* ما الذي يجعل الشخص حين يعتلي المنصة، أو يقف خلف الميكرفون، أو يرى كاميرا أمامه يتبدل حاله، ويتحول فجأة من إنسان عادي هادئ إلى إنسان مزمجر، وهادر، ودونما أي أسباب؟ أو يدب فيه ذاك الرعب الداخلي، فلا يقدر أن يكون على طبيعته، ويتشتت ذهنه، وتغيب الفكرة في ظل السكرة، هذا الخطيب الهادر، ربما يكون إمام جامع أو زعيماً سياسياً أو مصلحاً اجتماعياً أو يكون الواقف شاعراً أو لاعباً فائزاً أو إدارياً لنادٍ مهزوم أو مذيع مناسبات أو مترشحاً لانتخابات، كلهم يرفعون أصواتهم، وتعتريهم الحماسة والانفعال، طرأت على بالي هذه الفكرة وأنا أستمع لخطبة الجمعة في أحد مساجدنا، والمقررة سلفاً من الشؤون الإسلامية والأوقاف، وكانت عن بر الوالدين والإحسان إليهما، فإذا بخطيب الجامع يبدو منفعلاً أكثر من المطلوب منه، ويصرخ في الميكروفون الذي صنع أصلاً ليخفف الجهد على حبال الإنسان الصوتية، ويجعل من رئتيه تشتغلان براحة تامة، كان الصريخ والحماسة لا يليقان بالموضوع الذي أمرنا ديننا فيه بأن لا نقول للوالدين أف، ولا ننهرهما، ونقول لهما قولاً كريماً!
* مرة.. كنا نمشي صحبة في شارع الشانزليزيه، وهو شارع مكتظ، وتكاد لا تسمع فيه جارك، فلمحنا من بعيد رجلا يرتدي كندورة قصيرة، ومقصرة إلى ما دون الركبة، وشعر رجليه الكثيف ظاهراً واضحاً للعيان، ومتعمماً بغترة بيضاء لها ذؤابة بين كتفيه، ولحيته ترقد على صدره، فأيقنت أنه من الجماعات الدينية من شمال المغرب، هكذا بدت لي سحنته من بعيد، وإن كانوا اليوم يتشابهون، وكأنهم «إخوان»، أخذ ذلك الأخ يشق صفوف المارة، وكأنه أمر جهادي، نسينا أمره لدقائق، فإذا هو قبالتنا، ويصرخ: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» حتى إنه أفزع بعض الغافلين منا، وأرعب بعض المارة، فنظرنا إليه صامتين، فرفع حاجب عينه اليمنى، ومسح على لحيته، وألقى السلام بنبرة الصوت العالي نفسه، وكأنه أحد ممثلي المسلسلات التاريخية عن حقبة قريش، لم نرد عليه، وعدَّه بعضنا من السياح المتسولين الذين يهجمون عليك فجأة بطلب، ويمكن أن يغافلوك ويلهوك ويسرقوا شيئاً من عندك، بينما أيقنت في نفسي أنه يريد التحارش لسبب ما، وأنه ربما يضمر شراً، ولا يريد سلاماً، فوقفنا ننظر إليه، فأسمعنا نصيحته التي يحفظها: «إذا حييتم بتحية الإسلام..» احترت لِمَ هذا التصرف، وهل السلام يحتاج لعنف في القول، أم لين وطيب نفس وبشاشة في القول والوجه؟!
* مرة.. كنّا نحضر أمسية لشاعر رقيق، فعندما شعر بأنه سيد المكان اعتدل ومسك بيده الميكرفون الذي كان واقفاً على منصة، وفِي حاله، ولا يحتاج لأحد أن يحركه من استراحته، لكن صاحبنا ما إن رأى الكاميرات أمامه، وفرصة إلقاء قصيدته على جماهير غفيرة، حتى تحول فجأة لشاعر صخّاب، وتبدل من الهدوء والسكينة إلى الحماسة المفتعلة، والانفعالات المتعمدة، حتى بلغ به الحال حد الرغي والزبد، يا أخي! قل قصيدتك في حبيبتك الجميلة المتمنعة، ولا داعي لأن تصهر الفولاذ والوقر في آذاننا! أقسم لو ألقى تلك القصيدة بتلك الوتيرة والصخب على حبيبته لتركته في الحال والتو وحده مع بنات أفكاره!