إنْ عددت البلدان وعديتها، فسيكون المغرب بكل تجلياته وألقه وأرقه حاضراً، وإنْ زهت المدن وتعالت، فمدن المغرب بكل أبعادها الجغرافية وعميق الأشياء التي فيها ستكون هي الزاهرة، وللنفس أسرارها، صغيرها وكبيرها تكفي من الأشياء المغربية التي بقيت لذتها في الحلق منذ أول مرة، حينما استطعمت «الآتاي بالنعناع»، بقطع السكر القمع، والذي نسميه في دارجتنا «البلوي»، ولا أخفي عليكم كنت أستمتع بكاسات «الآتاي» وطقوسه في الصب والسكب والفناجين المزخرفة الملونة والصواني الفضية اللامعة في كل وقت، حتى أنني حزنت عليه حين ودّعت المغرب، وبقي صوعاً في الرأس، كذلك من بين الأشياء الجميلة التي تركها المغرب في النفس، وخفت أن أفتقدها في يوم من الأيام روائح الأندلس التي أعشقها، وما زالت ماثلة هناك، يومها كنت لا أدري هل سأتمكن من العودة لهذه الديار؟ ومتى؟ وكيف؟ وهل يمكن أن أبحر باتجاه جبل طارق إلى حواضر الأندلس التاريخية يوماً ما.
عرفت كيف تختلف المدن في المغرب، وأن كل واحدة لها سحرها وحضورها وتفردها، امتدت تلك الرحلة قرابة ثلاثة أسابيع، تمكنت من رؤية معظم المدن بطول وعرض المغرب، من طنجة إلى تطوان إلى الرباط والدار البيضاء، والمدن الصغيرة، غير أن تلك المدن الثلاثية المتشابهة، والمتقاربة تاريخياً، فاس ومكناس ومراكش، بقيت بروحها الصوفية أقرب للصغير المريد في عتبات التصوف، ونشدان السبحانية، والمشي بقدم حافية تسبقه البسملة والحمد بالأشياء، هناك بدأ يكبر ذلك الظل الصوفي متتبعاً قطب المعرفة، ورائحة المسك التي عبقت في يديه.
كان دفتري المدرسي البني غير المسطر قد امتلأ بالمشاهدات والتفاصيل بذلك الخط الصغير المنمنم، عن وجوه سابحة في النعم، وجوه هاربة من الوقت، وجوه تجزم أنها كانت فقيرة حد العظم من أزل التاريخ، وستبقى، وجوه نسائية أقرب للأندلسيات في تخيلات الصبي القارئ، وأقرب لنسج حكايات من الشرق، وأجمل من نساء فناني لوحات الاستشراق، المفعمات بالصحة وترف العافية، ما زال ذاك الدفتر البني الصغير يرجعني كلما مضى وقت إلى تلك الرحلة الجميلة التي لن تتكرر، لأنها كانت بدايات الدهشة المبكرة.
وكان من فضل هذه الرحلة التي لا أنساها، أنني تعرفت على شخصيتين صعب أن تغادرا الذاكرة بسهولة، على الرغم من أنهما توالتا في المغادرة عن دنيانا، الأولى «روضة المطوع»، الله يرحمها، إحدى النساء القياديات والرائدات في الإمارات، ويومها كانت مسؤولة عن مرشدات الدولة، والشخصية الثانية هو الشاعر والباحث العُماني «ناصر بن علي البلال»، يرحمه الله، ويومها كان نائب مدير مدرستنا، وأحد المسؤولين عن الرحلة، لكن في تلك الرحلة انبرى كشخصية مثقفة ومبدعة بعيداً عن الصرامة المدرسية، لقد تركت تلكما الشخصيتان شيئاً جميلاً في نفس الطالب يومها، لذا ظل يذكر المعروف لهما رغم غيابهما، واليوم وقد حضرتا دون استدعاء، وجب التذكر بحنين، والترحم ختمه آمين، فالنفوس الطفولية تظل تتذكر ولو خيطاً بسيطاً من الضوء والمعروف، وإسداء الإحسان ولو كان حرفاً من المعرفة والنور.
بعد تلك الرحلة كم ذهبت إلى المغرب، ونسيت العد، وكم بقيت أنتقي مدناً بعينها لتكون وجهتي لها دون غيرها، وغاب عني العد، لكن تبقى الرحلة الأولى لها تلك الدهشة، وكثير من الحنين، يكفي أنها شرفتني بمعرفة المغرب وأصالته، وبشخصيتين رائعتين، وبتلك البصيرة التي تفتحت على أجواء، وشرفات ومكامن للمعرفة والحب والناس الجميلين، أمثال فرقة «جيل جلالة» و«ناس الغيوان» و«الطيب الصديقي»، و«أحمد الطيب العلج»، وكتّاب حملت إنتاجهم في حقيبتي، وأشياء كثيرة لو أعدها الآن ستجرح الحلق بالتأكيد أو تستدعي الدمعة أو شهقة الفرح لتلك الدهشة المبكرة نحو المغرب.