لكل امرئ من دهره ما تعود. هكذا تبدو أيامنا، وهكذا تصير حياتنا، وعندما نتأمل المشهد الرمضاني نفهم أن للعادة جبروتها، كما لها لذتها، وكما لها طقوسها.
على صعيد الطعام فقط وليس أشياء أخرى، نلاحظ أن في شهر رمضان يزداد النهم، وتشتعل الذاكرة، وتلتهب الروح شغفاً بالأطباق المكسوة برائحة الأطعمة القديمة، والتي وإن تلاشت شيئاً ما عن موائد الطعام، إلا أنها لم تزل تبعث بشذاها إلى الحواس الخمس، من  دون استثناء، وقد يتأفف صغارنا من الإكثار من هذه الأكلات في الشهر الكريم، ويغضنون جباههم، ضجرين، متضايقين من هذه النماذج والتي تبدو مستنكرة لديهم، لماذا؟ لأنهم لم يعتادوا عليها، ولم تتعمق رائحتها في أعماقهم، بل هم اليوم يعيشون عصر الكراتين الطائرة عبر الدراجات النارية، والتي تحوم ليلاً ونهاراً، ويتساقط سائقوها أحياناً في الشوارع، لأسباب تخص الرغبة في الوصول إلى الزبائن في الوقت المحدد، وقبل أن تبرد الوجبات، «السيبايسي» ويسمع هؤلاء الغلابة كلاماً ولا يسرهم.
اليوم عندما تفتح المطابخ العظيمة، الواسعة، الشاسعة، والممتلئة بمختلف الأواني المعدنية والخزفية، والفخارية، وتشعر أن هذه البيوت، لا يخف وطء الزوار بها، ولا يكف أصحابها عن توزيع الأطعمة، ليس في رمضان، بل في سائر شهور السنة.
حقيقة أستعجب من إصرار النساء على تضخيم، وتفخيم المطابخ بالذات، من دون مكونات البيوت الأخرى، على الرغم من أنهن قد لا يعرفن باب المطبخ مكانه، وجهته، ولكنهن في ما يخص «البرستيج»، فهذا أمر لا يمكن أن تتخلى عنه أي امرأة، وبالذات نساء اليوم؛ لأن المطبخ عدو لدود للأظافر الطويلة، كما أن دخان الطعام، يؤذي الرموش المسبلة على الجفون، ويطير الكحل.
إذاً من أين سيتعلم صغارنا أسماء أكلات، مثل «المكبوس، والهريس، والمضروبة»، وأكلات عديدة هي لم تزل فقط في الذاكرة، وإن حضرت، ففي شهر رمضان فقط.
هذا طبعاً باستثناء بعض الأسر التي لم تزل مرتبطة بخيوط الماضي الذهبية.
أما أنا حقيقة، فأشعر باليتم في لحظة رؤيتي طفلاً ينهش من أكداس الشحوم المتوافرة في الأكلات السريعة، أشعر بالأسى عندما يمتنع طفل عن تناول لقمة أرز، مع السمك، أو اللحم، وحتى وإن كانت من يدي امرأة غير أمه، المهم ألا يقاطع هذا الغذاء الطبيعي، ومن يفعل، فكأنه يقاطع التاريخ، كأنه يبتر الهوية؛ لأن الطعام ثقافة، والثقافة هوية، وهي وجدان اجتماعي لا يمكن العيش من دونه.