بعد وقت من بداية الحجر الصحي، وقف الشاب وحيداً عند قارعة طريق، يهذّب مشاعره، وينظر إلى الأفق البعيد بعينين غائرتين، وقلب خفق بالحب لهذه الطيور التي حلّقت في الفضاء، كقصاصات ورقية ملونة، وهفهفت بفرح وهي تلامس شغاف الوجود.
كانت لحظة أبدية محمّلة بعبارات الخوف من شيء ما قد يداهم زمنه وهو يصد كل القرارات التي يبثها ضمير القانون، كي يحمي الصدور من الهجمة الغاشمة لعدو شرس. لم يكن في الشارع العام من حركة، سوى تلك التي تصدر عن رجال التعقيم، والدائبين على الحماية، والرعاية، والعناية.
كان الشاب يقف وحيداً مختفياً وراء القماشة الزرقاء، ومكبلاً يديه بقفازين. لمح على بعد مسافة قريبة سيارة شرطة تجوب المكان، فاستبدت به رغبة الاختفاء، ولكن المكان كان عارياً من أي حجب تخفي جسده، فاستعد للهروب، ولكن إلى أين؟ عندما فكّر في إدارة محرّك سيارته بيد مرتعشة، وقلّت حيلته حيث اقتربت منه السيارة متوهجة بلون الضوء الأزرق، الذي كان يلوح بالسلام لكل من يرتاد الأمكنة الخارجية في مثل هذه الساعات الحرجة.
حاذته سيارة الشرطة، واقتربت منه على بعد مترين، ونظر إليه ببزته العسكرية المهيبة، وأمده بابتسامة أشرقت تحت ضوء المصابيح الليلية، مثل بريق الأحلام الزاهية، ثم مدّ له ورقة كانت بمثابة المخلب كما ظنّها، ولمّا تناول الورقة وصار يتأملها بعينين دامعتين، رفع بصره، وشيّع رجل الشرطة بابتسامه بهية، وقال بلهجة ضارعة: شكراً.. شكراً لهذا الوعي الذي وسع من حدقة أحلامنا، وأمدّ بصيرتنا بعذوبة الأنهار، وشهامة الكبار، ونبل الأقمار، وكرّر شكراً، شكراً لكم أيها الأبطال.
وأدار محرك سيارته بطمأنينة وفخر، ولم يطو الورقة، بل ظلّ  يتلوها بلسان عربي فصيح، «خلّك في البيت»، هذه العبارة كانت تلمع أمامه، كما هي النجوم التي يستدل بها عابر السبيل إلى مأوى الأمان، وموئل السكينة والرضى.
في البيت وهو يضم الورقة، صار يقرأ العبارة، ويكرّر قراءتها، ويقبل الكلمات بشفة لمست طعم الحبر كأنه الرضاب، وأحس هو بطعم الحب، عندما يكون مثل الفراشة تخفق بجناحين على أكمام وردة برّية. لم يترك الفتى الورقة في مكان ناء، بل علّقها على مشجب القلب، وصار يسرد القصة لذويه، ويحكي رواية رجل من فريق العمل الأمني، أنه استطاع في برهة أن يحوّل مشاعره من قناة مائيّة مالحة، إلى جدول يغسل شغاف الطير بعذوبة الضمير الإنساني، والذي ما إن يمر على القلوب، حتى تصبح بساتين تين، ورمان، وليمون. يصبح الإنسان في هذه الربوع، نخلة لها عناقيد الانتماء إلى وطن سماته الحب.
وبعد فترة وجيزة شوهد الفتى في الشارع يحمل راية «خلّك في البيت»، ويهتف هنا تبدأ الحياة، وهنا نستمر في العيش السليم، هنا نحن جميعنا وطن واحد، بقلب واحد.