - الساعيان: الحارث بن عوف وهرم بن سنان. غيظ بن مرة: حي من غطفان. تبزل بالدم: تشقق بالدم. 10 - جرهم: كانوا أرباب البيت قبل قريش. 11 - سحيل: خيط لا يضم إليه خيط آخر. ومبرم: يقتل خيطاه ثم يصيران خيطاً واحداً. 12 - عطر منشم: منشم امرأة من خزاعة اشتهرت بعطرها فإذا حاربوا اشتروا منها كافوراً لموتاهم فتشاء موابها. 13 - الأحلاف: أسد وعطفان. 14 - المَرجَّم: المظنون به. 15 - تضر: تعود. تضرم تشتعل. 16 - الرحا: الطاحون. الثفال: جلدة تكون تحت الرحا. تلقح كشافاً: يقال: لقحت الناقة كشافاً إذا حمل عليها في دمها. فتثئم: تأتي بتوأمين. 17 - تنتج: يعني الحرب. غلمان أشأم: غلمان شؤم. 18 - خبط عشواء: سير الناقة العمياء. 19 - يضرس: يعض. منسم: ظلف البعير. المصَادر والمراجِع: 1 - شرح ديوان زهير بن أبي سلمى: قدم له ووضع هوامشه وفهارسه: حنا نصر الحتي. 2 - الأغاني/ أبو الفرج الأصفهاني. 3 - طبقات الشعراء/ محمد بن سلام الجماحي. 4 - شعراء النصرانية قبل الإسلام/ الدكتور لويس شيخو.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©