«سلطان بن أحمد الكويتي» كنا نراه صغاراً بهيئته التي لم تغيرها السنون إلا نحو مزيد من بياض الوقار، وهدوء النفس، وتلك التؤدة في الخطى في سكيك نخيل العين التي يعرفها مثل باطن كفّه، تقوده عصاه الثقيلة التي يهش بها عن خطى ممشاه في الأرض الطينية المغبرة أو يفرّق الحشائش اليابسة في الطريق الرطبة المروّيَة بمياه فلج «العيّني»، كان يعرف تلك النخيل و«اليلب» والسواعد والعوامد وفهود الأفلاج، كان ذاكرة الماء في العين وحارس وقته، هو الذي يعرف «البادّة» سواء في النهار بقياس الظل أو مساء بمقياس النجوم التي بها يهتدون، ويعرف قسمتها ومقياسها وأثمانها، وأثمان الربيع، والسدس منها، كان أهلنا يعرفونه ويعرفون مكانه قبلنا، ويرجعون له فيما يخص خلافاتهم على الماء أو على النخل أو حتى قيمة «الاستطناء» في الصيف، وأسعار بيع الثمار وأجود الرطب.
شخصياً كان لي هادياً في سيرة المكان، فتلك الواحة التي كانت تتقاسمها وجوه كثيرة لا تمحى من قاع ذاكرتها الصلصال، «الوالد سلطان» كان واحداً منها، وأبرزها، وحافظ خبرها.
كان في البداية مع «ابن هلال الكويتي» ومع «راشد العرّيف»، وفي عام 1968 عينه الشيخ زايد، يرحمه الله، مسؤولاً عن أفلاج العين، ومع بداية النهضة والتطور وتغير ملامح تلك القرى الجميلة حول العين ووسطها، ودخول العمران والكهرباء، تحرك المكان، وتحركت ذاكرته نحو أفق جديد، وبدأ الناس يهجرون المكان القديم ويتنازلون عنه من أجل التوسع وتمدد المدينة، بقيت العين القديمة ونخيلها الأزلي تقاوم وحدها، فقبلها كانت حيّةً شتاء بأهلها، وصيفاً بالحضّار من أهل الساحل، وكانت سكيكها لا تخلو من دبيب أقدام رجال ونساء ولعب أطفال، و«حِيّا» صبايا، وأفراح عيد.. تهدمت بيوت الطين، وانقشعت العرشان والحظر، وانهارت جدران النخيل، ويبست بعض مياه الأفلاج، وظلت تشكو «اللوميّه، والسفريّله، والنارنج، وبقلة الدّحَالة، وشجرة التين، والهمباه، والزيتونة، وعريشة العنب، والسِمْنّة والسدرة الزخميّة» من غياب الأهل الطيبين، والنخل القديم بدأ يستشعر فقدان الناس وحسهم وضجيج حضورهم، النخلة تستشعر الوحدة، ولا تعرف أن تصفها إلا بالشروع في الموت، وحدها من يمكن أن يقتلها هجران الناس أكثر من شح الماء، وهروب الظل.
بعد سنوات عادت بي الذاكرة باحثاً عن وجوه غيبتها الحياة، وأبعدتها المدنية، وتماهت مع الأسفار، والبعد عن المنزل الأول، عدت لأني كنت بحاجة للذاكرة الصلصال، وبحاجة إلى أن لا تفلت الأمور من بين أيدينا، ولكي نوثق للأجيال الجديدة، الغائبة والمغيبة شيئاً من رائحة الأمس، بحثت عمن كنت أعرف، لعلي أقبض على ما بقي منهم ومن ذاكرتهم، واستحضرتهم في فيلم «في سيرة الماء والنخل والأهل» والذي كان الوالد «سلطان الكويتي» أيقونته، سرت معه يوماً كاملاً، ويوماً متقطعاً، ويوماً ذاكراً ومستذكراً، مستفزاً ذاكرته التي كانت قوية قبل ست سنوات، ولم أقل له من أنا، لأني لا أريد أن أفسد عليه متعة الاسترسال، وذلك البوح الجميل عن الناس والمكان، وحين قاربنا على الانتهاء أو كدنا، بدأت أدخل في تفاصيل عميقة، كان يحبها، ويحب من يعرفها أو أقلها يستذكرها معه، فرفع عصاه الثقيلة وكان جالساً على حافة عمود الفلج، وقال: «أنت وراء رأسك علوم كثيرة، خبرني من أنت»؟ قبلت رأسه، ولم أقطع أمر التصوير، وكانت لحظات من التجلي، سجلنا الكثير بعدها في الحياة وأخبار الناس، وما طرأ على ذاكرة المكان.. لك الرحمة، فقد أبكيت عيني مرتين، يا حارس ذاكرة الماء!