في مجتمع يعيش حالة إبداعية مستمرة، تتدفق مثل الجدول بين الأشجار، لابد وأن يبرز ذلك الإنسان التاريخي الذي نطلق عليه إنسان التنوير، لأنه من خلال كشح الصدأ عن الذاكرة يستطيع أن يرى النور، ومن خلال رؤيته للنور يستطيع أن يتفوق على آخرين لم تزل جفونهم تفرك نعاس البارحة، وعيونهم مغشية بظلام ليلة دامسة، مدلهمة غارقة في بدائية مهيبة، وأحلام مريبة.
بعض التنويريين اعتنقوا التنوير بداهة، وانغمسوا في طاسة تطفح بحثالة ماء، تم استخدامه لغسل اليدين، وتنظيف فناجين قهوة أسودت أطرافها.
ما يحدث أن هؤلاء غطوا في الحلم وصدقوا ما حلموا به، فباتوا على صراط الوعي مخضوضين، متوترين، كمن يمشي على حبال زلقة، الأمر الذي يجعل الخوف هو الوسيط الذي يمد أيديهم إلى الآخر، والنتيجة يصبح من المستحيل تحقيق التصالح مع النفس ما دام الشعور بالخوف هو السيد الذي يجلس خلف النافذة حاملاً عصا التهديد، وبين الفينة والأخرى يوشك أن يهوي بالعصا على رأس الخائف، الملتد، المأزوم، المكظوم، المحاصر بين فكي خوفه، وضعفه النفسي.
أمثال هؤلاء «التنويريين» أشبه بالأطفال، إنهم يرسمون صورة وحش على صفحات ورقية، ثم يهرعون إلى ذويهم يطلبون النجدة، صارخين بأن وحشاً ضارياً يهددهم بالموت. الشخص التنويري هو شخص تاريخي، هو خارج أطر اللحظة المرتجفة، هو كائن متحرر من أمشاج الصور المنعكسة لواقع وهمي، خرافي نسجت خيوطه عقلية لم تتخلص بعد من ظلال الخلفية لجدران متهاوية يظن المرجفون أنها تخفي وراءها كائناً ما مفترساً.
الشخص التنويري هو إنسان يعيش صفاءه، ونقاءه، هو إنسان لا توجد في داخله تلك المتناقضات الرهيبة والتي تجمع الله والشيطان في قالب واحد، والتي توحد السالب والموجب في قسمة رياضية واحدة، والتي تجعل من اليقين كائناً أعمى، يرمي بشرر، ومن الوهم نقطة مضيئة عند نافذة تطل على العالم.
الإنسان التنويري، مخلوق لأن يكون مصباحاً يضيء سماء الآخرين ولكن من دون نفخة البالون، ومن دون التلحف بسحابات داكنة، ومن دون استخراج اللغة مثل مكعبات لعب الأطفال، ومن دون الادعاء، ومن دون الجلوس على جناح طاؤوس مريض، أو من دون استعمال مساحيق التجميل، التنويري الحقيقي هو إنسان ببساطة الصحراء، وعفوية الطير، وفطرة الشجرة.