أين هم؟ منذ الليلة الأولى لحلول شهر رمضان وعلامة استفهام عملاقة بحجم الغياب الذي سببه بعضهم لنا، غياب أشبه بعتاب الحياة للموت، وغياب أشبه بحفرة عميقة تمر حول غرفة نومك.
عندما تمت إذاعة خبر حلول الشهر الكريم، على الفور قفزت صور ووجوه إلى مرآة العقل، حاولت تحاشي المثول أمام هذه المحكمة التاريخية السنوية، ولكن شيئاً ما كان يجذبني نحو المرآة، شيء ما كان يدفعني نحو الوجوه التي رمشت بجفون العتب.
وقفت بين صغار هللوا فرحين بالمناسبة، مشدوهاً، حيث هؤلاء وحدهم الذين يفرحون بالمناسبات التي تغير من رتابة الحياة، بينما الكبار ما أن يتم إعلان الخبر حتى يبدأ العد التصاعدي لعداد المحافظ، والتي لا بد وأن تفتح فوهاتها من أجل تلبية مطالب اللاتي لمجرد التأكد من خبر حلول الشهر، يمسكن الورقة والقلم، ويبدأن في سرد عدد الأبواب الفارغة في مخازن مطابخهن، بينما أصحاب الشوارب المفتولة يبحلقون في الشاشات ويتمنون لو أن الأمر لا يعنيهم، ولكن همسة لطيفة، وابتسامة خفيفة، ولمسة عفيفة، ربما تحرك مياه البحر الساكن وتجعل المغلوب على أمره، يصدر نحنحة، تثبت أنه الصارم الحاسم، والذي يملك مفاتيح الخير في منزل العائلة.
وجوه تشع ببريق زمن الأطباق الطائرة بين الأزقة، تحملها كفوف أنعم من الحرير، وبين هذا الزقاق وذاك، هناك مشاعر تزحلقت بين النياط، هناك كلمات ربما انزلقت عفوياً، ولكنها شقت القميص من دبر، ولم تزل تراوغ المرايا بشغب عنيف ينهك القلب، ولم تزل أنت في هذا المناخ الديني تتدحرج بين زمنين، ولا تخرج عن النطاق، لأنك يقال عنك أنت من ثلة الجيل الذي وقع بين جيلين.
أنت خرجت من مرحلة أفكار طفولية إلى مرحلة ينشأ الطفل كبيراً، تغيب عن وجهه الابتسامة، وإن حدثت فهي لمجرد المداهنة، تحاول أن تجد سبباً لغضون الجباه فلا تجد، تفكر في مدخل يوصلك إلى قلب الصغير- الكبير فلا تعثر على فجوة ولو بضيق ثقب الإبرة.
في نهاية الأمر تستسلم، وتقتنع أن زمنك هو غير زمن هؤلاء الذين لا يعرفون طريقاً للابتسامة، زمنك كان يحمل في طياته باقات فرح تضيء جوانح صدور الصغار لمجرد تغير دقات عقارب الساعة في اليوم الواحد.
في صباح الإجازة المدرسية، تجد ابتسامة الصغار بسعة أحلامهم، في الأعراس، في الأعياد، وفي مختلف المناسبات، يكون الفرح في عيون الصغار هو القيثارة التي تلحن مشاعر الوجود.
اليوم الأمر يبدو على خلاف ما يتمنى الأمر، لأن إدراك الفرح في أيامنا هذه يحتاج إلى أطفال بجينات مغايرة لما هي عليه جينات الغرف المغلقة، والبحلقة المستدامة في «أجهزة الخراب».
سلوك عام تغير، فتبعه تغير جذري في المشاعر، ولا يبق أمام المتأمل في المشهد سوى استدعاء وجوه لتتوارى وجوه، ولو لمجرد الاتكاء على لعبة الخيال.