بارتفاع مائتين واثنين وخمسين متراً، يقف برج الدانوب منتصباً كأنه الخيط المعقود ما بين الأرض والسماء، ليحكم زمام الغيمة، ويسابق الطير شموخاً ورسوخاً.
هناك وقفت وتأملت وقرأت تفاصيل فيينا، وعرفت مفاصلها، هناك شعرت أن الزمن يتوقف، والعالم ينحني لهمسة من ملاك خفي هزت وجدان الكون، وارتعدت فرائس النهر وهو يستمع إلى حديث الشجرة العملاقة مع العصافير قبل الغروب، محذرة إياها من تأجيل العودة إلى الأعشاش، فالليل مزدحم بالأخطار.
رأيت بأم عيني كيف يعانق النهر أجساداً شفها الحر، وكيف يقبل شفاهاً ليبلل رضابها.
سخية هذه الحياة، إذ تنعم على الناس بمشاهد الطبيعة الخلابة، سخية هذه الحياة إذ يتجلى من خلالها الجمال في روحه وبوحه، وبعض جروحه اللذيذة.
حاولت أن أطيل المدى، وأنتظر كيف تغرب الشمس عن برج الدانوب وهو الشاهد على الشروق في كل يوم، وهو القابض على جمرة اللظى في لحظة عناق وجودي أصيل.
حاولت أن أطيل الوقوف في الشرفة المؤدية إلى المدى، ولكن كان الزمن قد أزف، ورفاق الدرب أعلنوا الذهاب إلى مكان آخر، كانت هذه ورطتي في تعلقي مع مشهد الوجود الخالد، وهو يرتل أغنيات الحياة بنزاهة القديسين، وكهنة المعابد السرية، وعشاق القصيدة العصماء.
يقولون الحب أعمى، وهذه معضلة البشر عندما لا يرون غير رونق اللحظة المباغتة، ولكنهم في المجمل هم صناع الكذبة عندما لا يعرفون عن الحب سوى لحظته الفانية بين أضلع مزقتها الأنانية.
الحب وعي بالذات، وعي بالآخر، وإدراك لما تحمله النبضة الأولى من رجفة، ثم زلزلة، ثم انثيال جميل بين ذاتين.
هكذا وجدت برج الدانوب، وهو يستخلص من علاقته بالوجود، كيف يعانق المدى، وكيف يهمس لشجرة الصنوبر، ويحكي لها عن قصة الانفجار الأول عندما قذفت الجمرة الأولى، لتتكون الأرض، ويكون الإنسان في البدء حابياً، ثم ساعياً، ثم ذاهباً إلى العشب بقدمين، ورأس يصون توازنه في الحياة.
هكذا وجدت برج الدانوب، كيف يكتب بالماء على التراب اسم أول طير حلق فوق شجرة الصنوبر، وأول إنسان صنع فأسه بيده، وأول امرأة أنجبت شبلاً من ذاك الأسد الذي تعلق في الشجرة، حتى فكر في زراعتها، ومن ثم كانت الحكاية مع من يملك، ومن لا يملك، وحتى يومنا هذا والبشرية تعاني من ورطة أول خطيئة في التاريخ، وهي صعود الأنا إلى سطح الماء، وإغراق قوارب الإنسان بالأنانية.