قيل في الزمان الأول، إن امرأة سمعت صراخ رجل يستغيث، فهرعت لتستطلع ماذا يحدث في الخارج، فإذا بها تجد رجلاً يمد يده من باطن حفرة، مستغيثاً بها، فهمت المرأة لمساعدته، واستطاعت بعد جهد جهيد أن تنقذ الرجل، وبعد أن وجد الرجل نفسه خارج الحفرة وقد نجا من الموت، نظر إلى المرأة وقال لها بفخر نافخاً صدره، مُرِي سيدتي ماذا تتمنين، فسوف أحققه لك في الحال، فأنا كبير المنجمين في بلاط الملك، وأستطيع أن أستطلع الغيب، وأحقق لك كل ما تتمنين.
نظرت إليه المرأة بسخرية، وهمهمت قائلة، إذا كنت لم تستطع رؤية حفرة في الأرض، فكيف لك أن ترى ما في السماء. انكفأ الرجل على نفسه وشعر بالخجل أمام حكمة المرأة، فولى هارباً مخفضاً رأسه في التراب.
هكذا هم بعض الناس، يمثل دوماً دور أبي العريف، ويتبوأ مقعد الرؤية الخارقة لكل ما هو ماورائي، ويوهم نفسه، كما يوهم الناس أنه العارف، الغارف من معين النبوءات، ومن أصحاب العقول التي لا يشق لها غبار.
نماذج كثيرة مثل الطفيليات تطفح بها المجتمعات، ويبتلى بها العباد والبلاد، وينتشرون كالوباء في كل المحافل، والموائل، ومنازل الغث والرخص.
هؤلاء يستطيعون فك رموز نظرية فيثاغورس الرياضية في غمضة عين، وبإمكانهم أن يعيدوا سقراط إلى الحياة فيما لو أراد، ولكن الرجل غادر دنيانا بمحض إرادته، ومن دون حاجة إلى أبي عريف ليستخدم طاقته الميتافيزيقية، ويأتي به إلى ديار الأحياء.
هؤلاء أشخاص ينتشرون أحياناً مثل البكتيريا في المناطق القذرة، هؤلاء ترعرعوا مثل الأوبئة في الأحياء الفقيرة فكرياً، واستطاعوا إن يهيمنوا على عقول الناس الأبرياء، وأن يستولوا على أرادتهم، ويحلقوا بها بعيداً عن منازل الوعي. بالتالي صار الكثير من الثوابت مثل الفقاعات، تتطاير في الهواء الطلق ولا قرار لها على أرض الواقع.
عندما سئل سقراط عن المعرفة قال: كل الذي أعرفه أنني لا أعرف شيئاً.
كذلك قال المسيح عليه السلام: «كل الذي أعرفه بحجم حبة رمل، وكل الذي لا أعرفه بحجم رمال العالم»، فذاك أبو الفلسفة، وهذا نبي الله، وكلاهما تواضع إلى حد نكران المعرفة، بينما نجد الجهلة يصعدون المنصات، ويعلنون أنهم استطلعوا الغيب، ونالوا حق اليقين.
لماذا؟ لأن الأنا عندما تتورم، تصبح قيحا في ضمير الناس، لا يصدر عنه إلا الصديد، ولا يبوح إلا بالرائحة النتنة.
هؤلاء ربما تورطوا لأسباب ثقافة ما، أو تربية ما، المهم في الأمر، لا يجب أن نصدق مثل هذه الحيل البصرية، ولا نجري خلفها مثل الحملان الوديعة، أو مثل أكباش عمياء.